وثائق وبيانات

التقرير السياسي الصادر عن الاجتماع الاعتيادي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي تشرين الثاني 2014

عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يوم الجمعة 14 تشرين الثاني 2014 اجتماعها الاعتيادي الدوري. وسبقت الاجتماع تحضيرات واسعة شملت منظمات الحزب ولجان الاختصاص، والتئام اجتماع للمجلس الاستشاري المركزي للحزب، واقامة فعالية فكرية واسعة عن الطائفية السياسية، وانعقاد اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني.
بدأ الاجتماع اعماله بالوقوف دقيقة صمت تكريما للشهداء وضحايا الارهاب والعنف من ابناء شعبنا، وللراحلين عنا من اعضاء الحزب واصدقائه في الاشهر الماضية. واستذكر المجتمعون ايضا القائد الشيوعي الرفيق وضاح عبد الأمير (سعدون ) الذي انعقد اجتماعهم في عشية الذكرى العاشرة لاستشهاده، وحيّا مأثرته النضالية ووفاءه للحزب والشعب والوطن.
وبروح المسؤولية العالية والحرص على عمل الحزب والارتقاء به وبدوره في الحياة السياسية، كي يتمكن بنحو افضل من الدفاع عن مصالح الشعب والوطن العليا، والانتصار لقضايا الكادحين وشغيلة اليد والفكر والمحرومين، درس المجتمعون عددا من التقارير الانجازية التقويمية المتعلقة باداء الحزب وقيادته وماليته، واداء لجان الاختصاص ومنظمات الحزب في الوطن وخارجه.
واولى الاجتماع اهتماما فائقا لتحسين العمل القيادي على مستويات العمل كافة، ولتوسيع مساحة تفاعل الحزب مع الوسط الجماهيري وتأثيره عليه، والعمل على بناء منظمات حزبية فاعلة ومبادرة، تعيش هموم الناس اليومية وتدافع عن مصالحهم وحقوقهم وطموحاتهم، واتخذ قرارات وتوصيات في هذه الشؤون.
وجددت اللجنة المركزية بالاجماع الثقة بسكرتيرها الرفيق حميد مجيد موسى، وانتخبت الرفيق رائد فهمي نائبا للسكرتير، كما انتخبت المكتب السياسي للجنة المركزية.

تطورات المشهد السياسي

ركزت اللجنة المركزية في مداولاتها على التطورات السياسية في بلادنا منذ اجتماعها السابق في ايار 2014، واشارت الى ان الفترة الزمنية المنقضية تميزت باحداث كبيرة تركت بصماتها على مجمل المشهد السياسي. وتمثل هذا خصوصا في اجتياح تنظيم الدولة الاسلامية ، داعش لمدينة الموصل، وتمدد عصاباتها الارهابية من ثم الى محافظات ومدن اخرى في وطننا العزيز. كما تمثل في مخاض تكوين الحكومة الجديدة واستكمال تشكيلها، غداة الانتخابات البرلمانية التي انبثق عنها مجلس نواب لا تجسد تركيبته شعار التغيير الذي رفعته الجماهير والقوى المدنية والديمقراطية. فجاءت الحكومة ثمرة لتلك النتائج الانتخابية، وللتغيير الجزئي الذي عكسته، والذي فتح كوة امل لا بد لاتساعها وانفتاحها على فضاءات ارحب، من رعاية وعناية ومن توفير جملة اشتراطات واعتماد نمط تفكير جديد.
وشكّل هجوم داعش على الموصل في 10 حزيران 2014 وما تبعه من انهيار مفاجيء للوحدات العسكرية المرابطة في المدينة، ثم تمدد الهجوم سريعا الى حدود شمال بغداد، منعطفا مهما في الوضع السياسي العام للبلاد. كما كانت له تداعيات عسكرية - امنية، وسياسية- اجتماعية، ومعنوية - نفسية على المواطنين، وعلى المجتمع بعمومه. ذلك ان منتسبي القوات العسكرية والأمنية انسحبوا من دون مقاومة امام مجموعات مسلحة تقل عنهم كثيرا في العدد والعدة، وتخلوا لها عن كميات كبيرة من شتى أنواع الأسلحة والاعتدة، بما فيها اسلحة ثقيلة تشمل عشرات الدبابات والمدرعات والمدافع وغيرها.

الانتكاسة الأمنية- السياسية في العاشر من حزيران

اعتبر حزبنا عن حق هذا الحدث فاصلاً، حيث أن عراق ما بعد العاشر من حزيران لا يمكن ان يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك التاريخ، من دون حدوث تغييرات حقيقية في النهج السياسي، وفي العلاقات ما بين القوى السياسية المؤثرة في المجتمع وفي عملية بناء الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وعلى صعيد اعادة لحمة النسيج الوطني العراقي، بعيدا عن خطاب وممارسة التمييز والاقصاء والتهمش والاستفراد بالسلطة والنفوذ.
فالسقوط الكارثي للموصل تحت سيطرة الدولة الاسلامية - داعش، ووضع التنظيم الارهابي اليد على مواردها، وتحكمه باهاليها وممتلكاتهم، وتوالي الانهيارات العسكرية إثر ذلك، كل هذا منحه زخما قويا مكنّه من تحقيق تقدم على صعيد الأرض في مناطق وقرى وبلدات سهل نينوى، حيث اجتاح معظمها وسيطر على سنجار وبطش باهاليها الايزيديين. وقد قاومت مجموعات منهم عصابات داعش، التي ردت بمحاصرتهم وارتكبت بحقهم واحدة من أكبر المجازر والمآسي الانسانية. وطالت الممارسات الوحشية اهالي تلعفر الذين كانوا قد فروا نازحين إلى سهل نينوى، كذلك الشبك والمسيحيين واهالي السهل جميعا على اختلاف انتماءاتهم واصولهم القومية والدينية والمذهبية. وحقق داعش ايضا اختراقات مهمة في محافظتي صلاح الدين وكركوك، وتقدم حتى استولى على بلدة مخمور مشكلا تهديدا خطيرا لاربيل، وتمددت عصاباته لتحقق اختراقات وتحرز مواقع في الأنبار وديالى وشمال بابل وحتى في حزام بغداد.
وارتكب التنظيم الارهابي ومن تعاون معه وآزره، جرائم وفظائع اتصفت بوحشية لا نجد مثيلها إلا في العصور الغابرة. وكان من أبشعها واكثرها انتهاكا للقيم الانسانية الاساسية، اقدامه على سبي مئات النساء الايزيديات وبيعهن في سوق النخاسة وتعريضهن للتعذيب والاغتصاب الجماعي وغير ذلك من الممارسات الاستعبادية، وقيامه بذبح وسفك دماء المئات من رجالهم، والاستيلاء على جميع ممتلكاتهم، ما سبب الهجرة الجماعية لعشرات الآلاف منهم في ظروف مأساوية.
ولم ينج طيف من اطياف العراق من جرائم اوباش تنظيم الدولة الاسلامية - داعش، حيث طالت ابناء شعبنا من المسيحيين الذين فرضوا عليهم الجزية واستولوا على ممتلكاتهم الشخصية وأرغموا عشرات الآلاف منهم على النزوح. كما مارسوا وحشيتهم بحق اهالي النواحي والقرى العربية بدوافع طائفية، وقاموا بارتكاب مجزرة رهيبة يهتز لها الضمير الانساني، بحق حوالي الفي شاب في قاعدة سبايكر. وشملوا بجرائمهم عموم اهالي المناطق المغتصبة، وفرضوا عليهم كل ما هو متخلف وغير انساني.
وجاء سقوط مدينة الموصل كاشفا لهشاشة وخواء بناء المؤسسة العسكرية، ولعمق الهوة بينها وبين أهالي المناطق الذين شكل بعضهم حواضن لقوى الارهاب ولاعداء العملية السياسية. فيما واقع مؤسسات الدولة المدنية ليس بافضل، حيث ينخر فيها الفساد وسوء الإدارة.
وفي الاقليم وسهل نينوى، وعلى الرغم من اداء البيشمركه الأفضل نسبيا، لم ترتق مقاومتها إلى مستوى سجلها النضالي وتجربتها الطويلة في الكفاح المسلح ضد الانظمة الدكتاتورية. فقد انسحبت بشكل سريع وغير متوقع من بعض المواقع في سهل نينوى وسنجار وزمار، لتحتلها قوات داعش وتعيث فيها قتلا وتدميراً. وإذا كان تفوق داعش في العدد والسلاح يفسر جانبا من هذا التراجع الموقت، فإن هناك عوامل أخرى لعبت دورها، ومنها غياب التنسيق والتعاون بين مختلف فصائل وقوات البيشمركه، وهو ما يعكس التجاذبات بين الاحزاب الكردستانية المتنفذة خاصة، والمنافسة الحزبية الضيقة، وضعف اليقظة، والترهل، واعتماد الولاءات الضيقة على حساب الكفاءة. فهذه الظواهر والعوامل مجتمعة هي المسؤولة عن الخلل في الاداء، وعدم القدرة على مقاومة هجوم داعش.

أوضاع أبناء المناطق المحتلة من قبل داعش

يعاني اهالي المناطق التي تسيطر عليها داعش من صعوبات بالغة الشدة وظروف مأساوية في ظل اجواء قاهرة من ارهاب وخوف وأحكام ظلامية استبدادية. ففي الموصل تحولت الجامعة إلى ثكنة عسكرية لمسلحي تنظيم داعش، وتم الفصل بين الذكور والأناث، والغاء كليات الحقوق والعلوم السياسية والفنون وكل دروس الديمقراطية والمدنية، وانخفض عدد الطلبة كثيرا بسبب خوف الأهالي على ابنائهم وبناتهم، وعزوفهم عن ارسالهم إلى الجامعة، فيما تفرض على الطلبة قيود شديدة، ويراقبهم مسلحو داعش ويخطفون الفتيات. وعلى صعيد الحياة العامة، فان الاشغال مشلولة بصورة تامة، واستلام الموظفين رواتبهم متوقف، والقطاع العقاري في حالة انهيار، والكثيرين لم يعودوا قادرين على دفع الايجار. فيما العديد من الدوائر مغلق، خاصة منها ذات الصلة بالعقارات، وقد استولى افراد داعش على بيوت المهجرين المسيحيين ومسؤولي الدولة السابقين، وصاروا يقيمون فيها. فضلا عن ان هناك شحة كبيرة في المواد الغذائية، وفي تجهيز الكهرباء والماء، وضعف في الخدمات الصحية.

ردود الفعل الداخلية

وقد أدى التقدم والتمدد السريع لداعش إلى رفع خطورة التحديات والتهديدات التي لا تواجه العملية السياسية الديمقراطية وحسب، وإنما تعرض النسيج الوطني العراقي كله للتمزق، ووحدة كيان الدولة العراقية للانقسام. علما ان هجمة قوى الارهاب والظلام تهدف في النهاية إلى العودة بالعراق إلى ما هو اسوأ من عهود القهر والاستبداد التي عرفها في الماضي، ليكون تحت حكم قوى ظلامية وحشية. وما يزيد من خطورة الحال ان قسما كبيرا من المؤسسة العسكرية انهار، والمعنويات فيها ولدى اوساط غير قليلة من أبناء شعبنا تدنت.
كانت ردود فعل الحكومة السابقة إزاء الهزيمة في الموصل بعيدة عن الاتزان، وقد حاولت التخفيف من وقع تلك الهزيمة والتعتيم على حقيقة ما جرى، خصوصا في تحديد مسؤولية القادة، ومن منهم اصدر أوامر الانسحاب وما تبعه من انهيار. وبدلا من محاسبتهم جرى تحميل المسؤولية إلى القادة الميدانيين، الذين اتهموا بالتخاذل والخيانة. ولم تكشف حتى هذه اللحظة،الحقائق المتعلقة بتفاصيل ما حدث ومن يقف وراء الانهيار.
وكان رد فعل المرجعية في النجف هاما، حيث سارعت إلى إصدار فتوى الجهاد الكفائي تصديا لقوى الارهاب وعصابات داعش، ما دلل على ادراك حجم المخاطر التي كانت تتهدد البلاد نتيجة التداعي في القوات المسلحة والتقدم السريع لداعش. وقد تحققت استجابة واسعة للتطوع، وجرى ضم اعداد كبيرة من المتطوعين إلى تشكيلات القوات المسلحة. لكن الأعداد الأكبر تم تجنيدها في اطار الجماعات المسلحة المرتبطة ببعض احزاب وقوى التحالف الوطني. ووفقا لبعض المصادر ظهر إلى الوجود أكثر من عشرين جماعة مسلحة جديدة لتأطير المتطوعين المذكورين واحتوائهم وتدريبهم، وارسالهم للقتال في محاور المواجهة مع داعش ضمن ما اصبح يعرف بالحشد الشعبي.
لقد لعبت الاستجابة لدعوة التطوع دورا ايجابيا مهما في استنهاض الروح المعنوية والاستعداد للتصدي لداعش وقوى الارهاب ومقاومتها، حيث شكلت فصائل الحشد الشعبي وتشكل القوة الأساسية في مواجهة التنظيم الارهابي، الى حين تمكن الجيش والقوات المسلحة من استعادة تماسكها واعادة هيكلة وحداتها وتحسين تسليحها. وقد قدمت قوات الحشد الشعبي بالفعل اعدادا كبيرة من الشهداء، وساهمت بصورة فعّالة إلى جانب الجيش وقوات البيشمركه، في ايقاف زحف داعش واسترجاع بعض المناطق منها وانزال خسائر كبيرة بها.
الا ان بعدا طائفيا طغى على صورة وطابع الحشد الشعبي على حساب البعد الوطني الشامل. وحدث ذلك رغم التحذير المسبق من توظيف الحشد طائفيا وحزبيا، واخراجه من اشراف وسيطرة الدولة واجهزتها. علما ان هناك تحفظا من جانب ابناء المناطق الغربية او ترددا في الانضمام اليه، اضافة الى اقدام مجموعات وعناصر فيه على ممارسات وتسلكات وتجاوزات وانتهاكات طائفية. وبعض تلك العناصر مشبوه، تسلل إلى صفوف فصائل الحشد وارتكب ما ارتكب بحق بعض الاهالي في مناطق القتال ضد داعش. وقد اساء ذلك ويسيء إلى صورة الحشد الشعبي، وألحق ويلحق الضرر بالمساعي الرامية إلى تجفيف حواضن الارهاب، واستمالة اقسام من أبناء تلك المناطق إلى التعاون مع الدولة في مكافحة داعش، أو تحييدها. وقد جرى الانتباه الى الامر فتم التشديد على ضرورة تنقية الحشد الشعبي من العناصر غير المنضبطة، والدعوة إلى جعله جامعا لابناء مختلف اطياف الشعب، وعلى التطوع ضمن صفوف القوات المسلحة.
وكان بين المتطوعين اعضاء في حزبنا ومن اصدقائه، وقد انضموا إلى أفوج الحشد الشعبي التي تشرف القوات المسلحة عليها وتقوم بتدريبها وتسليحها. وبادر اعضاء آخرون في الحزب، في مناطق تواجد ونشاط الحركة الانصارية سابقا، والتي سيطر عليها داعش أو اصبح يهددها، إلى تشكيل مجموعات انصارية بالتعاون مع رفاقهم في الحزب الشيوعي الكردستاني، والى التنسيق مع قوات بيشمركة الاقليم ومع وحدات الجيش عند تواجدها.
وكانت مساهمة البيشمركه واضحة بعدما استعادت زمام المبادرة، وهو ما تجلى في العديد من المناطق التي اغتصبها داعش، حيث ساهمت في تحرير سد الموصل وسليمان بك وآمرلي وجبل سنجار وربيعة وزمار وغيرها.

ردود الفعل الدولية

لم تكن تحركات التنظيمات الارهابية وبضمنها داعش في الساحتين السورية والعراقية، غائبة عن أنظار الولايات المتحدة وحلفائها واجهزتهم المخابراتية واقمارهم الصناعية الموجهة إلى المنطقة. فلا يجوز اغفال دور ومسؤولية الاجهزة المخابراتية للولايات المتحدة والعديد من بلدان الجوار. حيث كان المسؤولون الامريكيون، باعترافهم، على معرفة بانتقال اعداد متزايدة من العناصر الارهابية لداعش ومثيلاتها من اراضي سوريا إلى الاراضي العراقية، واقامتها معسكرات تدريب منذ العام الماضي، من دون ان تتخذ اي اجراء ضدها. ولم يخف الرئيس اوباما نفسه هذه الحقيقة، وبرر ذلك بالقول انهم ارادوا به تكثيف الضغط على حكومة رئيس الوزراء السابق.
الا ان سقوط الموصل وسيطرة داعش عليها وتقدمها في مناطق أخرى من العراق، وتهديدها أربيل واقترابها إلى بعد بضع عشرات الكيلومترات من بغداد، وطلب الدعم الذي تقدم به كل من الحكومة الاتحادية والاقليم، كل ذلك دفع الولايات المتحدة الى التدخل، ونشر غطاء جوي وتقديم امدادات عاجلة بالسلاح والذخيرة إلى الجيش العراقي والبيشمركه، وارسال المستشارين لتدريب القوات، والمشاركة في وضع خطط لمواجهة داعش. وبموزاة ذلك تحركت الولايات المتحدة لتشكيل تحالف دولي واسع، فيما اصدر مجلس الأمن الدولي القرارين 2170 و2178 اللذين يضفيان الشرعية على تقديم مساعدة دولية لدعم العراق، وعلى فرض عقوبات بحق الدول التي تسمح بوصول دعم مالي للتنظيم الارهابي وبانتقال منتسبيه عبر اراضيها، او التي تشتري منه النفط وتقدم له التسهيلات اللوجستية.
وانضمت إلى هذا التحالف دول الخليج ودول عربية اخرى، في حين استبعدت ايران التي رفضت حكومتها لاحقا المشاركة في التحالف، كما بقيت روسيا خارجه مشككة في اهدافه الحقيقية. فهي، شأن ايران، ترى انه يستهدف سوريا ويسعى الى تغيير نظامها. اما تركيا فقد نأت بنفسها عنه واضعة شروطا عديدة لانضمامها اليه، ومؤكدة بذلك عدم وجود رغبة جدية عندها في محاربة داعش، ومعززة الاتهامات الموجهة اليها بتقديم المساعدات للارهابيين وتسهيل مرورهم عبر اراضيها إلى سوريا والعراق. لكنها رغم ذلك سمحت، تحت ضغط دولي وبشروط معينة، بانتقال عدد من البيشمركه الى عين العرب  كوباني السورية للدفاع عنها ضد تنظيم الدولة الاسلامية  داعش.
اسباب الانتكاسة، نتائجها، تداعياتها

ان ما حدث في الموصل يتجاوز كونه هزيمة عسكرية مجردة في معركة ضد الارهاب. فالانهيار جاء حصيلة مجموعة من العوامل والمسببات، المركبة والمتداخلة، الخارجية والداخلية. وهذه العوامل وثيقة الصلة بما هو سائد في بلدنا من اوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية واعلامية ونفسية، ويكمن جذرها الأساس في نظامنا السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية، وفي العداء الذي تحمله اطراف وقوى داخلية وخارجية عديدة للعملية السياسية بأفقها الديمقراطي الاتحادي، والعمل على اسقاطها.
على الصعيد الداخلي كانت البلاد تعيش اجواء احتقان وانعدام للثقة وتزايد للشكوكية بين الاطراف السياسية، وجفاء بين الاقليم والمركز، وبين الاخير والعديد من المحافظات، وتفاقم لمظاهر التفرد والاستئثار والاقصاء والتهميش والشخصنة والتسقيط السياسي، والتهالك على المناصب والمغانم والنفوذ.
وبجانب ذلك كانت تستفحل النتائج المدمرة لنهج المحاصصة الطائفية والاثنية المتمثلة في استشراء الفساد وسوء الادارة، وما ينجم عنهما من ضعف في الخدمات وارتفاع في نسب البطالة والفقر، اضافة الى التدخلات الخارجية التي تجد لها امتدادات وزبائن في بعض القوى والعناصر المتصارعة، في ظل الاستقطابات التي تنتجها الطائفية السياسية.
وقد وجد هذا كله انعكاساته في المؤسسة العسكرية الامنية، التي يقوم بناؤها على المحاصصة الطائفية، والتي استخدمت خارج مهامها الدستورية أداةً لمعالجة قضايا داخلية. كما افتقدت العقيدة الوطنية الراسخة، وتخلخل تماسكها الداخلي، وغدت شديدة التأثر بالتقلبات السياسية، وبالتناقضات واجواء الاحتراب. وترك ذلك بصماته على كفاءتها وفاعليتها وانضباطها وجاهزيتها، وبالتالي على تمكنها من الصمود امام الضغوط الكبيرة والمفاجئة. اضافة إلى ضعف تدريب وتأهيل قواتها، وعدم كفاءة الجهد الاستخباري فيها، واتساع حالات الفساد في صفوفها.
وأكدت احداث الموصل وحالات المدن والنواحي والقرى التي اجتاحتها داعش واستحكمت فيها، ان وجود حواضنها من جهة، وغياب العلاقة الايجابية بين المؤسسة العسكرية - الامنية والوسط الذي تعمل فيه، من سلطات محلية ومواطنين، من جهة أخرى، كان عاملاً اساسيا في تمكين قوى الارهاب من الدخول اليها والسيطرة عليها. كذلك لعب ضعف التعاون والتنسيق بين قوات الحكومة الاتحادية وقوات الأقليم دورا كبيرا في اضعاف قدرات القوات العراقية والتسبب في انهيارها.
وينبغي ايضا عدم اغفال حقيقة ان داعش وقوى الارهاب الأخرى ضمت عناصر أمنية وعسكرية مدربة وذات خبرة من منتسبي الأجهزة العسكرية والأمنية والمخابراتية للنظام الدكتاتوري السابق، وان هؤلاء يلعبون دورا قياديا في تخطيط وتنفيذ عملياتها الارهابية وادارة الحرب.
لكن اختراقات داعش تعكس ايضا جمعها عناصر قوة ومراكمتها، مستفيدة من الاقتتال الداخلي في سوريا وخروج مساحات كبيرة من الاراضي هناك من سيطرة الدولة ووقوعها تحت حكم قوى المعارضة السورية المتطرفة، خصوصا في مناطق الحدود مع العراق، ما جعل هذه الحدود مفتوحة متاحة لاستغلالها من قبل داعش في حشد انصاره، وللتحرك بحرية والتنقل بين البلدين من دون عوائق. ولم تتم اعارة الاهتمام الكافي للانعكاسات السلبية للتطورات في سوريا على اوضاع بلدنا. كما ان هناك معطيات وقرائن كثيرة تؤكد حصول داعش والمنظمات الارهابية الأخرى على الدعم المالي والاعلامي واللوجستي من بعض دول الجوار .
بعد العاشر من حزيران اتسعت رقعة الأراضي التي تسيطر عليها داعش، وشملت مدنا ونواحٍ وقرى مهمة تتوزع اساسا على خمس محافظات (نينوى، صلاح الدين، الأنبار، كركوك وديالى)، ويقدر حجمها بثلث مساحة العراق وخمس سكانه. واستحوذ داعش على اموال كبيرة، ووقعت حقول للنفط تحت سيطرته، واصبح يمتك موارد ومصادر دخل مرتفعة تأتيه من العراق وسوريا، كما وضع اليد على اسلحة متطورة. وتتصل الاراضي التي وقعت تحت سيطرته في العراق بالمناطق التي يحتلها في سوريا. وانتشاء بما احرزه من توسع، اعلن امير داعش ابو بكر البغدادي دولة الخلافة الاسلامية ونصب نفسه خليفة للمسلمين، وطالب الحركات الاسلامية المتطرفة والمتشددة الأخرى بمبايعته، فاستجاب له معظمها. ولم يخف داعش طموحاته واهدافه البعيدة في بسط سلطانه على الدول العربية والاسلامية، في افريقيا والشرق الأوسط والخليج وجنوب شرق آسيا، ونشر خريطته بما تتضمن من اعادة رسم للحدود على امتداد هذه المناطق، وذهب به الغلو إلى حد التهديد برفع راياته فوق البيت الأبيض والفاتيكان!
واوجدت اختراقات داعش حالة تقسيم للعراق على ارض الواقع، بعد ان خرج ثلث مساحته وخمس سكانه من ولاية الحكومة الاتحادية، وفقدت الدولة السيطرة على جزء كبير من حدودها مع سوريا، ما يعني فعليا نزع سيادة العراق على تلك الاراضي. فوحدة الكيان العراقي باتت مجتزأة ومنقوصة، وخطر ترسخ هذا الانقسام داهم وليس في الافق البعيد!
طبيعة خطر داعش

في ضوء هذه المعطيات المستجدة يصبح من غير الجائز الاستهانة بالخطر المتنامي، الذي بات داعش يشكله مع تحوّله من مجموعات مسلحة وعصابات، تقوم بعمليات ارهابية متفرقة هدفها زرع الفوضى وتأجيج الصراع الطائفي وزعزعة الأمن واضعاف مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية واشاعة الخوف والرهبة، من دون القدرة على مسك الأرض وإدارة شؤون الاهالي، إلى تنظيم يمتلك ما يضاهي جيش دولة بعديد عشرات الالاف، مع امكانيات لوجستية تؤمن نقل الامدادات البشرية والعسكرية التي تمكنه من خوض القتال على جبهات واسعة وغير مترابطة. كما ان له حواضن يحتمي بها وتمده بالدعم، وشبكة ارهاب وتنظيمات متطرفة دولية ينسق معها وتساعده في توريد الارهابيين والمعدات والاسلحة والاعتدة.
وتشير تجربة داعش وتواصل اعماله الارهابية في العراق، وتنوع اهدافه وقدرته العالية على الحركة والتكيف وتغيير التكتيكات واشكال العمل الارهابي، إلى أن ما يقوم به ليس مجرد أعمال ظرفية دافعها الانتقام، أو انها انفعالية ومجرد ردود فعل، وإنما تندرج في سياق مخطط مسبق جرى الاعداد والتحضير له جيداً.
وتتبع التنظيمات الارهابية لتحقيق مآربها الاجرامية استراتيجية عسكرية، تهدف إلى زعزعة اركان الدولة والنظام العام واشاعة الفوضى والخوف وتشتيت واستنزاف الدولة واجهزتها المدنية والعسكرية، بحيث تنحسر سلطتها جغرافيا أو تضعف كثيرا، وتتخلخل في المدن وترتبك، بما يمكنها من اقامة امارة او دولة ظلامية. ولتحقيق هذه الأهداف الشريرة تنفذ سلسلة متصلة من العمليات الارهابية المتنوعة، مستغلة الثغرات والفجوات ونقاط الضعف في المنظومة الأمنية واجهزتها. كذلك تعمد الى اثارة الفتنة الطائفية وتأجيج وتفجير الصراع بين مختلف الاطراف الدينية والمذهبية، الذي هو بالنسبة له وقبله تنظيم القاعدة، وسيلة رئيسية لاشاعة الفوضى العارمة وتكريس الاستقطاب المجتمعي على اسس طائفية، وهو ما يشجع على التطرف والقبول بالفكر الاقصائي والتكفيري. كما انها تسعى الى استدراج التدخلات المباشرة من طرف امريكا والدول الغربية الاخرى، بهدف خلط الاوراق والافادة من مشاعر الرفض الواسعة التي تثيرها هذه التدخلات، وتوظيفها لاشاعة افكار التطرف وتقوية التنظيمات الحاملة والمروجة لها ولنهج التطرف.
والى جانب هذا يعتمد داعش وقوى الارهاب الاخرى استراتيجية اعلامية يطلق في اطارها حربا نفسية، حيث يروج لعملياته ويضخمها بهدف اظهار قوته، ويصور اعماله الاجرامية ويبث دون رتوش صور القتل والتنكيل البشع وأعمال تهجير الاقليات وابادتها، والتي تعكس وحشيته، ساعيا بذلك الى زرع الرهبة والخوف في نفوس من يقاومونه، والى النيل من هيبة الدولة والجيش واجتذاب مريدين جدد من الشباب.
ويراهن داعش وامثاله في خططه على عدم كفاءة مؤسسات الدولة وعدم تماسكها والتخبط في عملها، ويستغل ضعف وعي الناس وضيق افق القوى المتنفذة واستمرار الصراع العبثي في ما بينها، وما يؤدي اليه ذلك كله من جزع لدى المواطن. وللاسف لم يقابل هذا النشاط الاجرامي المدروس بعناية، حتى الآن، بخطط نقيضة تقوم على دراسة معمقة لفكر قوى الارهاب واستراتيجيتها.

مستلزمات التصدي لداعش

لقد نجحت ردود الفعل الداخلية والدولية، المتمثلة في استنهاض مقاومة الشعب، وفي تحسن اداء الوحدات المدربة للقوات المسلحة وللبيشمركة بفعل تحسن تسليحها وإعادة تماسكها وارتفاع الروح المعنوية لمنتسبيها وتوفير الغطاء الجوي من قبل قوات التحالف الدولي، في ايقاف زخم داعش وتحرير مدن وقرى عديدة من قبضته. لكن الماكينة الاعلامية النشطة لداعش وانصاره تواصل التهويل بقدراته ونجاحاته، ساعية الى اشاعة الخوف والرهبة عبر نشر الصور والافلام التي تعرض جرائمه المروعة. كما انه يشن حربا نفسية مؤثرة لزعزعة الثقة بالقدرة الذاتية على مقاومته ووقف زحفه. ويحصل جهده هذا على خدمة مجانية من خلال تناقل وترويج منشوراته ومواده الاعلامية على صفحات الانترنيت وحسابات ومواقع التواصل الاجتماعي.
واذا كان من الخطأ المبالغة في قوة داعش والتنظيمات المماثلة، فان من قلة الحكمة بل والتهور، ان يجري الاستخفاف بالخطر الداهم الذي يمثله هو والتنظيمات الارهابية عموما. فالعراق يخوض حربا ضد الارهاب، هي اشمل من صفحتها الرئيسية الراهنة ضد داعش. وإن دحر الارهاب ومخططاته والحاق الهزيمة به امر ممكن، لكنه مشروط باعتماد ستراتيجية شاملة ومتكاملة لمكافحته، هدفها الآني والملح هو التصدي لداعش وقهره وتحرير سائر الاراضي الواقعة تحت سيطرته في جميع المحافظات.
ومن الواجب ان تتضمن اهداف هذه الاستراتيجية القضاء على العوامل التي تسمح بعودة قوى الارهاب الى الظهور. وهذا لا يتطلب مجرد تصفية بنى الارهاب التحتية وشبكاته، بما يجعل من اعادة بناء تنظيمات قوية له امرا بالغ الصعوبة، بل يستلزم ايضا وإلى حد كبير بناء دولة مدنية ديمقراطية، قوية بشرعية مؤسساتها المستمدة من شمولية تمثيلها للمجتمع بمختلف اطيافه، وبحسن ادائها وكفاءته من خلال وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وبسلامة تشريعاتها وعدالة سياساتها وحفاظها على المال العام وحرصها على الثروة الوطنية وحمايتها وحسن الاستفادة منها وتوظيفها لخير المجتمع ورفاهيته. وهذه مواصفات لا تتوفر في بناء دولتنا راهنا.

اصلاح المؤسسة العسكرية

ان الانتصار في المعركة ضد داعش يقتضي في الجانب العسكري اولا، الابقاء على عوامل النهوض مفعّلة، والاستمرار في تطويرها وتخليصها من جوانب الضعف، بما يتيح الاستفادة القصوى من الدعم الدولي. وهذا يعني، ايضا، اعادة هيكلة وحدات الجيش والقوات المسلحة الاخرى، بتخليصها من العناصر الفاسدة والمتخاذلة وإعادة توزيع المهمات والمسؤوليات لصالح العناصر المهنية الكفوءة، التي اثبتت ولاءها للوطن واخلاصها ونزاهتها وحرصها على المال العام. كذلك اتخاذ خطوات حازمة لاجتثاث الفساد المستشري في الكثير من مفاصلها، وغربلة تشكيلاتها وتخليصها من المنتسبين الوهميين، والمضي بعزم في تنفيذ عملية إعادة بنائها على اساس المواطنة، وتسليحها بعقيدة وطنية عابرة للقوميات والطوائف والانتماءات الثانوية، واعتماد اسس وقواعد الاعداد والتدريب والتأهيل الحديثة، واستكمال وتعزيز تجهيزها بالاسلحة المتطورة. ولا بد ايضا من الارتقاء بالتعاون والتنسيق بين القوات الاتحادية والبيشمركه في الاقليم، حيث ما زال مستوى هذا التعاون رغم تحسنه دون ما تتطلبه مواجهة عدو دموي شرس مثل داعش، والسبب يكمن في التوجسات والشكوك وعدم الثقة المتبادلة، التي يتوجب على القيادات السياسية العمل الى إزالتها. فمن الصعب تصور إلحاق الهزيمة بداعش في العديد من جبهات القتال، من دون هذا التعاون. كذلك الحال بالنسبة الى الرافد الأساس الثالث في الحرب ضد داعش والارهاب، والمتمثل في الحشد الشعبي ومقاتلي العشائر، حيث تجري حاليا معارك مشتركة تجمع هذه الاطراف. لكن من الضروري تعزيز اشراف القوات المسلحة على كافة التشكيلات التي تحمل السلاح.
وقد بات ضروريا تفعيل شعار "حصر السلاح بيد الدولة" وعدم شرعنة اية مجموعة تحمل السلاح خارج اطر الدولة وبعيدا عن توجيهها واشرافها. علما ان وثيقة الاتفاق السياسي تدعو إلى تطوير تجربة الحشد الشعبي، وجعلها ذات بعد وطني يخدم المصالحة الوطنية، لينهض الحشد بدور القوة الرديفة للجيش والشرطة.
ومن الهام ايضا تنشيط حملة اعلامية ، نفسية تتصدى لطروحات داعش، وتفضح دوافع عملياته الاجرامية، وتدحض اطروحاته التي عفا الدهر عليها.
وبموازاة التنسيق بين الجهات العراقية المشاركة في القتال، يجري التنسيق مع قوات التحالف الدولي، وفي هذا المجال ايضا اثيرت شكوى من قصور في التنسيق وفي تبادل المعلومات.
الموقف من التحالف الدولي

لم تكن المطالبة بتدخل دولي خيارا مطروحا امام العراق بعد سقوط الموصل والانهيار العسكري وتداعياته، بقدر ما كانت ضرورة فرضها وجود خطر داهم من قبل عدو مشترك. ومعلوم ان حزبنا كان من الداعين والمؤيدين لانسحاب القوات الأجنبية واستعادة السيادة الوطنية الكاملة، والعمل على توفير جميع الشروط السياسية والمؤسسية المدنية والعسكرية التي تمكن الدولة العراقية من ترسيخها والذود عنها. الا ان سوء الأدارة والبناء غير السليم للدولة وللمؤسسة العسكرية، واشتداد الانقسام والتناحر بين القوى المتنفذة، اديا إلى تفتيت الارادة الوطنية الموحدة وإحداث شرخ في الوحدة الوطنية، الامر الذي مهّد للانهيارات وتسبب في حالة الوهن الراهنة، ودفع إلى طلب الدعم الدولي. وقد قررت الولايات المتحدة التدخل والتحرك السريع لتشكيل تحالف دولي واسع، لأنها وجدت في تمدد داعش تهديدا لمصالحها ولمواقع حلفائها، وخطرا يمكن ان يمتد الى عقر دارها. كذلك الأمر بالنسبة الى دول الاتحاد الاوروبي واستراليا وكندا ودول الخليج.
وفي رأينا ان التدخل يجب ان يكون محدد الاهداف. لا سيما وانه تم بالاستناد إلى قرارات مجلس الامن لدعم العراق، ومنها القراران 2170 و2178، وبطلب من الحكومة العراقية. وفي رأينا ايضا أن هذا التدخل يجب ان ينتهي بانتهاء الهدف المحدد، فالعامل الرئيسي هو في نهاية المطاف العامل الداخلي، بينما يلعب العامل الخارجي دورا داعما ومساندا. ولا تتحقق الاستفادة المثلى من العامل الدولي ما لم يقترن بوضع داخلي معافى من الامراض المعروفة.
لقد ساهم التحالف الدولي في ايقاف تمدد داعش وهذا يتوافق مع مصلحة العراق. انما ليس غائبا عنّا أن لأعضاء التحالف مصالحهم وأهدافهم الاستراتيجية، ذات الصلة بعموم المنطقة والعالم.
فداعش تمثل خطرا مشتركا لأن ارهابها غدا خطرا دوليا، واخذ يهدد مصالح العديد من الدول وفي عقر دارها، علما ان في صفوفه ما يعادل جيشا كبيرا يزيد تعداده على 15 الف اجنبي قادمين من 80 دولة، وهو يهدد الأمن الداخلي للجميع، ما يدفع الدول المذكورة الى دعم الجهد العراقي الضعيف والفاقد للغطاء الجوي.
ويتحدد موقفنا من الدعم الدولي في ضوء حقيقة انه جاء بدعوة محلية، وان لقوى التحالف مصالحها الخاصة، فهي لا تتدخل لحماية العراق وحسب، بل ايضا لحماية نفسها من العدو المشترك المتمثل في داعش. لكن لها في الوقت نفسه اهدافها الأخرى الابعد، التي تتعلق بالوضع في سوريا والصراع مع النفوذ الايراني، وبتوازنات الصراع العربي ، الاسرائيلي، والسعي لهيكلة اوضاع المنطقة وفقا لمصالحها. وليس مستغربا أن تسعى قوى التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لتوظيف هذا التدخل العسكري المحدود وما يستتبعه من زيادة في النفوذ السياسي، لصالح اهدافها الاستراتيجية.
حفاظاً على السيادة الوطنية

لذلك يشدد حزبنا على وضع ضوابط ومعايير سليمة تحفظ للعراق سيادته وقراره المستقل، وهذه الضوابط التي يتوجب ضمان وجودها تتمثل في اعادة بناء اللحمة الوطنية، وتشكيل جبهة واسعة ضد الارهاب، وايجاد الحلول السريعة للمشاكل العالقة مع الأقليم، وإزالة مصادر الاحتقان والتوتر والتشنج في اجواء العلاقات السياسية، ونبذ كل ما يؤجج التعصب القومي والطائفي، وترسيخ اسس المواطنة، واجراء الاصلاحات المؤسسية، ومكافحة الفساد، واعتماد نمط تفكير جديد يسمو فوق المصالح الضيقة، وإعلاء شأن المصلحة الوطنية العليا، وفي المحصلة تفعيل دور السلطتين التنفيذية والتشريعية في ادارة شؤون البلد. فمثل هذا النهج يؤدي الى تشكيل ارادة وطنية موحدة وصلبة، والى حشد الطاقات والقدرات الوطنية وترجمتها في مواقف واجراءات سياسية حازمة، تحول دون خروج التدخلات الاجنبية عن اهدافها المحددة، وتعجل انضاج ظروف وشروط الاستغناء عنها.
ومن المهم التنبيه الى أن من غير الصحيح النظر الى العلاقة بين امريكا وداعش في اطار نظرية المؤامرة التبسيطية. فالولايات المتحدة ساهمت في إنشاء المنظمات الإرهابية، وهي تعمل على الافادة منها لتحقيق ما ينسجم مع مصالحها من اهداف. لكنها تتدخل عندما تتمدد هذه المنظمات وتأخذ بتهديد مصالحها، مثلما تفعل داعش الآن، وكما فعلت طالبان وغيرها من قبل.

الموقف من التدخل البري لقوات التحالف

طرحت في الآونة الأخيرة آراء وارتفعت اصوات تدعو الى التدخل البري لقوات التحالف الدولي، من منطلق التشكيك بقدرة القوات العراقية على مقاومة قوات داعش ودحرها. لكن الحكومة العراقية شددت على موقفها الرافض للاستعانة بقوات برية أجنبية. كما ان هناك معارضة سياسية وشعبية واسعة لتلك الدعوة. في حين تعلن اطراف التحالف الدولي نفسها عدم استعدادها لارسال قوات برية كبيرة، وتحصر تدخلها بارسال خبراء ومستشارين وقوات خاصة محدودة.
ولا يؤيد حزبنا دخول قوات برية اجنبية الى الاراضي العراقية، ويعتبر القبول بذلك نوعا من الهروب والتنصل من واجب استنهاض اوضاعنا العراقية، واتخاذ قرارات شجاعة في هذا الشأن. كما يرى في دخول مثل هذه القوات انتقاصا جديا من السيادة الوطنية، ستكون له آثار وتداعيات سياسية استراتيجية اقليمية تزيد من عدم الأستقرار والتوتر في المنطقة، فضلا عن إمكان اعتباره نوعا من عودة الاحتلال، وما يثيره ذلك من ردود فعل شعبية رافضة شعبية، تراهن عليها قوى الارهاب. تضاف الى هذا مخاطر توظيف الوجود العسكري لحساب اجندات دولية واقليمية مختلفة. ومن جانب آخر تؤشر تجارب سابقة في العراق وغيره من البلدان، حقيقة أن تدخلات الجيوش الأجنبية لا تحرز نجاحات سريعة وحاسمة في الحروب غير النظامية، كتلك التي تخوضها داعش.
وتأتي مطالبة البعض بتدخل قوات برية أجنبية في الوقت الذي لم تتخذ فيه قوى التحالف الدولي حتى الآن، كل الاجراءات الفعّالة وفق قرارات مجلس الأمن، وما زالت هناك حزمة من الاجراءات والخطوات التي يمكن اتخاذها لأضعاف قدرات داعش، وهي قابلة للتحقيق ضمن الشرعية الدولية ومنها : الضربات الجوية وتأمين الغطاء الجوي، وتقليص امكانيات داعش واضعافها، والضغط على دول الجوار لمنع تجهيزه بالسلاح، وقطع مصادر تمويله الخارجية والمساعدة في تجفيف مصادره الداخلية ( تهريب النفط، المتاجرة بالآثار ) وغير ذلك، ومد العراق بالمعلومات المخابراتية عن تحركات وعلاقات داعش خصوصا العسكرية والامنية والخارجية ، ودفع دول الجوار الى التزام قرارات مجلس الأمن بخصوص وقف تدفق العنصر البشري اليه، والحيلولة دون استخدامه مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية في بث دعايته ونشر فكره الظلامي وكسب مجندين جدد. من جانب اخر يتوجب تأمين حاجة العراق من الاسلحة والاعتدة، وتدريب الجيش وتطوير قدراته البشرية ، القتالية ، الاستراتيجية وتأهيله، ووضع خطط سليمة لهذا الغرض تنسجم مع العلم الحديث، مع الاستعانة بالدعم الدولي، إضافة إلى المساعدة في اعادة هيكلة الجيش، ومحاربة الفساد المستشري في صفوفه (الرشاوى، التهريب، الفضائيين.. ).
ففي حال توفر هذه العوامل، الى جانب جملة الاصلاحات السياسية والاجتماعية الضرورية، تنتفي الحاجة للتدخل الخارجي. وينبغي هنا الالتزام بعامل الزمن، فهو مهم في تفعيل العوامل الداخلية المؤثرة، وبعكس ذلك ستواجه البلاد مصاعب وخيارات صعبة.

العمل العسكري وحده لا يكفي

يخوض داعش وامثاله من المنظمات الارهابية حربا غير نظامية، تعتمد الكر والفر ويلتجيء الى داخل المدن والقرى للاحتماء والتمويه والحصول على تغذية وحماية حواضن اجتماعية وسياسية. ففي غياب هذه الحواضن يتعسر، ان لم يستحل على الارهاب مسك الارض وتحقيق اختراقات مهمة. لذا فان تجفيف الحواضن يعتبر محورا رئيسيا في محاربة الارهاب، والغاية من ذلك هي عزل الارهابيين ومؤيدي التنظيمات الارهابية عن السواد الأعظم من الأهالي الذين لا يدعمون الارهاب، لكنهم لا يعارضونه اما خوفا أو بسبب عدم الثقة والتوجس من الدولة والحكومة. وهذه الغاية لا تحققها العمليات العسكرية، بل يحققها نهج سياسي تختطه الدولة والحكومة واجهزتهما، يشدد على الانفتاح والحوار والمشاركة وتلبية المطالب والاحتياجات المشروعة لاهالي المحافظات والمناطق التي تنشط فيها قوى الارهاب، ويحققها اعتماد خطاب وممارسة ينطلقان من مبدأ المواطنة، ويبتعدان عن أي شكل من اشكال التمييز والانحياز إلى طيف اجتماعي او معتقد معين، الى جانب المحاسبة على اي تصرف ينحرف عن ذلك واي ممارسة تتجاوز على حقوق الانسان وعلى الممتلكات. وفي السياق نفسه يتوجب على الدولة والحكومة تقديم المساعدة والدعم لمن يبدي استعدادا لمقاومة داعش، وتشكيل اطر محلية للحشد الشعبي بهدف وضعه تحت اشراف القوات المسلحة وتوجيهها.
ولهذه الغاية يمكن انضاج مقترح تشكيل الحرس الوطني، شرط وضع الضوابط التي تمنع تسرب عناصر ارهابية ومشبوهة إلى تشكيلاته، وتضمن أن يكون رديفا للقوات المسلحة وليس بديلا عنها، وأن تتولى الدولة مسؤولية الأشراف عليه وتجهيزه وتسليحه وتأهيله. علما ان هذا التشكيل يأتي استجابة لحاجة آنية املتها ظروف استثنائية، ويمكن مراجعة وضعه ومبررات استمرار وجوده ودوره بعد انتهاء هذه الظروف. وفي هذا السياق يمكن النظر جديا في إعادة الخدمة العسكرية الالزامية وفقا لاسس حديثة مناسبة، كحل طويل الأمد لتعزيز بناء القوات المسلحة وتمكينها من لعب دورها مجددا في تقوية اللحمة الاجتماعية ورفع شأن الهوية الوطنية.
ومن الضروري طبعا ان تصاحب الخطوات السياسية خطوات واجراءات عملية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والاعلامية والثقافية، لإزالة الشعور بالظلم والتهميش، خصوصا لدى مواطني المحافظات التي تمدد فيها داعش.
وارتباطا بما تحقق اخيرا على الارض، اشاد اجتماع اللجنة المركزية بالانتصارات التي احرزتها القوات الامنية والعسكرية والبيشمركه والحشد الشعبي ومقاتلو العشائر ضد تنظيم الدولة الاسلامية ، داعش، وبحصيلتها المتمثلة في تحرير مناطق ومدن وقرى في محافظات بابل وبغداد وكركوك وديالى وصلاح الدين والموصل والانبار، ورحب بما تحقق في الايام الاخيرة في مدينة بيجي واعادة السيطرة على مصفى النفط الاستراتيجي فيها، كذلك بالمقاومة الشعبية المتنامية في اماكن عدة، ومواصلة الاستعداد والتحفز لتحرير بقية مدننا من سطوة داعش الارهابي.
وتجدر الاشارة في هذا السياق الى تقلص الامكانيات المالية لداعش وما يجنيه عبر تهريب النفط، بعد قصف التحالف الدولي للعديد من محطاته لانتاج وتصفية النفط، وبعد الاجراءات التي اقدم عليها الاقليم ضد المهربين والمتعاملين مع داعش وحملة الاعتقالات في صفوفهم.
وتتوجب الاشارة هنا ايضا الى صمود اهالي كوباني والحؤول دون سقوط المدينة بيد داعش، والى الصراعات بين قادة تنظيم الدولة الاسلامية - داعش وبين العراقيين منهم والاجانب، والتذمر المتزايد بين ابناء المناطق التي ابتليت بهذا التنظيم المسخ، والخسائر المتلاحقة التي يتكبدها. فلا ريب ان هذا كله سيؤثر في معنويات اتباعه، وفي قدرته على المناورة والاحتفاظ بمساحات واسعة من الاراضي.

المصالحة الوطنية

يؤشر التقييم الموضوعي لحصيلة ما تحقق على مدى العقد الماضي لانجاز مصالحة وطنية حقيقية، عدم احراز نجاح حاسم. فقد ظل التعامل مع الملف فوقيا غير جاد، يجري وفق منظور ضيق، ويتم توظيفه لتحقيق مكاسب سياسية فئوية وحزبية. حيث انفقت أموال كبيرة لتشكيل مجالس، ولكسب عشائر ومجموعات وأفراد ذوي تأثير محدود في محيطهم، لصالح انحيازات وولاءات سياسية ضيقة. ولم تتحقق حوارات ومعالجات جدية للقضايا الخلافية، بل ان الاجماع الظاهر للكتل السياسية على مفهوم المصالحة الوطنية كعنوان، يتبدد حال الانتقال إلى المضامين والاجراءات التنفيذية
وبالنظر الى ما تتعرض له الوحدة الوطنية من تصدعات، والنسيج الاجتماعي من شروخ تتعمق وتتسع باستمرار، يكتسب موضوع المصالحة الوطنية اهمية متزايدة، ويرتقي في سلم الاولويات التي تواجه البلاد وحكومتها والقوى المتنفذة. فالاطراف الساعية الى ضرب مسيرة الانتقال والتحول الديمقراطي التي تمثل جوهر العملية السياسية، تراهن وتعمل بكل الوسائل على تواصل وتعمق انقسام المجتمع العراقي وتشظيه، واشتداد الخلافات بين اطيافه الاجتماعية والسياسية، وتحولها إلى نزاعات وتوترات تفاقم الاستقطابات الطائفية والاثنية والسياسية. فهي توفر لها تجربة خصبة للتحرك والتخريب ومنع عودة الأمن والاستقرار واستتبابهما، وإعاقة عملية البناء السياسي للدولة ومؤسساتها الدستورية وتعطيلها. وينسحب الامر على عملية الاعمار والتنمية الاقتصادية.
وتحتل المصالحة الوطنية موقعا متقدما ضمن اولويات وثيقة الاتفاق بين الكتل السياسية المشاركة في الحكومة الجديدة. وضمن متطلباتها تم الاتفاق على تعديل واصدار عدد من التشريعات، يتقدمها المتعلق بملف المساءلة والعدالة، وقد اوكل امره كمهمة رئيسية لأحد نواب رئيس الجمهورية. وعلى رغم ذلك لا يزال الاختلاف قائما بهذا الشأن بين القوى المتنفذة، وتبقى اجواء عدم الثقة والخشية من أن تصبح المصالحة الوطنية جسرا او غطاء لرد الاعتبار الى عناصر ومجموعات معادية للعملية السياسية، وتسعى للقضاء عليها.
ان التقدم في هذا الملف يعتمد إلى حد كبير على النجاح في احراز توافق حول اهمية المصالحة الوطنية وضرورتها، وحول مقاصدها ومتطلباتها بصورة مفصلة. وفي سياق ذلك تأتي دعوة حزبنا الى عقد مؤتمر وطني، تشارك فيه القوى والاحزاب المؤسسة للعملية السياسية والمشاركة فيها، سواء كانت في الحكومة او خارجها، ويمكن توسيعه ليشمل قوى وشخصيات اخرى. وقد رحب رئيس الجمهورية بالفكرة وبادر من جانبه للدعوة الى عقد مؤتمر وطني مكرس لموضوع المصالحة الوطنية. وتستحق هذه المبادرة الدعم والتشجيع، وهي بحاجة إلى ترجمة عملية، وتكليف فريق عمل يضم ممثلين عن الرئاسة وعن القوى السياسية، لاعداد تصورات عملية واجرائية حول عقد المؤتمر واقتراح جدول اعماله ومحاور بحثه، وما يمكن ان يخرج به من وثائق وقرارات. ومن الضروري ان يوضع في الاعتبار ان عمل المؤتمر لا يعني عقد جلسة واحدة ولمرة واحدة، وان مهمته الاساسية تتمثل في تصحيح مسار العملية السياسية ووضعها على السكة السليمة، وبما يفضي الى الخلاص من المحاصصة الطائفية- الاثنية والتوجه لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

تشكيل الحكومة الجديدة وما ينتظرها

تزامن مخاض تشكيل الحكومة الجديدة مع تعرض البلاد إلى مخاطر كبيرة وتحديات جسيمة تواجه حاضرها ومستقبلها.
واستنادا إلى تجربة سوء ادارة الحكم، ومسلسل الأزمات التي افرزها نظام المحاصصة الطائفية والاثنية والحكومات المنبثقة عنه، دعا حزبنا اثناء وبعد حملته الانتخابية في اطار قائمة التحالف المدني الديمقراطي، إلى انهاء نظام المحاصصة المذكور، واعتماد مبدأ المواطنة في تشكيل الحكومة وفي بناء وعمل مؤسساتها، مع احترام الاستحقاق الانتخابي. وفي ضوء الاوضاع التي استجدت بعد العاشر من حزيران وتحول الارهاب إلى خطر داهم، طالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة واسعة التمثيل، تقوم على اساس برنامج مشترك تلتزم به الأطراف المشاركة جميعا. وفي مفاوضات ومداولات تشكيل الحكومة، قدّم مرشحيه ضمن قائمة مرشحي التحالف المدني الديمقراطي للوزارة.
والمؤسف ان ممثلي الكتل الكبيرة حصروا التفاوض في شأن تشكيل الحكومة الجديدة بكتلهم ولم يشركوا القوى الاخرى، ومنها التحالف المدني الديمقراطي. ودار في سياق ذلك تنافس وصراع وتساوم بين تلك الكتل حول تقاسم المواقع، مماثل لما كان يجري عند تشكيل الحكومات السابقة ووفقا لمنطق المحاصصة ذاته، بل وبصورة تفوق في شدتها الحالات السابقة، في الوقت الذي كانت داعش تواصل فيه تمددها وترتكب الفظائع. وذلك ما دفع التحالف المدني الديمقراطي في النهاية إلى سحب مرشحيه للوزارة، وبضمنهم مرشحو الحزب. وجرت هذه العملية التي ادارها نواب التحالف في مجلس النواب بصورة مرتبكة، ما يستدعي استخلاص الدرس منها مع تأكيد ضرورة أن يكون الحزب ممسكا بالحلقات التي تقرر موقفه بصورة مستقلة في اطار التحالف.
وبعد مفاوضات بمشاركة علنية تارة ومستترة أخرى لممثلين عن الحكومة الأمريكية، وبإسهام غير منظور لقوى خارجية اخرى ودول اقليمية، لا سيما حكومة طهران، توافقت القوى المتنفذة على وثيقة الاتفاق السياسي بين الكتل السياسية المشاركة في الحكومة الجديدة، التي تتضمن عشرين بندا تنص على التزامات وتعهدات ملموسة ومحددة التنفيذ زمنيا.
ولأول مرة منذ أكثر من اربع سنوات استكملت التشكيلة الوزارية، في اشارة ايجابية أخرى تضاف الى التزام التوقيتات الدستورية وتحقيق المشاركة الواسعة والتوصل إلى برنامج حكومي مشترك ووثيقة اتفاق سياسي تثبت توجهات ومعالجات سليمة لأهم القضايا السياسية العقدية التي تهم البلاد.
عكست التشكيلة الوزارية تغييرا جزئيا. فهي نتاج آلية المحاصصة ذاتها، ولم يكن متوقعا في ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة أن يتحقق فيها التغيير الكبير الذي ننشده. وان تشكيلها على هذا النحو يظهر أن الكتل المتنفذة لم تستخلص الدروس من التجربة السابقة، وان الصراع الاناني على الحصص والغنائم لم يكف.
على رغم ذلك استقبل ميلاد الحكومة بارتياح عام، وحظيت هي بتأييد ودعم دوليين واقليميين وعربيين نادرين من حيث السعة، وجاء هذا ارتباطا بالمهمات الجسيمة الملقاة عليها في مواجهة داعش والارهاب عموما، إلى جانب المهمات الثقيلة الأخرى، سواء المتعلقة بحل المشاكل العديدة المستعصية التي خلفتها لها الحكومة السابقة، ام تلك المتصلة بتنفيذ وعودها بالأصلاح الاداري والاقتصادي والمالي والقانوني، والوفاء بالتعهدات والاتفاقات المترتبة عليها وفقا للجدول الزمني المثبت في وثيقة الاتفاق السياسي. وتواجه الحكومة بنحو خاص تحدي الفساد، الذي يستنزف موارد البلاد ويعطل الاقتصاد والبناء والاعمار ويخرب الدولة والمجتمع، ويعمق التفاوتات والتمايزات الاقتصادية والاجتماعية ويرتقي بالفاسدين ومحترفي سرقة المال العام إلى واجهة المجتمع. فهذه المواجهة تعني حربا لا تقل أهميتها عن الحرب ضد الارهاب، رغم ان البرنامج الحكومي لا يعطي هذه المهمة الموقع الذي تستحقه في ترتيب الاولويات.
ولا شك ان الأجواء التي مهدت لتشكيل الوزارة الجديدة ورافقته اختلفت عما كان عليه الحال في الحكومة السابقة، حيث خفت حدة الخطاب وانحسرت لغة الوعيد والتهجم والتحريض وهدأت التوترات في العلاقة بين الكتل، وانفتحت قنوات للحوار والتفاهم كانت مغلقة سابقا. كما ان خطاب العبادي اتسم بالهدوء والواقعية في العديد من المواقف، وعكس تقديرا واستيعابا موضوعيين للمصاعب التي تنهض امام الحكومة والبلاد. وان قرارته الخاصة بوقف قصف المحتشدات السكانية، والغاء مكتب القائد العام للقوات المسلحة، واجراء تغييرات في هياكلها القيادية، واحالة بعض القادة العسكريين على التقاعد، واعلان الرغبة في محاربة الفساد، والسعي الى تحسين علاقات العراق مع محيطه الاقليمي ومباشرة ذلك على نحو ملموس، تعني ان هناك فرصة للاستفادة من دروس وعوامل الفشل السابق. وقد فتح كل ذلك كوة أمل في إمكان ايجاد حلول للمشكلات ومخارج للازمات. لكن الحكم في النهاية يعتمد على الأفعال، وعلى الاسراع في تحويل التوجهات والبرامج المعلنة والوعود التي تم اطلاقها، إلى اجراءات عملية وحقائق على الارض. كما ان هناك مهمات آنية غير قابلة للتأجيل على صعيد المصالحة الوطنية، وتجاوز الجفاء في العلاقة يين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، والتخلص من رموز الفساد المعروفة والمدانة قانونا.

وثيقة الاتفاق السياسي

تتضمن وثيقة الاتفاق السياسي عشرين بندا، وتنص على قيام الكتل السياسية بتشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة، تعمل بروح الفريق الواحد وتتعهد بتنفيذ مجموعة الالتزامات السياسية ضمن سقوف زمنية محددة، من شأنها ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية وبث روح السلم الأهلي والمضي في المصالحة الوطنية. وتتناول الالتزامات الواردة في الوثيقة قضايا جوهرية، تكمن في اساس العقد والاستعصاءات السياسية والازمات التي تواجه البلاد، اهمها مراجعة الملف الأمني، وإعادة بناء القوات المسلحة، وحصر السلاح بيد الدولة، وتشكيل مجلس الخدمة الاتحادية، وحسم ملف المساءلة والعدالة، ومحاربة الفساد الاداري المالي، وضمان تعاون السلطتين التنفيذية والتشريعية بما يعزز الدورين التشريعي والرقابي للاخيرة، واصدار التشريعات التي تؤمن استقلال القضاء، وتنظيم سياقات العلاقة بين الحكومة الاتحادية والاقليم والمحافظات وايجاد الحلول للمشاكل العالقة مع الاقليم، خاصة الخلافات حول استخراج وتصدير النفط، وتشريع قانون النفط والغاز، وايجاد الحلول لمشكلة كركوك في اطار المادة 140 في غضون سنة واحدة، وتفعيل المادة 142 الخاصة بتشكيل لجنة مراجعة الدستور.
ففي حال تنفيذ هذه الالتزامات، يكون العراق قد نجح في تفكيك وإزالة العديد من العوامل المسببة للأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، وفي تنقية الاجواء وخلق ظروف أفضل لعمل الحكومة ومجلس النواب وادائهما، وفي تمتين النسيج الاجتماعي. لكن من الواجب التنبيه هنا إلى محاذير الطريقة التي تفسر بها موضوعة التوازن وتطبق، والتي قد تقود الى تكريس نهج المحاصصة وسحبه إلى مختلف مستويات الوظيفة العامة، ما سيلحق اضرارا بالغة بعمل واداء اجهزة الدولة. ولا بد من الاشارة ايضا إلى أن العديد من الالتزامات الواردة في الاتفاق كانت ماثلة في برامج الحكومات السابقة، الا انها لم تتحقق. لذا يبقى التنفيذ مرهونا بمدى جدية الاطراف المعنية في العمل بصورة مشتركة ومتضامنة للوفاء بهذه الالتزامات، الامر الذي يعتمد بدوره على إعلاء المصلحة الوطنية، وتأمين المشاركة في صنع القرار السياسي، وابقاء قنوات الحوار مفتوحة، مع الاستعداد لتقديم تنازلات متقابلة.

البرنامج الحكومي

نص البرنامج المقترح لحكومة العبادي على الاولويات الستراتيجية للحكومة، التي توزعت على ستة محاور: عراق آمن ومستقر ـ الارتقاء بالمستوى الخدمي والمعيشي للمواطن ـ تشجيع التحول نحو القطاع الخاص ـ زيادة انتاج النفط والغاز لتحسين الاستدامة المالية ـ الاصلاح الاداري والمالي للمؤسسات الحكومية ـ تنظيم العلاقات الاتحادية  المحلية.
وجاء البرنامج شاملاَ متضمنا تحقيق اصلاحات اقتصادية ومالية وإدارية للمؤسسات الحكومية، معظمها مستخلص من برامج الاصلاح والستراتيجيات القطاعية التي تم اعدادها زمن الحكومة السابقة، بمساعدة ومشورة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمات الامم المتحدة المتخصصة، أو بالاستعانة ببيوت خبرة دولية. وكان المتخصصون والمشاركون في وضع هذه الخطط والبرامج يشكون من انها كانت تهمل من قبل الوزارات او من جانب معظمها. فهي بسبب كونها خططا لم يشرعها قانون، اعتمد الالتزام بها على موقف الوزير المعني، فتفاوتت جدية التعامل معها من وزارة إلى أخرى. ولعل من اسباب التلكؤ في تنفيذها ايضا انها لم تكن واقعية في جوانب عدة، ولم تلامس الاحتياجات الملموسة للمجتمع والاقتصاد، وكانت تفتقر إلى آليات متابعة فعّالة. علما ان العديد من الاصلاحات المقترحة مطروح منذ سنوات ويجري تنفيذ بعضه، لكن ذلك يتسم بالبطء الشديد ويصطدم بمقاومة قوية، غالبا ما تؤدي إلى تعطيل التوجه نحو الاصلاح أو كبح العملية. وليس هناك ما يشير الى ان الحال سيتبدل كثيرا، ما لم تعالج اسباب الاخفاق السابق.
وتضمن البرنامج الكثير من الاهداف والتوجهات السليمة في ما يتعلق بتطوير المنظومة الامنية والعسكرية، وتأمين وتطوير مستوى الخدمات العامة وايصالها للمواطنين. واحتوى البرنامج على اهداف تفصيلية جيدة على العموم، لكن التحفظات تبرز خاصة ازاء الطريقة المختزلة التي ورد بها بند مكافحة الفساد. كما ان الثقافة لم تحظ فيه بالاهتمام الكافي، حيث اكتفى بالاشارة إلى "حماية الارث الثقافي لاطياف المجتمع كافة والعمل على نشر الثقافة العراقية من خلال اعادة اعمار وتأهيل دور العبادة والمراكز الثقافية والفنية".

موقفنا من اقتصاد السوق والخصخصة

وخصص البرنامج حيزاً كبيراً للجوانب الاقتصادية والمالية، وفصّل في الاجراءات والخطوات التي تشدد على الاسراع في التحول إلى اقتصاد السوق وفي الخصخصة، وفتح مجالات الاستثمار للقطاع الخاص في الكهرباء والصحة والتعليم، اضافة إلى ميادين النشاط الاقتصادي الأخرى. كما طرح موضوعة العمل على التقليص المستمر لدور الدولة في المجال الاقتصادي، والتعويل على القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي في تحقيق التنمية وتنويع القاعدة الاقتصادية وخلق فرص العمل.
نحن من جانبنا نؤكد ضرورة اجراء الاصلاح في مجال الادارة، وفي منظومة التشريعات الاساسية التي تكرس الروتين والبيروقراطية، وتلعب دورا كابحا للنشاط الاقتصادي والمبادرة وحسن الاداء. كما ندعو إلى ادخال التقنيات الحديثة في الادارة، وفي ايصال الخدمات إلى المواطنين من خلال برامج ومشاريع الحكومة الألكترونية. إلاّ ان اي حديث عن دور القطاع الخاص ينبغي أن ينطلق من واقع وبنية الاقتصاد العراقي، حيث يهيمن المورد النفطي الذي يقوم بتحريك الاقتصاد الوطني من خلال الانفاق الحكومي، بشقيه الجاري والاستثماري. أما القطاع الخاص فيعاني من ضعف بنيوي، وهو لا يساهم إلاّ باقل من عشرة بالمائة من اجمالي الاستثمار، باستثناء استثمارات الشركات النفطية في اطار جولات التراخيص التي تستعيد تكلفتها من موارد التصدير العائدة للدولة. كما أن القطاع الخاص لا ينشط في المجال الصناعي إلا بنسبة ضئيلة من طاقته الإنتاجية، وهي لا تختلف عن نسبة عمل القطاع العام إن لم تكن أقل. لذلك فالمرجح أن الرعاية التي سيحظى بها القطاع الخاص سوف لن تذهب لانعاش الصناعة، وإنما الى نشاط المضاربات بالأصول والعقارات.
وان الحديث عن كفاءة السوق في توجيه الموارد واستخدامها، لا يمت بصلة إلى واقع السوق، ناهيك عن ان هذا الدور موضع تشكيك حتى في البلدان المتقدمة. علما ان الكفاءة تفترض وجود نظام يضمن منافسة حقيقية، وهذا ما لا يتوفر في السوق العراقية، التي تشكو من ضعف وغياب التشريعات المنظّمة للسوق، واجهزة الرقابة الفعّالة عليه. وفي السوق العراقية يجري تداول سلع لا تتوفر فيها الحدود الدنيا لمواصفات الجودة، ويشيع الغش التجاري، وتتحكم في السوق شريحة ضيقة من رجال الأعمال والتجار، بسبب مواقعهم الاحتكارية واندماجهم مع قوى متنفذة بمواقع القرار في الدولة . وهناك ايضا غياب السيطرة على تبييض الأموال الضخمة، التي تتدفق إلى الخارج ثم تعود إلى السوق العراقية على شكل مشاريع وشراكات، وتوظيفات كبيرة في شراء اسهم الشركات والسيطرة على اداراتها. ويأتي هذا في الغالب حصيلة اعمال وصفقات يشوبها الفساد، وهناك امثلة ملموسة تؤكد هذه المسارات والمجريات.
اننا ندعم التوجه نحو تقديم الدعم للقطاع الخاص الوطني في المجالات الانتاجية وخصوصا الصناعية ونحو تشجيعه على الاستثمار، ونؤيد توفير البيئة التشريعية والتنظيمية والادارية الميسرة، وتنفيذ قوانين حماية المنتج المحلي، وتفعيل دور البنوك المتخصصة. وبالنسبة الى الشركات والصناعات المملوكة للدولة، نرى ضرورة التوجه لاعادة تأهيلها واصلاح اوضاعها وتخليصها من الاعباء الاضافية المرهقة التي ترفع كلفة منتوجها. وكان يمكن للمبالغ الطائلة التي انفقت وتنفق عليها وهي متوقفة عن كل نشاط، ان توجه لهذه الأغراض.
ومع أن البرنامج يشير الى ضرورة الحفاظ على حقوق العاملين عند اجراء عملية إعادة الهيكلة للشركات المملوكة للدولة، فان الواقع العملي يبين ان العنصر الحاكم في الاستثمار الخاص هو الربح. ومن ثم فاما ان يحجم القطاع الخاص عن الاستثمار في هذه الشركات، بسبب عدم قبوله بالشروط او لمطالبته بضمانات لا توفرها الدولة، واما ان يفرض شروطه. وهذا ما يفسر قلة النجاح على صعيد الشراكات، وقلة المستجيبين للعروض المقدمة من قبل الدولة. لكن البرنامج يغفل التأثيرات الاقتصادية - الاجتماعية لاطلاق يد الرأسمال الخاص، على عموم الاقتصاد الوطني في ظل النقص التنظيمي والتشريعي والرقابي. وفي كل الاحوال فان السعي الى تهميش وابعاد دور الدولة وتدخلها في ادارة الاقتصاد، بدل اصلاح هذا الدور واصلاح قطاع الدولة نفسه، هو خطأ كبير ناجم عن عدم معرفة حاجات الاقتصاد العراقي. فدور الدولة ضروري لعملية التنمية المستدامة، الاقتصادية ، الاجتماعية.
ولأجل تحقيق المشاركة الواسعة في رسم ومناقشة التصورات والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، خصوصا من جانب ممثلي العملية الانتاجية: ارباب العمل من دولة وقطاع خاص، والعمال والعاملين، والمتخصصين افرادا ومؤسسات بحثية، اضافة إلى الجهات الحكومية المعنية، ومن ممثلين للقوى السياسية والمجتمع المدني، تبرز الحاجة الى تطوير صيغ المشاركة المحدودة القائمة حاليا، والتفكير في تشكيل مجلس استشاري لبحث الخيارات الاستراتيجية الاقتصادية والسياسات والتشريعات والاصلاحات والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. ومثل هذه المجال موجود في الكثير من الدول الديمقراطية الراسخة.

التحديات المالية أمام الحكومة الجديدة

في سابقة نادرة الحدوث انتهت السنة البرلمانية الماضية من دون التصويت على موازنة عام 2014، كما لم يفلح مجلس النواب الجديد في التصويت عليها ولم تبق سوى اسابيع على انتهاء السنة. ورغم ان الحكومة الحالية التي لم تبعث ارقام الموازنة المحدثة إلى مجلس النواب حتى الآن تتحمل مسؤولية ذلك، فلا بد من القول ان المشكلة يتحمل مسؤوليتها اساسا مجلس النواب السابق والحكومة السابقة، اللذين لم يحققا التوافق في عهدهما بشأن اقرار موازنة 2014.
وفي ظل غياب قانون الموازنة اخذت الحكومة تنفق شهريا ما يعادل 1/12 من الموازنة السابقة لأغراض الانفاق الجاري - التشغيلي فقط. اي أن تخصيصات الموازنة الاستثمارية لم تطلق، وترتب على ذلك عدم تنفيذ مشاريع جديدة، فيما وجد المقاولون ومنفذو المشاريع الجارية صعوبات في استلام الدفعات المالية لمواصلة اعمالهم، فتوقف الكثير منها. وبسبب تدهور الأوضاع الأمنية واتساع العمليات العسكرية منذ بداية العام، وظهور الحاجة الملحة لتعويض الاسلحة والاعتدة التي سيطرت عليها داعش، وفتح باب التطوع وتشكيل افواج الحشد الشعبي وانخراط مقاتلو العشائر، ارتفعت النفقات العسكرية الى مستويات تفوق التخصيصات المرصودة، فقامت الحكومة بتمويلها عن طريق السلف. ومن جانب آخر ادت العمليات العسكرية واختراقات داعش الارهابية إلى توقف الأنتاج في بعض حقول النفط الشمالية والتصدير عن طريق خط جيهان إلى تركيا، فيما ادى توقف مصفى بيجي عن العمل إلى زيادة استيراد المشتقات النفطية إلى ما قيمته 13 مليار دولار، حسب ما تسرب إلى الإعلام. وقاد كل ذلك إلى ارتفاع النفقات، فيما بقي معدل تصدير النفط أقل من مليونين ونصف المليون برميل شهريا ، وهو اقل من المخطط له في الموازنة التي لم تقر. وألقى ذلك بظله على مستويات النشاط الاقتصادي وحركة الأسواق. في حين ادى وجود 1,8 مليون نازح على اقل تقدير، إلى رفع نسبة السكان تحت خط الفقر إلى ما يزيد على 30 بالمائة، بعد ان كان مقدرا انخفاضها إلى 10 بالمائة.
واعلنت الحكومة الجديدة في مجرى اعدادها مشروعا معدلا لموازنة 2014 لعرضه على مجلس النواب، عن ان هناك أزمة مالية عميقة وصفها وزير المالية بانها "ازمة سيولة خانقة"، وهي تتطلب اجراءات تقشفية حادة وسريعة. وكلف مجلس الوزراء لجنة خاصة بتقديم مقترحات في خصوص الاجراءات المذكورة. ولم تنته الحكومة حتى الآن من مراجعة وتعديل مشروع قانون موازنة 2014 وإعادته إلى مجلس النواب، علما انه تم تعديل مسودة القانون مرتين لتؤخذ بعين الاعتبار التغييرات الكبيرة التي طرأت على موارد الدولة ونفقاتها، ولتخفيض العجز إلى ادنى حد ممكن.
وعلى مدى الاسابيع الماضية توالت تصريحات المسؤولين والمتخصصين، ونشرت البيانات والارقام، لتفسير وتبرير تحول العجز التخطيطي والفائض الفعلي لموازنات الدولة المالية طيلة السنوات والاشهر الماضية، إلى عجز وشحة في السيولة المالية، بلغت من الشدة حد التشكيك في قدرة الدولة على تسديد الرواتب والالتزامات المالية الأخرى، بعد احداث شهر حزيران الماضي المأساوية! وكان المنحى العام لتفسير هذا الانعطاف الحاد في الوضع المالي يميل إلى ابعاد الانظار عن دور سوء الادارة والفساد في ذلك، وعن المسؤولين عن ايصال الأوضاع إلى ما هي عليه، او التخفيف من هذا وذاك قدر الامكان.
وفي هذا السياق يجري الحديث عن الزيادة الكبيرة في النفقات الجارية، في الوقت الذي لم تدفع فيه استحقاقات الشركات النفطية، ولا رواتب الكثيرين من متطوعي الحشد الشعبي، كما اوقفت رواتب موظفي الاقليم والبيشمركه منذ شهور، فيما الموازنة الاستثمارية معطلة، وتعويضات النازحين لم تصل الى الكثيرين منهم. ويمكن ذكر المزيد من التخصيصات التي لم تصرف، فيما تحيط شبهات فساد بجميع عمليات صرف التعويضات، حتى ان الملف بكامله جرت إحالته الى هيئة النزاهة.
وتقر الحكومة ووزير المالية بوجود سوء ادارة وإهدار يرقيان إلى مستوى العبث بالمال العام، الى جانب غياب السياسة الاقتصادية والمالية الرصينة. لكن المطلوب هو الذهاب ابعد من ذلك، وتوفير مزيد من الشفافية بشأن مبالغ الانفاق الفعلي ومجالاته، والكشف عما جرى من انفاق غير اصولي ولا دستوري، وتحديد المسؤوليات واتخاذ الاجراءات اللازمة بحق المقصرين والمتلاعبين بالمال العام والفاسدين.

من يتحمل أعباء التقشف ؟

يتضمن مشروع الموازنة المعدل، الذي لم يقر بعد في مجلس النواب، مجموعة اجراءات تقشفية مثيرة للقلق في معظمها. اذ تتضمن توصيات بتأجيل تطبيق سلم الرواتب الجديد للموظفين من الدرجة العاشرة إلى الدرجة الرابعة، وتأجيل الزيادات في رواتب الرعاية الاجتماعية، وتأجيل تطبيق منحة طلاب الابتدائية. فيما يجري الحديث عن تعديل نظام الرسوم والاجور والضرائب المعمول به حاليا، في اتجاه فرض ضرائب غير مباشرة على استخدام الهاتف المحمول، وعلى المبيعات وبعض المعاملات.
ففي حال تشريع وتطبيق هذه الاجراءات وفرض هذه الضرائب، وهي بجلاء ذات طبيعة بعيدة عن العدالة، فانها ستحمّل الشرائح الواسعة من الكادحين وذوي الدخل المحدود والمنخفض اعباء التقشف، في الوقت الذي يغيب فيه اي توجه لزيادة ضريبة الدخل التصاعدية مثلا على ذوي الدخول العالية، وزيادة معدلات الضريبة على مختلف أشكال الثروة.
وقد عرضت وزارة المالية تصوراتها ومقترحاتها لتمويل جزء من العجز المخطط المقدر بـ 27 تريليون دينار، يضاف اليه 16 تريليون دينار عن مستحقات اقليم كردستان لعام 2014، عن طريق اصدار حوالات خزينة من صناديق التقاعد وأموال القاصرين ومن المصارف الحكومية، إضافة إلى الأقتراض من صندوق النقد الدولي. لكن المتبقي غير الممول من العجز لا يزال كبيرا جدا وليس واضحا كيف ستجري تغطيته. ومعلوم ان طريقة تمويل العجز، التي ستتم اساسا عبر الاقتراض، سيكون لها بالضرورة تأثير على سعر صرف الدينار وربما على عموم الاسعار ايضا، ولا بد من التحسب لذلك من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية.
وتبقى الحكومة مطالبة في كل الاحوال بالعمل على تجنيب ملايين العراقيين المحرومين والكادحين وضعيفي الدخل ومتوسطيه، اعباء الاجراءات التقشفية بصورة مباشرة او غير مباشرة، والناجمة عن تقليص الانفاق على الخدمات العامة المتردية اصلا.

رعاية النازحين

لقد اضطر مئات الالوف من العراقيين لاسباب عدة، منها اعمال داعش الوحشية والعنف الطائفي، الى ترك ديارهم ومدنهم ومناطق سكناهم والانتقال الى مواقع اخرى. وهم عموما يعيشون اوضاعا صعبة ومأساوية في المخيمات والملاجيء الاخرى، وتتفاقم معاناتهم مع مقدم فصل الشتاء، ومع اخلاء بعض المدارس منهم، وتواصل انقطاعهم عن العمل، وعدم تسلمهم رواتبهم، وشحة المساعدات المالية المخصصة لهم والتي يختفي الكثير منها قبل ان يصل اليهم. كما ان هناك معاناة مضاعفة للاطفال وكبار السن، فيما تتواصل مشاكل الطلاب منهم وتبرز المعرقلات في طريق مواصلتهم للدراسة.
ان اوضاع النازحين بحاجة الى معالجات آنية عاجلة بعيدا عن الروتين والفساد، والى تخصيص الاموال الكافية لهم مع ضمان استلامهم اياها، وتأمين المأوى الكريم لهم وتخفيف معاناتهم.

مكافحة الفساد

تنص وثيقة الاتفاق السياسي على محاربة الفساد الاداري والمالي ومحاسبة المفسدين "واعتماد ستراتيجيات جديدة بما في ذلك مراجعة منظومة مكافحة الفساد، وتجاوز الثغرات القائمة". لكن ذلك لم ينعكس في البرنامج الحكومي، الذي اكتفى باشارة إلى "تطبيق خطة مكافحة الفساد 2014-2017". في حين ان التوسع السرطاني للفساد في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع، يستلزم تحويل مكافحته إلى حرب متواصلة على مستويات عدة، بينها بالطبع تفعيل التشريعات والانظمة والأجهزة والآليات التي بيد الدولة، وتحقيق الاصلاحات الادارية والمالية الضرورية على هذا الصعيد. ومعلوم ان الفاسدين والمفسدين لم يعودوا انفاراً معدودين، وانما اصبحوا شبكات متغلغلة في مختلف مؤسسات الدولة، وترتبط بمصالح خارجها، وتحتل مواقع ذات نفوذ وتأثير. لذلك فان توفر الارادة السياسية الحازمة لدى الحكومة شرط ضروري لمحاربة الفساد، رغم انها ستواجه مقاومة وضغوطا مضادة قوية، يساعدها في ذلك نظام المحاصصة والتربة الخصبة التي وفرها لانتعاش الفساد ولخلق مصالح متشابكة لصالحه. كما ان المحاربة الجذرية للفساد تتطلب ايضا القضاء على عوامل اعادة انتاجه. وهذا يقود الى الربط بين الاجراءات الادارية والمالية والمؤسسية، والمعالجة السياسية الهادفة إلى مراجعة جذرية لعملية بناء الدولة ولتوزيع المسؤوليات على اساس نظام المحاصصة الطائفية والاثنية، ومنح العملية بعداً مجتمعيا عبر اشراك قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني وأهلية ورموز وشخصيات ثقافية وعلمية واجتماعية وتربوية، اضافة الى تعزيز الجهد الحكومي بحملة شعبية واسعة، الى جانب اعادة بناء هيئات التصدي للفساد على اسس الكفاءة والنزاهة والمهنية.

العلاقة بين الحكومة الاتحادية والاقليم

يندرج تحسين العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، وحل المشاكل والعقد والاستعصاءات المرحّلة من حكومة ودورة برلمانية إلى اخرى، ضمن العوامل الاساسية في كل مسعى يهدف إلى اخراج العراق من أزماته، وترميم جبهته الداخلية واستنهاض قدراته الوطنية في مواجهة داعش والارهاب، واعادة العملية السياسية الى الطريق السليم بعد ابتعادها عنه. ولا شك ان طرفي العلاقة كليهما يتحملان، بهذا القدر او ذاك، مسؤولية ما آلت اليه. لكن المبادرة تبقى بيد الحكومة الاتحادية بحكم مسؤوليتها الدستورية.
وقد عالجت الموضوع ورقة الاتفاق السياسي في اربعة بنود ينص احدها على "الالتزام بايجاد الحلول المناسبة للخلافات حول استخراج تصدير النفط والغاز من اقليم كردستان" دون ايراد اية عناصر ملموسة، ما يعني ان الموضوع ما زال مفتوحا للنقاش والتفاوض. ولكن تم تثبيت سقف زمني امده ستة اشهر لتشريع قانون النفط والغاز وقانون توزيع الموارد المالية. كذلك نصت الورقة على التزام الحكومة الجديدة اطلاق سلفة اقليم كردستان فور المصادقة على تشكيلها، مقابل التزام حكومة الاقليم بتسليم كميات النفط المنتج من الأقليم. وتم ربط امداد البيشمركه بالامكانات اللازمة بتشكيل قوات الحرس الوطني حيث يتم ذلك من خلاله، وهذا ما يثير اشكالا حيث رفض الاقليم ربط البيشمركه بالحرس الوطني، مشيرا الى ان البيشمركه جزء من منظومة الدفاع الوطني لكنها لا ترتبط بوزارة الدفاع وانما برئاسة الاقليم، مستندا في ذلك الى المادة 121 من الدستور التي تعتبر تشكيل حرس الاقليم من اختصاص حكومة الاقليم.
وتلتزم ورقة الاتفاق السياسي ايضا بايجاد حلول لمشكلة كركوك وسائر المناطق المتنازع عليها في اطار المادة 140 في غضون سنة واحدة.
ومن المعلوم ان السبب الرئيسي لعدم استكمال تنفيذ المادة 140 يعود إلى غياب الارادة السياسية المشتركة لتحقيق ذلك. وإذا ما صدقت النوايا في هذا الشأن، يصبح التقدم ممكنا من خلال الغاء مجلس النواب عاجلا قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ذات الصلة، ومباشرته مناقشة مشروع القانون المرفوع من رئاسة الجمهورية والخاص بالغاء تغييرات الحدود الادارية للمحافظات، وهي التغييرات التي اجراها النظام السابق من منطلقات سياسية شوفينية. ومن الضروري ان تجري تهيئة الاجواء وتنقيتها من التوجس وعدم الثقة المتبادلين، باجراءات وخطوات عملية، وتوجيه خطاب تطمين وتهدئة من قبل القوى السياسية الممثلة لاهالي كركوك بكل اطيافهم القومية والدينية والمذهبية، وأن ترافق ذلك حوارات متواصلة لتقريب وجهات النظر وللوصول إلى توافقات.
وتشدد الورقة على اعتماد الدستور كمرجعية لحل الخلافات في شأن الصلاحيات والاختصاصات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الأقليم. وقد بينت تجربة السنوات السابقة ان مواد الدستور تحتمل الاختلاف في التفسير والتأويل، ومن هنا ضرورة توفر الارادة السياسية للتوصل إلى حلول توافقية، ولابداء المرونة والاستعداد لتقديم التنازلات المتقابلة. وقد برهن الاتفاق النفطي الأولي الذي جرى التوصل اليه اخيرا بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، على ان هناك امكانية واقعية للتوصل الى حلول للقضايا الخلافية عبر الحوار المسؤول والجاد، وذلك ما تتح الحاجة على مواصلته على كل المستويات.

العلاقة بين الحكومة الاتحادية والمحافظات غير المنتظمة باقليم

على الرغم من تشديد الدستور على اللامركزية، وقيام مجالس المحافظات وانبثاق السلطات المحلية عنها وفق آليات انتخابية ديمقراطية، وصدور القوانين المنظمة للعلاقة بين الحكومة والأقليم والحكومات المحلية، لا سيما القانون رقم 21 لسنة 2008 المعدل، الخاص بتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والمحافظات غير المنتظمة باقليم، تشكو الحكومات المحلية من عدم تنفيذ القانون المذكور لتنقل اليها الصلاحيات التي ينص عليها. ويعزى اساس الشكوى بدرجة كبيرة إلى تحكّم العقلية المركزية وتشبث المركز بالصلاحيات. لكن الضعف المؤسسي للاداراة المحلية يفسر جانبا آخر من المشكلة، وهو ما ينعكس في تدني نسب تنفيذ المشاريع في معظم المحافظات. كذلك تورد الصراعات بين الكتل المتنفذة في المجالس والحكومات المحلية كعامل معوق آخر.
ان نقل الصلاحيات إلى الحكومات المحلية حسب القانون، هو التزام دستوري وسياسي ويعتبر ركيزة مهمة لاستكمال وتوطيد البناء الديمقراطي للدولة. وان من شأن تنفيذه الارتقاء بمستويات الاداء الاقتصادي، ومعالجة العديد من التوترات والاحتقانات والشعور بالتهميش وعدم العدالة. كما يمكن ان يقدم مساهمة كبيرة في تحسين الوضع الأمني، وتمكين المحافظات من انشاء تشكيلات امنية محلية بالتنسيق مع الحكومة الاتحادية، تحظى بثقة الأهالي. وقد التزمت الحكومة الجديدة بالمضي في نقل ومنح الصلاحيات إلى الحكومات المحلية في مختلف المجالات، ولا بد ان يقترن ذلك بجهد تدريبي وتأهيلي وتمكيني لمؤسسات وإدارات الحكومات المحلية.
وارتباطا بهذه المهمات والتحديات، تواجه الحكومة ورئيسها العبادي مقاومة وعرقلة من داخل ائتلافه، وممن تُضرّ التوجهات الواردة في البرنامج وورقة الاتفاق السياسي بمصالحهم. يضاف الى هذا أن اسس المحاصصة التي اعتمدت في تشكيل الحكومة لم تأت بالأفضل والأكثر كفاءة في الاداء، وثمة خطورة في ان يجري اعتماد الاسس ذاتها في التعيين وتوزيع المواقع على المستويات الأدنى في الدولة. في حين ان نجاح رئيس الوزراء والحكومة كلها يعتمد إلى حد كبير على توسيع المشاركة في صناعة القرار، من الناحيتين السياسية والادارية، عبر الاستعانة باصحاب الخبرة والمعرفة والاختصاص، اضافة الى احترام السقوف الزمنية التي اعلنتها الحكومة، ذلك ان لعامل الزمن دور حاكم في ظروف البلاد الراهنة.
ونشير ايضا الى ان من بين عوامل العرقلة للمضي في طريق الاصلاح هو الصراعات والتناقضات بين الكتل، وفي داخلها، وصراعها المرير المتواصل على السلطة والزعامة والمصالح والنفوذ.

دورنا ومهماتنا في المرحلة الراهنة

كشفت الأحداث المأساوية التي شهدتها الاشهر الماضية عن فشل وفساد وخراب واسع في كل بناء الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية. وهو البناء المولود من رحم نظام ونهج المحاصصة الطائفية والأثنية الذي ارسته سلطة الاحتلال، بحثٍّ وتعاون من جانب قوى الطائفية السياسية.
لقد اثبت نهج ونظام المحاصصة انه منتج للأزمات ولعدم الاستقرار، فهو مضاد للهدف الذي يدعي مريدوه انه مصمم لاجله: تحقيق الاستقرار في بلد متعدد القوميات والاديان والمذاهب، وتوفير الاطار المناسب لتعايش اطياف الشعب المختلفة بسلام وأمان. وها هي تجربة السنوات الماضية التي لم تزكّ هذا النموذج في ادارة الحكم، الذي اوصل البلاد إلى حافة الانهيار والتفتت، ومكن داعش من السيطرة على اكثر من ثلث اراضينا، وسفك دماء الآلاف من ابناء شعبنا الذين يسقطون برصاص ارهابييه ومتفجراتهم بين شهيد وجريح ومصاب. فيما الافق يبقى ملبدا، وبصيص النور خافتا، خصوصا بالنسبة للشباب والنساء، حيث تنتشر البطالة في اوساط الشباب بوجه خاص، وتزيد كثيرا على النسبة التي تنشرها الدوائر الرسمية والبالغة 15,5 بالمائة بين الذكور و33,3 بالمائة بين الأناث، وفيما اموال الثروة النفطية الناضبة اما تذهب مباشرة الى جيوب الفاسدين المفسدين، او تهدر في مشاريع فاشلة ووهمية، لتنتهي اخيرا في جيوب الفساد ذاتها. وفي حين نمت وتنمو ثروات طائلة لفئة قليلة، يبقى الفقر يكبل ويستبيح ملايين العراقيين. ويترك ذلك انعكاساته وتأثيره على أحوال الناس وظروف معيشتهم، حيث تتعمق الفوارق في الدخل والثروة داخل المجتمع، وينمو قطبا الفقر والثراء الفاحش ، ويستمر التردي في الخدمات العامة، خاصة الصحية والتعليمية، ويستديم الهم الأكبر اليوم المتمثل بالتدهور الأمني وخطر داعش والارهاب عامة.
في ظل هذه الاوضاع يتنامى في اوساط اجتماعية وشعبية مختلفة، وإن بصورة بطيئة، الوعي بفشل مشروع القوى الطائفية، وبالحاجة الى البحث عن الحلول بعيدا عنها. وارتباطا بذلك يتزايد عديد من يتوجهون نحو الفكر المدني الديمقراطي. وقد عكست نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة هذا الحراك في المواقف، الذي تجدر الافادة منه في اجتذاب وكسب اوساط اوسع وجماعات أكبر لبديلنا السياسي، المتمثل في اقامة الدولة المدنية الديمقراطية.
ويتطلب الامر من الشيوعيين ان يحسنوا التحرك والنشاط في اطار دوائر عدة، متفاعلة ومترابطة، منها وفي صلبها ما يتعلق بالحزب وتعزيز تنظيمه الداخلي والارتقاء بدوره في الحياة السياسية وبالمستوى الفكري والسياسي لقاعدته والانفتاح على الصعيدين الديمقراطي والجماهيري. ويتصل البعد الاخر بتقوية التيار الديمقراطي وتعزيز العلاقة التحالفية في اطاره، وتنشيط تنسيقياته والعمل المشترك مع اطرافه الأخرى، وابراز دوره من خلال الفعاليات الجماهيرية والندوات واقامة الصلات والمشاركة في النشاطات المطلبية. علما ان في متانة التنظيم الحزبي قوة للتيار الديمقراطي، وبقوتهما معا يمكن تعزيز وتمكين التحالف المدني الديمقراطي، وهو ما ينبغي ان يظل موضع اهتمام ورعاية الشيوعيين.
ومن خلال العمل المنسق المنسجم والمتكامل للحزب وللاطارين التحالفيين المذكورين، سيكون بوسعنا العمل على احداث التغيير المنشود في موازين القوى المجتمعية. ونحن نعلم ان ترسيخ عمل التيار الديمقراطي والتحالف المدني الديمقراطي يعتمد إلى حد كبير على جهد ومبادرة الشيوعيين، والفهم السليم لأهمية هذا العمل.
وتبقى الاداة الهامة في عمل الشيوعيين ومحور عملهم تتمثل في صلتهم بالجماهير، وبمواقع تحشداتها، وفي تبني مطالبها والدفاع عنها. وقد كانت حركتها المطلبية والمساهمة الفاعلة فيها وستظل وسيلة الضغط لانتزاع الحقوق، وان علينا مواصلة تقاليدنا في هذا الميدان وابتكار مختلف اشكال التحرك والنشاط في اطاره. لقد اصبح مهما وواجبا استنهاض حركة جماهيرية واسعة.
وقد عبّر حزبنا عن هذه الوجهة عمليا في موقفه من الحراك الواسع لعمال وموظفي الشركات العامة الممولة ذاتيا المرتبطة بوزارة الصناعة، الذي شهدته اخيرا بغداد وعدة محافظات من اجل عدد من المطالب المشروعة، حيث عبر عن تضامنه معهم واسناده لتحركهم، وشدد على ضرورة استجابة الحكومة عاجلا لمطالبهم. ويبقى الشيوعيون واصدقاؤهم مدعوين للقيام بدور نشيط في النقابات والاتحادات، عبر مشاركتهم فيها والمساهمة في تعزيز مكانتها ودورها في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وعن منتسبيها.
واذ اتخذ الحزب موقف دعم الخطوات الايجابية للحكومة وانتقاد ما هو سلبي منها، فمن الواجب ترجمة ذلك عمليا على صعيد تنشيط العمل المطلبي والجماهيري. فالنشاط الجماهيري والضغط الشعبي مطلوبان في اتجاهين: اتجاه مطالبة الحكومة بتحقيق الوعود والالتزامات الايجابية الواردة في برنامجها، ومنها تشريعات الضمان الاجتماعي وقانون الأحزاب السياسية وغيرها، واتجاه تبني المطالب الشعبية بتأمين الخدمات ومكافحة البطالة وتوفير السكن وتلبية احتياجات النازحين. وفي رأينا ان الارضية مهيأة ايضا لاطلاق حملة شعبية لمكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين.
وان على الشيوعيين مهمة خوض النضال الفكري والثقافي، والعمل على تطوير النشاط في صفوف المثقفين وفي المجال الثقافي. خاصة وان لرفاقنا حضورا وعلاقات واسعة في هذا الوسط، وقد اقام العديد من لجان حزبنا المحلية مراكز ومنتديات ثقافية، بعضها بمشاركة واسعة من الشباب. وتبرز الحاجة هنا الى اعمام التجارب الناجحة، خصوصا في المناطق والأحياء الشعبية التي حققت المنتديات الشعرية نجاحا فيها، مثلما تحقق العديد من الفعاليات المطلبية الناجحة.
وعلى مستوى المهمات الآنية، يتوجب على الشيوعيين واصدقائهم المشاركة في جهود محاربة داعش ومكافحة الارهاب، سواء بالمشاركة في العمل المسلح ضد داعش من خلال الاطر التي توفرها الدولة للمتطوعين، ام في اطار فصائل انصارية في المناطق التي يوجد فيها انصار سابقون، وبالتعاون والتنسيق مع قوات البيشمركه او مع الجيش تبعا للظرف الملموس. كما ان عليهم الانخراط في فضح الحرب النفسية التي تشنها داعش وقوى الارهاب والتصدي لها، وضرب المثل في التوعية واستنهاض الهمم والمعنويات، والقيام بدور مبادر ونشيط في اطلاق الحملات الشعبية وتنظيم النشاطات الجماهيرية المتنوعة بمشاركة العناصر الديمقراطية الاخرى وغير الحزبية، والتوجه بالخطاب إلى عامة الناس.
وتبقى الدعوة موجهة الى اعضاء الحزب ومنظماته في المحافظات جميعا، لبذل كل الجهود الممكنة واطلاق شتى النشاطات والفعاليات، لاعانة النازحين والتخفيف من معاناتهم ومساعدتهم خصوصا على تجاوز صعوبات الشتاء الوشيك. والى جانب ذلك، يتعين الاسهام النشيط في ادانة انتهاكات حقوق الانسان، ودعم حملات المطالبة بانقاذ الايزيديات المختطفات من قبل عصابات داعش، والدفاع عن حرية التعبير والوقوف بوجه محاولات تقييدها والتضييق عليها. كذلك المساهمة الفاعلة في عمل ونشاط منظمات المجتمع المدني والاتحادات والمنظمات النقابية والمهنية.
ولا يمكن تحقيق هذه المهام بالصورة السليمة من دون استيعاب عميق لسياسة الحزب وامتلاك القدرة على نشرها والترويج وكسب التاييد والدعم لها.

التطورات في المنطقة

وتوقف الاجتماع عند أبرز ملامح الوضع في المنطقة والتطورات التي شهدتها الأشهر القليلة الماضية فيها، انطلاقاً من اهمية الاحاطة بهذه التطورات والاحداث والنظر اليها في ترابطها وتأثيرها المتبادلين.
وفي هذا السياق، جدد اجتماع اللجنة المركزية تضامن حزبنا مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال والاستيطان الاسرائيليين، وادانته جرائم الحرب في العدوان الوحشي على غزة، الذي جرى بتواطؤ امريكي مكشوف، كذلك ادانته الاعتداءات على القدس وتأييده الجهود الرامية الى تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية باعتبارها شرطاً رئيسياً للخلاص من الاحتلال، وتأمين الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير واقامة دولته المستقلة على أرض وطنه.
وأدان الاجتماع حملة القمع الشرسة المتواصلة التي تشنها أجهزة أمن النظام السوداني ضد كوادر قيادية في الحزب الشيوعي وناشطين ديمقراطيين، وطالب باطلاق سراح المعتقلين فوراً، وجدد تضامنه مع النضال ضد الدكتاتورية ومن اجل الحرية والديمقراطية في السودان.
وعبّر ايضا عن تضامنه مع القوى الديمقراطية في دول الخليج في نضالها لتحقيق اصلاحات ديمقراطية، ودعا الى وقف الاعتقالات والملاحقات السياسية التي استهدفتها، خصوصاً في البحرين والكويت والسعودية، كما عبر عن الامل في عودة الحياة الطبيعية الى اليمن وليبيا ووقف سفك الدماء فيهما، وبناء مستقبلهما وفقا لارادة شعبيهما الحرة.
ورحّب بالنجاح الذي حققته القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية في تونس في الانتخابات الاخيرة، مما سيسهم في انجاح التجربة الديمقراطية وتحقيق اهداف الثورة التونسية.
ودعا الاجتماع الى حل سياسي وسلمي للأزمة في سوريا، يقوم على حوار وطني شامل يجمع كل القوى المناهضة للتدخلات الاجنبية والمنظمات الاصولية الارهابية ولمشاريع تفتيت البلاد، والحريصة على الوحدة الوطنية، من اجل تحقيق السلام والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للشعب السوري. كما عبّر عن تضامنه مع الشعب اللبناني في تصديه للارهاب ونضاله من اجل التغيير الديمقراطي.