من الحزب

دائم الحضور بيننا، رفيقي "لطيف" / كمال يلدو

تختنق العبرات رفيقي الغالي "لطيف" كلما مــّر شهر شباط بنا، منذ اكثر من ثلاثين عاما، حينما نقف متأملين كوكبة الشهداء الذين نذروا اغلى ما يكون لهذا الوطن، او حينما يطل علينا شهر كانون الأول، شهر تنفيذ الجريمة بحقكم. اما لماذا تختنق العبرات، فهذه لها تفسيرات كثيرة أوجز منها ما يخصني، فهي تذكرني بأناس محبين وغالين غيبهم "عنف الدكتاتورية" الدموي، وهي ذات السماوات الملبدة بغيوم الحقد والكراهية التي دفعتني لمغادرة وطني الغالي ولليوم! وهذه الأسباب كافية لأن تسيطر علـّي امارات الحزن ولا تتركني الا بعد ان تأخذ حقها منـّي.
تعرفت على الراحل في اواسط السبعينات، كان من نشطاء الشبيبة الديمقراطية، وكنا، انا وأحد الأحبة، كلما مررنا من امام بيتهم، يمطرنا بكرمه ويطلب منا الدخول للبيت او شرب شئ ما ، هكذا كان، اسم على مســمى، وما زلت لليوم اذكر لون جدار بيتهم (السياج) الأبيض، في بغداد الجديدة، ذي الزخارف والباب الحديدي ايضا، حيث كنا نمر به كلما مررنا من خلف الشركة الأفريقية عند ساحة النافورة. غادرنا الفرح، وغادرتنا الأمنيات في العام 1979، عام الهجوم الدكتاتوري الحاسم، وصرنا كل واحد بديرة- ولم نسمع عن أناسنا الا الجزء اليسير، اما الفاجعة الأكبر فقد كانت عقب سقوط الصنم، حينما نشر الحزب الشيوعي العراقي القائمة الأولى بأسماء الشهداء والتي حصل عليها من ملفات مخابرات النظام الدموي البائد، في آيار 2003، اذ تضمنت كوكبة البطلات والأبطال الذين تحدوا صدام حسين وعصاباته، اذ بقت تلك الجريمة غير معلنة لسنين طويلة.
مع ان المشهد يبدو محزنا برمته، الا انه لا يخلو من المفاجأت، وهذه المرة كانت بالشاهدة البطلة-( بتول) ذات التسع سنوات عام 1980، ابنة اخ البطل "لطيف" وتقول: في احد الأيام دخلت (عصابة) من الأمن الى بيتنا وكانت تبحث عن (عمي)، ولحسن الحظ لم يكن موجودا، وأستطعنا ايصال الخبرله بالبقاء بعيدا عن البيت بعض الوقت، قررت العصابة، وفي تكتيك جديد، البقاء بالبيت متخفية، فألقت القبض على "عمي" في صباح اليوم التالي، حينما اتى للبيت، لم يكتفوا بذلك بل نصبوا كمينهم بالبقاء ايضا، فزارنا احد "الرفاق" الشهيد ابو عزيز- وعندما قرع جرس الباب، خرجوا له، وما ان حاول الأفلات منهم، حتى بادروه بأطلاق النار مما ادى الى اصابته ((وبالتالي القاء القبض عليه، واستشهاده لاحقا على ايديهم)).
بعد هذه الحادثة، مكثوا في بيتنا اسبوعا كاملا من اجل القاء القبض على اي شخص يأتي، لكنهم في ذات الوقت اقتادوا والدتي و والدي وعمي للتوقيف، امضت الوالدة اسبوعا فيه، لكن والدي وعمي قضوا 6 شهور، ويعلم الله وحده كيف مرت عليهم. لقد سمعت (والكلام للغالية بتول) من بعض الأخوة، ان مسألة مجئ الأمن لدارنا كان نتيجة وشاية (احدهم) من الذين عرفهم عمـّي "لطيف" لكنهم انهاروا امام التعذيب، ((وأنه اعدم لاحقا مع زوجته)).
كانت الأيام التي تلت هذه الحادثة مرعبة ومخيفة ومليئة بالأستفزاز من قبل المنظمة الحزبية، فقد كانوا تارة يأتون ويسألون عن "لطيف" ، وتارة يقولون انهم اعدموه، ثم تليها ايام ويأتون ويتوعدوننا بشتى التهم والعقوبات، لقد كانت حقا اياما مؤلمة وصعبة.
بعد العام 2003 علمنا بأستشهاده، وبعد جهد كبير عرفنا انه ضمن مجموعة من الشهداء في المقابر الجماعية، فقامت العائلة بحجز مكان خاص في مقبرة السلام بالنجف، خصصته لذكراه، نزوره بالمناسبات ونقرأ على روحه "الفاتحة". الشهيد لطيف فاخر نعمة النوري، من مواليد بغداد، درس الأبتدائية في مدرسة "الخيام" بمدينة الثورة، ثم اكمل الأعدادية في ثانوية" ابن رشد" ببغداد الجديدة، لم يتمكن من الحصول على قبول بأحدى الجامعات، فخضع للخدمة الالزامية، لكن في السنة الثانية ، قدم طلبا آخرا للقبول في الجامعة، فقبل هذه المرة في "كلية الآداب/ قسم اللغة الكردية" وأستمر به حتى اشتداد الهجمة الشرسة على الشيوعيين والوطنيين اواخر السبعينات.
اكتب لعائلة الشهيد الغالية، فربما لا نتذكر بعضنا الآخر، وربما سنلتقي يوما او لا نلتقي، لكن يقينا، مثلما هو غال عليكم، هو كذلك عندنا، ومثلما هو ابنكم، فهو اوينا ورفيقنا وحبيبنا، اما ان كانت الدكتاتورية والأيام الصعبة قد فرقتنا، فأن محبتنا لهؤلاء الأبطال كافية لأن تجمعنا. وانا على يقين بأن "لطيف" لم يصمد او يتحمل الألم ، ويضحى الا من اجل ان تشرق شمس العدالة والمساواة والحرية لهذا الوطن، ولهذا الشعب.
** للعوائل البطلة التي تجرعت الألم والتهديد....شكرا لصبركم
** لمن احب الشهيد او عرفه عن قرب...المودة
** لأهله وذويه الكرام...اسألكم الصبر وأتمنى لكم السلوان...وأشكركم على هذا الأنسان الرائع، اللطيف، "لطيف"
** للعزيزة بتول الغالية، وللمحب مصطفى، شكرا لمساعدتكم، وصبرا على مصابكم.