شهداء الحزب

(أبو فرات) مناضل من طراز خاص / سالم الحميد وأحمد الغانم

صدرت في لندن الطبعة الإنكليزية لكتاب " هادي لم يمت" تأليف السيدين عبد الله محسن وآلن جونسون بمبادرة ودعم النقابات البريطانية ( TUC ) .
يستعرض الكتاب المؤلف من 80 صفحة من الحجم الكبير مراحل حياة القائد النقابي الشيوعي الشهيد هادي صالح الزبيدي (أبو فرات) عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات العمال في العراق ـ سكرتير العلاقات الخارجية ـ الذي اغتالته يد الجريمة والإرهاب من أزلام النظام الدكتاتوري السابق في الرابع من كانون الثاني 2005. وتناول الكتاب جوانب من السيرة الذاتية والنضالية للشهيد. وفي لقاء صحفى شامل وطويل، أجراه الزميلان سالم حميد، واحمد الغانم، تحدثت الرفيقة كوريا رياح شباني (ام فرات) زوجة الشهيد ورفيقة دربه النضالي باعتزاز عن حياتهما المشتركة، واهم المواقف والمحطات التي جمعتهما في دروب الحياة والنضال.. نقدم للقراء عرضا مكثفا لما جاء في هذه المقابلة، تقول أم فرات:
كان العمل في دار الرواد المحطة الأولى التي جمعتني بالشهيد، وكان قد خرج توا من المعتقل، ومنذ الأيام الأولى لتعارفنا كنت مشدودة إليه، وهكذا كانت البداية. وفي عام 1976 تمت الخطوبة، بمساهمة من الراحل شمران الياسري، الذي زار والدي، وحدثه عن رغبة الشهيد في الزواج مني، لقد كان الحزب دوما حاضرا. وكانت البداية مقلقة، لان الأمن اعترض الشهيد ومجموعة من الرفاق، وهم في طريقهم لحفلة الزفاف، وأتانا هادي بهيئة لا يحسد عليها حيث كان هندامه غير مرتب قميصه نصفه خارج بنطلونه، وشعره "منكوش". وبسبب ضرورات العمل اختصرنا شهر العسل بثلاثة أيام. ولم نعش إلا سنة واحدة، او أكثر بقليل، بعدها غادر الشهيد الى بلغاريا لدراسة العلوم السياسية، ولحقت به في عام 1978 مضطرة، بفعل الهجمة الشرسة، التي شنها البعثيون على حزبنا الشيوعي والقوى الديمقراطية، بعد ان فقدت جنيني الأول نتيجة لاعتداء آثم تعرضت له من قبل كلاب الأمن السائبة. كانت عدن محطتنا الأولى في المنفى، حيث عملنا في جريدة 14 أكتوبر. وفي عام 1981 لبى الشهيد نداء الحزب للالتحاق بحركة الأنصار في كردستان، وفي سوريا تقرر بقاؤنا، لغرض العمل في إعلام الحزب. وفي مجال الإصدارات أصدرنا إصدارات عدة منها "طريق الشعب" بحجم صغير، "الثقافة الجديدة"، "رسالة العراق"، وإصدارات الحزب الأخرى.
وفي أواخر عام 1982 صدر قرار بإرسال فرات إلى مدرسة داخلية في روسيا في منطقة أسمها إيفانوفا مع عدد من الأطفال من حركات التحرر في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، راحت فرات وعمرها خمس سنوات ولم نرها اثنتي عشرة سنة سوى مرة واحدة، التقيناها بسوريا ولكن بسبب عدم وجود وثائق لها � لأنه عندما حين خرجنا لم تكن لدينا أية وثائق تثبت أننا أبويها - عادت فرات إلى موسكو. ثم انتقلنا الى السويد، واحتجنا عاما بأكمله، لنعيد فرات الى أحضاننا، ولكن فوجئنا بحواجز نفسية كبيرة تقف بينها وبيننا، بفعل سنوات الفصل "القسري" الطويلة التي عشناها. وبعد سنة كاملة عادت فرات إلينا.. ولكن كانت في حالة رفض تام لتواجدها معنا، حيث إنها لم تقبل التعايش معنا بسهولة، لكنها مع مرور الوقت استطاعت أن تتكيف مع الواقع الجديد وكان لولديها (أحفادنا) أثر كبير في إعادتها إلينا.
كنا نجلس أنا وأبو فرات دائما نراجع نفسينا نقول ترى هل نحن أخطأنا، ربما كان الجواب جاهزا لا نحن لم نخطئ، فلولا ارتباطنا بالحزب هذا الارتباط الحميمي، لما كان لنا هذا القدر من المعرفة والجرأة والقوة، وحتى علاقتنا الزوجية لما كانت بهذا الحب من الانسجام والاحترام المتبادل لو لم يكن الأنموذج الأمثل حاضرا ألا وهو الحزب الشيوعي.

سقطت الدكتاتورية فعدنا

هكذا قررنا العودة إلى بلدنا وإلى شعبنا وإلى جذورنا التي لم تنقطع رغم الغربة الاضطرارية الطويلة، قررنا العودة ولم يفهم أولادنا سر اتخاذنا مثل هذا القرار، لم يعرفوا لمَ حزمنا حقائبنا في وقت كنا نعيش فيه حياة هادئة، ودخلنا الشهري جيدا وكانت لدينا شقة وسيارة فخمة باهظة الثمن لم يمر شهرا بعد على شرائها. كنا محسودين على هكذا حال، وليس هناك من حاجة تضطرنا إلى العودة للعراق وخصوصا أنه لم يستقر بعد ولم تتضح الصورة.
قرارنا جاء سريعا وحاسما، إذ وضعنا أمام أعيننا أن هناك مهام جساما في انتظارنا.. فكان ثمة سؤال يدور في خلد ولدانا ((هل سترجعان للعراق...؟)) ومعناه تذكيرا بما نلناه من تشريد وهجرة وعذاب، ما الذي يجبركما على العودة، ربما ما دار في خلدهم دار في خلدنا لكن هناك وشائج قوية تشدنا إلى الوطن.
سقط صدام في 9/4/2003 وكان رجوعنا يوم 5/5/ 2003، تكحلت عيوننا برؤية العراق من جديد بعد اقل من شهر على سقوط الطاغية. وكان هو أكثر لهفة مني لرؤية شوارعها التي ألفت أقدامه وهو يجوبها مع رفاقه، وفي عيونهم تبرق آمال حياة جديدة "وطن حر وشعب سعيد"، وبناياتها التي طال الكثير منها الخراب نتيجة عنف النظام وحروبه العبثية، وحروب الامريكان، التي لم تنقطع.
لم تلهنا تلك المشاهدات عن البحث عن أصدقائنا ورفاقنا القدامى.. كلّ بحث عن ضالته، فهو رجع إلى دار الرواد التي كان أحد مؤسسيها، وعمل بها ما أن عاد، إضافة لعمله النقابي والحزبي.. وأنا عدت إلى مسقط رأسي الحزبي مدينة الثورة، زرت عوائل رفاقي القدامى، وعشت معهم، الذين هم بالأساس كانوا ملاذا لي قضيت معهم أجمل الذكريات. كانت هناك ثقة بالنفس الشيوعي والشيوعية وعلاقة احترام متبادل، لا بل كنا نزرع الثقة في قلوب من اعتراه الشك ونجعله يشعر بالسمو الإنساني والأخلاقي الذي يكتنف عملنا. كان الشيوعي قلبه نظيف تجاه الكثير من القضايا وخصوصا المرأة، لذا عشت معهم وكأني إحدى أخواتهم حافظ علي رفاقي في ذلك الوقت، أتيت لهم محملة بعبق ذكريات النضال الرائعة، ففرحوا بي مثلما فرحت برؤيتهم، وانغمرنا مع الرفاق في إعادة نشاط الحزب واستنهاض منظماته. كان أبو فرات يعمل عضوا في المكتب التنفيذي للاتحاد العام للعمال في العراق، ومسؤولا للعلاقات الخارجية فيه، الى جانب مهامه الحزبية المتعددة، حتى استشهاده.
قبل جريمة الاغتيال بعشرين يوما كان أبو فرات حاضرا في مؤتمر عمالي عالمي في اليابان، وبسبب مواقفه الشجاعة والجريئة في المؤتمر، تلقى تهديدا حتى قبل ان يعود للوطن، وبعد احتفالنا بمناسبة تأسيس الحزب في بيت الرفيق العزيز (أبو فكرت)، طلب مني ان اسبقه الى السويد، على أن يلحق بي.
تم اغتياله في بيته الكائن في شارع النضال بطريقة همجية من قبل شلة من القتلة من أيتام النظام السابق، كانوا خمسة أشخاص كما عرفت من تقرير الشرطة، حيث قام الأوغاد بربط يديه ورجليه وخنقه في كيبل التلفزيون إضافة إلى تعذيبه حتى الموت وتم اخذ وثائق تخص العمل النقابي وأقراص تخص المؤتمرات العمالية التي حضرها، علما انه تعرض للتهديد من قبل شخص بعثي سابق وعضو نقابة الميكانيك، وقد تم اعتقاله وخرج لعدم كفاية الأدلة.
رغم كل ما بي من آلام إلا أن تأنيب ولداي لي وتحميلهم إياي مسؤولية موته؛ إذ تنكر أبني لي بعد ذلك، كان مأساة بقسوة الموت ذاته. فهما كانا يعتقدان أنني من بعثت بأبيهما إلى حتفه، كانا يتصوران إن لي سلطة على قراراته، وكانا يظنان أن أبو فرات سهل التأثير عليه وعلى قراراته.. لذا تنكر لي أبني ولم أعثر له على عنوان بعد وفاة والده، فكنت كمن فقدت اثنين. وبعد أن فقدت أهلي وناسي في غربة الاضطرار أجد نفسي مضطرة من جديد لإيجاد مبررات أخرى لكل ما جرى..
وستمر الذكرى التاسعة على استشهاد الرفيق، وقبل أيام جددت قبره وبنيته بناء جديدا، أذهب إليه كل أسبوع، وأجلس قرب قبره، أحدثه، أسمعه أغاني فيروز التي كان يعشقها كثيرا، وكأنني أراه يشاركني نشوة الاستماع، أشعل له أعواد البخور، أحس به قريبا مني، حتى إن الناس ما عادوا يسألونني عن سبب أن فتح تلك الأغاني قرب القبر لأنهم ألفوا ذلك.
كنت قد طلبت أن يدفن في مقابر محمد السكران حتى لا أجد عذرا في ألا أزوره، ما زال الشهيد يعيش معي ما زال اسمه معلقا في رقبتي.. فأنا لا أعتقد انه مات، قد يكون مات جسدا لكنه ما زال يعيش في وجداني وفي ضمير الحزب وفي أعماله الكبيرة.
كانت حياتي معه هانئة إلى أبعد الحدود لم نختلف على شيء إلا في مجال وجهات النظر، أنا اعتبر عيشي معه طلية 31 سنة، علاقة نموذجية، كنا نحسد عليها من قبل أقاربي وصديقاتي. أعزي ذلك ليس لطبيعة (أبي فرات) الهادئة والعملية، ودماثة خلقه وطيبة قلبه بل لأن الغرس الجيد لمبادئ الحزب في داخله هو من أعطى تلك العلاقة هذا العمق، حتى في علاقتنا الحزبية كنا نتعامل كتعامل أي رفيقين، فليس هناك هاجس من أن أكون معه في خليته، وأن أكون مسؤولته أو يكون هو مسؤولي، وكثيرا ما أتعرض إلى عقوبات حزبية لكنني أجده يقف معي لأعود من جديد بعد جهاد مضن، وحتى حين التقيته في بلغاريا وعلم أن الجنين أسقط تلقى ذلك ببرود أعصاب، وقال: إننا ما زلنا شباب وأمامنا عمر طويل.
ربما الكثير من الحقائق تبقى خفية أمام عظمة مناضلي حزبنا ونحن نكشف بعض جوانب حياتهم وما بقي في الذاكرة من ذكريات، لذا كان لزاما علينا أن نؤرشف تأريخهم المجيد حتى لا يطويها الزمان. هكذا كان حديثنا ونحن نودع (أم فرات).