اعمدة طريق الشعب

"أويلاه عَ القنفة"! / مرتضى عبد الحميد

في البلدان الديمقراطية، وتلك التي بدأت خطواتها الأولى على هذا الطريق، يتركز البحث عادة وتكرس الجهود والطاقات لمعرفة الأسباب الحقيقية لأية أزمة يمر بها البلد، صغيرة كانت أم كبيرة، سياسية أم اقتصادية أم غيرها. لأنهم يعرفون جيدا أن الهرب إلى الإمام، أو القفز على المسببات الفعلية لتلك الأزمة، سوف يزيدها تعقيدا، ويفاقم مخاطرها، وربما تحل الكارثة من جرائها، إذا لم تعالج في وقتها. لكننا في العراق نرفض وبشدة هذا المنطق العلمي والعملي، وننحو باتجاه إدارة الأزمة وليس حلها، أو التخفيف من آثارها وتداعياتها السلبية، رغم أن أزمتنا السياسية خانقة وعامة شاملة، تهدد بالانفجار الذي لا يبقى ولا يذر.
ومع ذلك ترى القائمين على ادارة شؤون البلد يلفون ويدورون حول أنفسهم، دون أن يجرؤوا على الدخول إلى لب المشكلة أو الأزمة وتفكيك عناصرها ومكوناتها من اجل وضع اليد على سبل معالجتها، وحشد القوى والإمكانات المتاحة، القادرة على معافاة الأوضاع والعودة إلى السكة الصحيحة.
الأمثلة في عراقنا المغدور كثيرة جدا، بل هي لا تعد ولا تحصى، وآخرها ما قام به بعض المعتصمين أو المتظاهرين غداة دخولهم إلى المنطقة الخضراء، والى البرلمان، رغم أن الجميع يتفق على انه عمل غير مقبول، ويشكل خرقا لسلمية وحضارية الحراك الجماهيري، وقد أدين بما لا يقبل التأويل. لكن العديد من المتنفذين والمعادين للإصلاح والتغيير، وجدوا فيه فرصة لا تعوض، واعتبره البعض هدية نزلت عليهم من السماء، فوظفوها للتشبث بمواقفهم المعادية لما تطالب به الجماهير الغفيرة من إصلاح للعملية السياسية، ومكافحة الفساد، الوجه الثاني للإرهاب، وتوفير الخدمات الغائبة كليا، وبالتالي السعي و بكل ما لديهم من قوة، لتحقيق حلمهم الأثير في إنهاء التظاهرات و الاعتصامات وكل أشكال الحراك الجماهيري، التي تقض مضاجعهم وتجعل من حياتهم كابوساً يومياً.
أنهم حريصون جدا على المحافظة على «منجم» مغانمهم وامتيازاتهم اللا مشروعة والذي رفعوه إلى مرتبة «المقدس» وهو المحاصصة الطائفية – الاثنية، من دون أن يفكروا لحظة واحدة في التخلي عنه، أو المساس به.
لقد بالغوا كثيرا في ردود فعلهم على ما قام به المتظاهرون، وجسدوا ذلك خير تجسيد في وقفتهم البائسة أمام «القنفة» ولسان حالهم يقول «شكراً لك أيتها القنفة، سنجعل منك قميص عثمان جديد!» وظهروا كما لو أنهم أغلقوا مسامات عقولهم بالشمع الأحمر، وما تمخض عن ذلك من إصرار على تجاهل الأسباب الحقيقية، التي دفعت المتظاهرين و المعتصمين إلى الخروج عن المألوف، ولا سيما هوايتهم المفضلة في التسويف والمماطلة والكذب الصريح على الناس حتى في عملية التغيير الوزاري، التي هي جزء بسيط ويسير من عملية الإصلاح.
والشيء المثير للسخرية، أنهم لم يكتفوا بالوقوف أمام «القنفة المقدسة» والبكاء على أطلالها، إنما يريدون الآن ملاحقة المتظاهرين قضائيا، ومعاقبتهم على هذه «الخيانة العظمى» بدلا من تلبية مطالبهم المشروعة، وحقوقهم المسلوبة، وحشد القوى لمحاربة «داعش» وسائر الإرهابيين، الذين وجدوا ضالتهم في الصراعات العبثية بين القوى السياسية المتنفذة، وتشبثها بالكرسي حد الاستقتال، والموت في سبيله. فتمددوا مجددا، وبدأوا يهددون الجمل بما حمل.
انه التفكير السياسي الموغل في التحجر، والغارق في وحل الأنانية الشخصية والحزبية والطائفية، المفضي لا محالة إلى تدمير ما تبقى من العراق شعبا ووطنا وحضارة إن لم يجر تداركه ووضع حد لهذا السقوط الأخلاقي قبل السياسي.