اعمدة طريق الشعب

المثقفون والفراشات / محمد غازي الاخرس

اليوم ندّت مني «حسجه» بطلها الزعيم الشيوعي فهد. كان هناك حوار مع عدد من المثقفين، وحين وصلنا لاشتغال بعضنا في السياسة ودس أنوفنا فيها، وتورطنا أحيانا بمواقف نرجسية أو متقلبة، ضحكت وقلت موجها كلامي لهم ـ شكد كان فهد يفتهم إذن! وهنا انفجر الجميع بالضحك لأنهم التقطوا إشارتي، ومفادها أن فهد كان وصف بعض المثقفين وصفا قاسيا ذات يوم، فكتب أنهم «فراشات عاهرة»، في استعارة عميقة لتنقلهم من زهرة إلى أخرى، ومن مستنقع إلى مستنقع. وكل ذلك بحثا عن الرحيق والضوء والمتعة كما يقول في توظيف بديع.
حكايات هذه الفراشات كثيرة، ومحاولة استعادتها الآن تبدو من دون جدوى مع انتشار سيرتهم على الألسنة وتحولهم إلى غرض يخوض فيه «اليسوه والما يسوه». أعني المثقفين من أصحابي، الذين أعرفهم كما أعرف ملامح وجهي، فداعيكم واحد منهم رغم نقده المتواصل لهم. أتحدث عن البعض الكثير لا الأقلية.
مع هذا، لا ضير في الوقوف عند الباسوورد الذي يسهل لهم الانتقال في الحدائق بحثا عن الرحيق. ما هو سرهم؟ لماذا ينجحون دائما في خداعنا؟ سؤال كان أجاب عليه علي الوردي بطريقته الفذة فقال، وهو يبرر ركونه للسماع من عامة الناس، أن الانصات لـ»العاديين» يأتي انطلاقا من فكرة أنهم فطريون ولا يجيدون تزويق أنفسهم أو خداع سامعيهم. وهم، بهذا الشأن، يناقضون الأفندية والمثقفين الذين ينجحون دائما في حرف أنظارنا عن مرادهم الحقيقي. والسبب توفرهم على رأسمال رمزي ومعلومات ورؤى وبلاغات يحوزون بها سلطة المعرفة. هذا بالضبط ما يراه بيير بورديو مثلا. يقول «يستحوذ المنتجون الثقافيون على سلطة نوعية هي السلطة الرمزية، بالمعنى الضيق، لإظهار الأشياء وجعل الناس يؤمنون بها». ويضيف أنهم يكشفون عن خبرات مختلطة، غامضة وغير متشكلة، أو غير قابلة للتشكل، للعالمين الطبيعي والاجتماعي، وبهذا يأتون بها للوجود، و «قد يضعون هذه السلطة في خدمة المسيطرين». لا بل أنهم قد يضعون سلطتهم، «بمنطق صراعهم داخل مجال السلطة في خدمة الخاضعين».
ها هنا يكمن السر إذن. وهنا تحديدا يتوفرون على القوة التي يفتقر لها «العاديون». انهم، بالأحرى، يملكون الرأسمال المؤثر، البلاغة، الرموز، اللغة. هم سادة الفنون والآداب، وبإمكانهم أن يقلبوا الحق باطلا والباطل حقا. بإمكانهم إقناعك بالقضية ونقيضها، وحينئذ ستقول لهم «غصبن عله خشمك» ـ أي نعم! تقول ذلك وأنت تفرّ بأذنيك حيرة.
نعم، تسمعهم وتصمت عاجزا رغم أن حدسك يخبرك أنهم مخادعون. تقرأ لهم وتهزّ رأسك موافقا. وفي الخلفية، تتخيل فراشات ملونة تحلق من هذه الزهرة إلى تلك بحثا عن الرحيق.
ـ شكد كان يفتهم فهد!
ـــــــــــــــــــــــــــ
* عن جريدة «الصباح»