اعمدة طريق الشعب

مقبرة بيير لاشيه / قيس قاسم العجرش

بعد خطوات من محطّة «الكساندر دوماس»، الروائي صانع الشخصيات الخلّابة التي تلتصق بالذاكرة مثل كونت مونت كريستو.. ودارتانيان. على بعد خطوات من تلك المحطّة الباريسية، كانت هناك حاجة كبيرة لشرب قهوة ساخنة خفيفة بعد ان مشينا ساعتين أو أكثر. فاقترحت عليّ رفيقتي أن نعبر الشارع باتجاه مقهى ليموني الطابع، كل شيء فيه أصفر اللون، قالت إن القهوة فيه أكثر من رائعة. ولأن الشارع في تلك الساحة يتفرّع الى طريق ذي ممرين، فقد وجد أحدهم مكاناً ليفترش الأرض ويبيع الكتب. بالتأكيد لم أكن لأعتِق تلك(البسطية!) رغم أن الفرنسية كانت هي الطابع العام للكُتب التي فيها، ومع هذا فهناك نسخة إنكليزية من كتاب رائع للفيزيائي الأميركي لورانس كراوس، الذي كنتُ قد قرأت له فقط «كون من لاشيء». وهذه فرصة أن أقتني نُسخة مُستعملة ورخيصة من إصداره الجديد»أعظم قصّة يمكن أن تروى»، بسبب ما كان أحدهم قد اشتراها ثم تخلّى عنها، ويسبب أجهله وصلت الى بسطية ذلك الآسيوي.
قالت رفيقتي:»أنا لا أطيق أن أشتري كتاباً مستعملاً!». خالفتها الرأي، ولو أنني كنت في بغداد ورغبت في هذا الكتاب فالأمر سيكلّفني ثروة صغيرة.
كان المقهى الصغير يُطلّ على ثلاثة شوارع تنتهي عند شراشف طاولاته الصُفر. أحدها يخفي حديقة هرمة وكثيفة. حين أخذنا الحديث الى آخر الإصدارات ذكّرتني رفيقتي أن الحداثة يمكن أن ترتبط بالقديم عبر الفانتازيا أيضاً، وليس فقط عبر آخر ما يكتبه الأميركيون. (كانت لسبب ما كفرنسية تنظرُ الى كل شيء أميركي باعتباره حديثاً وغير متقن وبلا تاريخ!). وربما نال لورانس كراوس نصيبه من تلك النظرة غير العادلة. قلت: هناك من اكتفى أيضاً من الأدب الإنكليزي، وليس الفرنسي فقط، وربما سيعثر على شيء أحلى مع الفيزيائيين، مثلاً ستيفن هوكنغ يبيع اليوم من كُتبه أكثر مما باع كل أدباء فرنسا خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
لكن الفنتازيا لا تفرغ أكمامها، فالحديقة الهرمة التي جلسنا قبالتها لم تكن سوى مقبرة! وللصدفة كانت تضمّ قبور عظماء يقرأ لهم العالم. ومثلما لم أعتق البسطية، فلم أعتق المقبرة. وقفتُ كثيراً أمام أحد الشواهد الذي حمل اسم»أوسكار وايلد»، صاحب روايتي»الزوج المثالي»، و»صورة دوريان غراي». وهذه الأخيرة حشرها كاتبٌ شاب مغمور من البوسنة اسمه فانز هادزيك، في قصّة له، عنوانها»الحالة الغريبة لبينجامين زيك»، خلّد في القصّة مذبحة سربرينيتشا الشهيرة التي ارتكبها الصرب، وفاز بمجموعته كأفضل قاص أوروبي لعام 2013.
قلتُ بصوت مسموع: شكراً للمقبرة التي جلبت كل هذه السعادة.