اعمدة طريق الشعب

بين القتل وعبور الجسر ! / محمد عبد الرحمن

يتوجب كما يبدو ان نقيم الافراح، وننثر الزهور، ونوزع الحلوى، ونتباهى امام شعوب العالم. فلدينا نظام ديمقراطي لا مثيل له، عال العال، يعطينا حق الاختيار! أليس هذا مطلبا مهما واساسيا من متطلبات الديمقراطية ؟.
الاختيار هو تعبير عن الارادة الحرة. ولكن ووفقا لما ترسخ في بلدنا فان الاختيار عندنا يسير على قاعدة: تريد ارنب اخذ ارنب.. تريد غزال اخذ ارنب!.
فديمقراطية من بيده القرار في عراقنا المنكوب تخيرنا بين الاستشهاد وبين القبول بالامر الواقع بكل ما يحمله من سوءات وكوارث. وهذا ملخص ما جرى يوم السبت (11 شباط الجاري)، وهو ما اراد قوله من امر باستخدام الرصاص الحي والمطاطي والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين.
بعد هذه الفعلة الشنيعة، هل ينفع القول ان التظاهر حق دستوري وقانوني مكفول؟ والانكى انه لا يُكتفى بذلك بل وتضاف كلمة «لكن». وفي هذه الـ «لكن» تتجسد مواقف وتظهر تبريرات، وفيها ايضا تكشير عن الانياب. وهذا وليس غيره ما يدلنا على حقيقة وكنه وطبيعة المتنفذين ومن اي طينة هم، وفيه يكشفون عن ما يعتور نفوسهم وما يريدون، ولا تسعفهم هنا كل ادوات وتعابير «التورية».
«لكن» المتنفذين هذه تلخص حقيقة الحالة الراهنة وما يرتبط بها من مواقف، وهي بالضبط ما يستهدفه المواطن المحتج والمتظاهر في حراكه. فتلك المواقف وما يستتبعها من اجراءات ذوي القرار هي ما يدفع الناس الى الخروج الى الشارع، والمطالبة باعلى صوتها بالاصلاح والتغيير، واعلان موقفها الرافض للفساد وشبكاته في مؤسسات الدولة وخارجها، مع المطالبة المستمرة بحياة تليق بمواطني بلد ينام ويصحو على ثروات طائلة، جرى تبديدها بهمة من تولى الامر منذ عام 2003.
ان خروج المواطنين الى الشارع هو في الاساس رفض لهذه الـ «لكن» بما يعني الرفض للواقع القائم المبني على خطيئة كبرى يتمسك بها الفاشلون والفاسدون. فهي تديم لهم كراسيهم الوثيرة، وما تدره عليهم من مغانم ومكاسب وسلطات ونفوذ وقرار، ومن قضم للدولة وهيبتها ومؤسساتها خدمة لمصالح ضيقة وانانية،هي في جميع الاحوال لا تعبر عن مصالح قومية او طائفة معينة او منطقة بحد ذاتها، قدر ما تعبر عن مصالح افراد معينين معدودين يحسبون انفسهم ممثلين لمكونات!
جوهر الامر يكمن في المصالح التي يدافع المتنفذون عنها ويريدون توسيعها واعادة اقتسامها. فهي بالنسبة اليهم اغلى واثمن من مصالح الشعب والوطن، وهم كما بينت التجربة اكثر من مرة، لا يتوانون عن اللجوء الى كل اساليب العنف بما في ذلك ارهاب الدولة، اذا شعروا ان الكراسي اخذت في الاهتزاز من تحتهم، وانهم في طريقهم الى فقدان الكنز الذي لم يكن يلوح لهم حتى في الاحلام!. هذه هي الحقيقة ولن تنفع كل الكلمات المعسولة في التغطية عليها.
ان هذا الواقع السيئ والمتردي الذي يريدون ادامته وفرضه وتأبيده، او تزيينه ببعض الاجراءات الترقيعية، سيدفع احوال البلد ان استمر فهو الى ما لا تحمد عقباه. هذه القناعة الآخذة في الاتساع لدى اغلبية متضررة مسحوقة من المواطنين، هي ما يدفع اساسا الى حالة الرفض والاحتجاج للواقع القائم والسعي بكل الوسائل السلمية والدستورية الى تغييره.. وهذا بالقطع لن ينسجم، باي حال، مع تأبيد المحاصصة تحت عناوين ومشاريع قديمة جديدة.
امام واقع كهذا، تبقى الكتلة البشرية الواسعة والكبيرة مطلوبة لتغيير موازين القوى، وفي اتجاه تحقيق التغيير المنشود، والعبور بالوطن الى شواطئ اخرى لا مكان فيها لمن يخير الناس بين القتل وعبور الجسر!