اعمدة طريق الشعب

حـُرّيات! / قيس قاسم العجرش

علينا أن نعترف، بأن الدستور(على ما فيه من ارتقاء بمستوى الحرّيات المضمونة) ما زال في خطر. والخطر يكمن في كونه علّق الضمان والتنفيذ على قوانين تسن لاحقاً. وها قد مضت اثنتا عشرة سنة دون أن ترى هذه القوانين النور، بل أن هناك من جَعَلنا نفضّل أن تبقى في عِلم الغيب بدلاً من سنّ قوانين مشوّهة.
ولأن باب الحريات الموصوف في الدستور يوصي بأن تسن القوانين اللازمة لغرض جعل الوصف ينطبق على الحال العام، فقد أخذ البرلمان على عاتقه(ومعه حكومته)أن يصوغ هذه القوانين. لكن البرلمان(ومعه حكومته) لا يستذكرون سن هذه القوانين إلّا حين يقترب موسم الانتخابات. وقد اكتشفوا منذ مدّة بأن (دُرج) رئاسة مجلس النواب هو أفضل مكان لحماية مشاريع القوانين فيما لو جرت استثارة الرأي العام الممتعض أصلاً من الأداء الأعرج لبرلماننا(ومعه حكومته) في مجال الحريات.
وكلّما علا الصخب عن مواد هذا المشروع القانوني، واستزاد الناس بفضيحة اضافية عما يقرأون ويكتشفون من ألاعيب، كلما سارع البرلمان الى سحب مشروع القانون لأجل امتصاص الغضب الشعبي. وما هي إلّا ايام وتبرد سورة المحتجّين لينشغلوا بمسلسل لا ينتهي من سوء استغلال الفرص، وتفشي الفساد والمحسوبية والإقطاعيات الحزبية.
في الحقيقة كرر البرلمان(ومعه حكومته)هذه اللعبة مع قانون حرّية التعبير وحق التظاهر ثلاث مرّات حتى الآن. لكن المحصّلة المخيفة أنه وصل عبر التكرار الى مرحلة التصويت. الحراك المدني الشعبي بدوره لم يترك البرلمان هانئاً بسلاسة تمرير القانون، وأسفرت احتجاجاته عن سحب مشروع القانون مؤقتاً. لكن الخطر مازال موجوداً. وربما ليس من اليسير معرفة الأسباب التي تدعو البرلمان الى تمرير قانون يمنح الحكومة والسلطة التنفيذية إرادة محاصرة أي حق بالتظاهر، وتمييع أي طلب للموافقة على الخروج في تظاهرة.
العجيب في الأمر، أن السلطة التنفيذية التي دأبت على عدم الاكتراث للمتظاهرين المطالبين بالإصلاح، والتقليل من شأنهم، والاستهزاء بأعدادهم القليلة، إنما تشغل نفسها كثيراً، كثيراً جداً بجهود محاصرة الحقوق والحرّيات التي نص عليها الدستور، بل إنها اشركت التشريعية معها في ذلك.
يبدو أن الدستور (الذي ما زلنا نعدّه ضمانة للحرّيات) هو المستهدف من هذه القوانين التي ستعمل على تفريغه من محتواه، لكننا نجد أن الحراك المدني(على صِغر رقعة انتشاره) قد صار ضمانة لحماية الدستور نفسه كي لا يُفرغ من محتواه.
فشكراً لهذا الحِراك الذي يعمل فعلياً على(حماية) الدستور من تأثيرات الحكومة(ومعها برلمانها)، بدلاً أن يحتمي به. ثم أن برلماناً لا يُحاسب الحكومة، ويُمرر لها قوانينها المقيّدة للحريات، لا بد ان يكون برلماناً (تابعاً) لها، وان يكون تمثيله للحكومة أعمق من تمثيله المفترض للشعب.