اعمدة طريق الشعب

بعيدا عن نشوة النصر !/ محمد عبد الرحمن

ما زالت تداعيات العلاقة المتوترة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وقضية الاستفتاء تتفاعل، حاملة مواقف متباينة الى جانب إمكانية حلحلة للأزمة، خصوصا بعد انتشار القوات المسلحة العراقية في اغلب المناطق المشمولة بالمادة ١٤٠، وفق اتفاق مسبق كما اصبح واضحا الان .
وبقدر ما بينت الأحداث الاخيرة حقيقة مواقف مختلف الاطراف والشخصيات، فان انطلاق البعض من الحالة الراهنة واعتبارها نصرا يستند اليه في اعادة رسم معالم اللوحة السياسية والإدارية القادمة في العراق والإقليم، ينطوي على قدر كبير من السطحية وعدم الدراية والخفة السياسية. ومبكرا يمكن القول انها ايضا تحمل مخاطر جسيمة، وتشكل قنابل موقوتة لا تفضي الى حالة استقرار دائم لدولة، يتطلع العراقيون بعد هذه التجربة القاسية الى بنائها على نحو مختلف تماما عما هي عليه الان .
لقد حملت التطورات الاخيرة دروسا وعبرا غنية سواء للإقليم ام للحكومة الاتحادية، ولمن يريد الاستعانة بها في التعامل مع مستقبل ما زالت تتقاذفه ميول واتجاهات وتخندقات عدة. ولعل في تصريحات العبادي الاخيرة ما يجعل المرء يتوصل الى وجود نوع من الإدراك لخطورة تحول الاختلاف الراهن بين بغداد واربيل الى حالة حرب، هي حتما مرهقة ومدمرة لكل الاطراف. ولكن اذا كان هذا هو الموقف العام للحكومة الاتحادية، وهو سليم في عمومه، فليس صحيحا بالضرورة ان الأمور سارت على الارض وفقا له. فهناك تجاوزات وانتهاكات قامت بها عناصر وأفراد وجماعات ، تصرفت وفقا للمنطق المُهلك والمدمر، منطق المحرر والغالب والمغلوب الذي لجأ اليه البعض سابقا وكانت نتائجه كارثية.
فمع الحاجة الى الموقف العام السليم للحكومة الاتحادية، يبقى الأهم كيف تدار الأمور بتفاصيلها، وهنا لا تكفي المناشدة بل من الضروري اتخاذ المواقف ازاء الخروج عنها، وفي هذا السياق يأتي تصريح وزير الداخلية موفقا في تأكيده على ملاحقة من ارتكب التجاوزات ، صغيرها وكبيرها ، ومن المهم إقران هذا القول بالفعل، كي يطمئن المواطنون على اختلاف اطيافهم .
والمسألة الأخرى التي يتوجب ان تبرز امام صانعي القرار في بغداد، هي ضرورة اليقين التام من ان اوضاع الإقليم لا يمكن التعامل معها بالغطرسة والعنجهية، وبالتمادي في الإجراءات ضد شعب الإقليم وممثليه. وقد فعل صدام هذا من قبل والنتيجة معروفة .
وتبقى امام قيادة الإقليم وأحزابه ضرورة دراسة ما حصل بتمعن، والتوقف عند السبل الانجع لنيل حقوق شعب كردستان والرجوع في ذلك الى الماضي البعيد والقريب. وان اي دراسة موضوعية في هذا الشأن ستتوصل الى الاستنتاج ان السعي الى تحقيق تلك الحقوق بالقفز على الواقع وإسقاط الرغبات عليه، وبالتعويل على دعم افتراضي من الخارج ، سيؤخر تحقيق تلك الحقوق ويضر بقضية الشعب الكردي قبل غيره. ولعل في ما حصل لجمهورية مهاباد وفي سنة ١٩٧5 ما يدعم ما ذهبنا اليه .
وفي اللحظة الراهنة، وحتى لا يصل البعض الى مبتغاه في تعميق الجانب السلبي لما حصل ، يتوجب الانطلاق من دون شروط وبعيدا عن نشوة النصر، نحو معالجة وطنية شاملة. وقد يكون في اعادة ترتيب الأوضاع في الإقليم انطلاقا من مصلحة الشعب الكردستاني وبعيدا عن الذات المنتفخة والأنانية والمناطقية والحزبية الضيقة ، ما يسهل الامر. فيما يتوجب على الحكومة الاتحادية والسلطات الثلاث تهيئة الظروف لتجاوز تعقيدات ما حصل، ولجم الأصوات التي ما برحت تحرض على الفتنة وتؤجج مشاعر العداء والكراهية، والمبادرة الى اطلاق حوار وطني جاد. مع الإشارة الى ان الجميع ، بمن فيهم القوى والأحزاب العراقية والكردستانية، ينتظرهم عمل كثير لإعادة اجواء الثقة وخاصة على الصعيد المجتمعي، والمضي قدما نحو بناء الدولة الديمقراطية الاتحادية على أسس سليمة تقوم أساسا على المواطنة وتوفير الفرص المتكافئة. وهذا ما يوفر الاطار السليم لبناء وحدة وطنية طوعية سليمة، تقوم على قاعدة الاعتراف، بالقول والفعل وبدعم دستوري، بان العراق وطن لكل ابنائه.