اعمدة طريق الشعب

الخلل في بناء الدولة وتداعيات الاستفتاء / محمد عبد الرحمن

هناك شعرة تفصل بين الحق وممارسة استحقاقاته ، وبين الصلاحيات وفق الدستور والقانون، والتمادي في استخدام تلك الصلاحيات والتوسع فيها . فباسم الدستور يمكن ان تنتهك مواده ويتم التجاوز على مضمونه وقتل روحه التي كانت وراء صياغة فقراته . والامر يغدو شديد الالتباس عندما تكون مواد الدستور حمالة أوجه.
وعندما جرى التصويت على الدستور كانت هناك ملاحظات على العديد من مواده. وقد سهلت الصياغات الضبابية للعديد منها للقوى المتنفذة على اختلاف مسمياتها استغلال ذلك ايما استغلال، ساعية الى تكريس نفوذها وهيمنتها واختيار ما يناسبها منها. وجرى التمادي في ذلك من قبل الكل الذين استمرأوا المحاصصة بما وفرته لهم من غطاء لتأمين سلطتهم ، فاستبدلوا العديد من مواد الدستور وروحه بتوافقاتهم وصفاقتهم السرية والمعلنة، التي كانت عرضة للتغيير حسب موازين القوى بين تلك الاطراف المتنفذة ،وحسب شدة تأثير الاطراف الخارجية عليها والتي تحولت بفعل المتنفذين الى عامل حاسم في رسم مسارات السياسات في بلدنا . وبما ان لهذه الاطراف الخارجية مصالح متباينة ومتقاطعة ولا تنسجم بالضرورة مع مصالح شعبنا ، وان توافقت مع بعض مطالبه في أوقات معينة ، فإنها لم تسمح للقوى الداخلية العراقية بإيجاد مرتكزات وتفاهمات وطنية راسخة ومقبولة، يتم الرجوع اليها في معالجة ما يطرأ من تطورات .
وازداد الامر تعقيدا عندما جرت عرقلة بناء مؤسسات الدولة والحيلولة دون بسط سيادة القانون على الجميع وغياب دور فاعل للرأي العام وهيئاته ، فضلا عن غياب المعايير في إسناد الوظيفة العامة ، ونعني معايير الكفاءة والمهنية والنزاهة والاخلاص للتجربة الديمقراطية الوليدة والسعي الى تثبيت ممارسة سليمة لها .
ومن جانب اخر لم يمارس القضاء العراقي دوره المطلوب وحرصه على تثبيت روح الدستور وحفظ هيبة القانون والدولة. ، فكان ، للأسف ، هدفا لاتهامات ، وفي أوقات مختلفة ، بانه يتخذ قرارات سياسية ويميل عموما الى مركز القوة النافذ . فالقانون ايضا مثلما يكتبه بشر ، يفسره بشر ، مع ما يحيط بهم من ظروف . وساهم غياب المحكمة الدستورية ، التي يفترض ان تكون حامية وحارسة لحسن تطبيق الدستور ، في خلق هذه الاشكالية وزيادة تأثيرها السلبي .
فصحيح ان الدستور ، رغم ما فيه من نواقص وثغرات ، يبقى المرجع في الظرف الراهن وما يجب الاحتكام اليه ، ولكن يتوجب الإدراك العميق من قبل من بيده القرار في بغداد واربيل ، بان الدستور كتب في لحظة توافق وموازين قوى معينة ، ما يوجب الحذر من التفسيرات وحيدة الجانب والتعسف فيها، او ان لا يؤخذ الدستور بكليته وعلى نحو انتقائي ، خصوصا الان في هذا الظرف الذي يحتدم فيه التوتر بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ، وما يؤشره من صلاحيات للطرفين ، والسعي قدر المستطاع الى تجنب فرض حقائق جديدة متعلقة بتغييرات موازين قوى . فهي وان بدت مغرية للبعض ومعالجة لما تراكم من مشاكل جرى تركها تتراكم مراعاة لمصالح ضيقة ، فإنها لن تجلب الأمن والاستقرار ، ويقينا انها لن تقود الى بناء دولة متماسكة ونسيج وطني متين ، على الرغم من الوحدة الشكلية الظاهرية.
ان ما يحصل الان وما أعقب الاستفتاء من تداعيات ، قد سلط الاضواء كثيرا على قضية بناء الدولة الاتحادية المؤسساتية الحقة، وما توجبه من تحديد واضح للصلاحيات بين مختلف الاطراف، وتحديد اكثر ملموسية لآلية اتخاذ القرار ومنع التداخل بين السلطات الثلاث ، مع التشديد على الديمقراطية توجها وممارسة وبناء مؤسساتها الضامنة .