اعمدة طريق الشعب

حرامي الهوش وحرامي الدواب! / جاسم الحلفي

المتنفذون الذين رسخوا مواقعهم في مؤسسات الدولة، بعد ان وفرت لهم السلطة المكاسب والمنافع والجاه والنفوذ، وأسسوا بالمال السياسي الذي اكتنزوه بفضل مواقعهم في الحكم امبراطوريات مالية واعلامية كبيرة، وزرعوا اتباعهم في كل مفاصل الدولة، ومارسوا مختلف الاساليب الشرعية وغير الشرعية، وسلكوا كل الطرق الملتوية ومارسوا صنوف فرض الارادات، من اجل البقاء في السلطة التي تشتد حاجتهم اليها اليوم بسبب ما توفر لهم من الحصانة والحماية من الملاحقات القانونية في قضايا سوء الادارة وملفات الفساد..
هؤلاء المتنفذون يشكل البقاء في السلطة قضية مفصلية بالنسبة اليهم، لهذا كان صراعهم من اجل محاصصة مفوضية الانتخابات شديدا وضاريا. وقد تمظهر في وجهين، الاول هو الصراع الاساسي مع حركة الاحتجاج، التي ركزت على مطلب اصلاح المنظومة الانتخابية برمتها، من القانون الى المفوضية مرورا بالاجراءات. وقد وقفوا في وجه جماهير المحتجين بشراسة غير معهودة، وجندوا كل امكانيات القمع والتشويه والتخوين، ولم يوفروا وسيلة لاضعاف الحركة والقضاء عليها الا واستخدموها. فهم يدركون ان اصلاح المنظومة الانتخابية هو المدخل القانوني لازاحتهم من مواقع السلطة! ذلك ان قانونا عادلا ومنصفا للانتخابات، ومفوضية مستقلة لادارتها، وسجلا انتخابيا موثوقا، واجراءات نزيهة تحد من عمليات التزوير .. هذا كله سيشجع المواطنين على الاشتراك في الانتخابات من اجل التغيير. وذلك ما يوفر فرصة لتمثيل مناسب لحاملي مشروع الاصلاح في السلطة التشريعية.
لذلك صار الافراط في العنف وصارت القسوة الاسلوب المفضل في مواجهة حركة الاحتجاج. فجرى استخدام الرصاص الحي والمطاطي والغازات المسيلة للدموع ضد المتظاهرين السلميين، ما ادى الى سفك الدم الزكي وسقوط الشهداء. كما تواصلت ملاحقة الناشطين وارهابهم، بهدف كسر ارادتهم وثنيهم عن مواصلة انشطتهم المناهضة للمحاصصة والفساد.
اما الشكل الآخر للصراع، فهو الذي احتدم بين المتنفذين انفسهم على حصة كل طرف من مقاعد مجلس المفوضية. فلا طرف يقتنع بخيار الآخر، الكل متوجس من الكل، وما يختاره بعضهم يثير الارتياب عند البعض الاخر، كونهم مشتركين في اللعبة، ويعرفون خيوطها، وينطبق عليهم المثل الشعبي القائل «حرامي الهوش يعرف حرامي الدواب».
وفي اجواء عدم الثقة المخيمة كان الخيار الانسب لهم هو الابقاء على المفوضية القديمة، التي سبق ان رتبوها على مهل، وسارت في عملها كما يجب وفق نظام المحاصصة. لكن خيارهم هذا لم يكتب له النجاح، فتوالت المساعي لتوافقات جديدة بعد رفض خيار ادارة الانتخابات من قبل القضاة، الى ان افلحوا في تمرير صفقة المحاصصة مرة اخرى، بالطريقة الفاضحة والمخجلة التي شهدناها هذا الاسبوع.
ولقد كشف هذا زيف ادعاءاتهم بمغادرة نهج المحاصصة المقيت، وعرّى صفقاتهم، وبرهن مجددا على عدم اكتراثهم بحجم وتأثير الازمات وتفاعلاتها، وهي تهدد وحدة وسلامة العراق. فالمهم عندهم هو ترسيخ وجودهم في السلطة، واعادة تدويرهم فيها عبر نهج المحاصصة الذي يؤمّن لهم ذلك. وما الاصرار على اختيار مفوضية جديدة بالمحاصصة ذاتها التي انتجت الخراب وسوء الخدمات وانتشار العنف وتمترس الفساد في مفاصل الدولة، إلا دليل آخر على وقوفهم بالضد من مصالح الشعب، وعلى ان كل تصريحاتهم التي يدينون فيها المحاصصة، ويدعون مغادرتها، ليست سوى كذب مكشوف.