اعمدة طريق الشعب

الاختناقات السكنية والمرورية.. إلى متى؟! / ودود عبد الغني داود

أزمات خدمية خانقة عديدة يعانيها العراق اليوم، ترمي بثقلها على كواهل العراقيين، من بينها التجاوزات على الأماكن العامة وعلى التخطيط العمراني، فضلا عن سوء التوزيع السكاني وتدهور القطاع الزراعي والاختناقات المرورية، وغيرها من المشكلات الخدمية المزمنة. وقد تعددت المحاولات والاقتراحات والوعود، وخابت جميع الآمال في معالجة تلك الأزمات، في بلد تعاقب على حكمه دخلاء على السياسة والإدارة.
وبحكم طبيعة العراق المتمثلة في خصوبة اراضيه ووفرة مياهه واعتدال مناخه وغيرها من المميزات الاخرى، عرف كبلد زراعي منذ القدم، حيث كانت نسبة نفوس القاطنين في القرى والارياف الى عهد قريب تعادل ما يقارب 70 في المائة من نفوس البلد.
وبعد ان تمكنت قوى الشر والعدوان من الاطاحة بثورة 14 تموز 1958، في يوم 8 شباط الاسود عام 1963، تكالبت على تدمير جميع منجزات الثورة الفتية، بما فيها مشروع او قانون الاصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي اريد به دعم الجمعيات الفلاحية وتعزيز الانتاج الزراعي والحيواني والصناعات الشعبية وحماية حقوق الفلاحين الفقراء وتشجيعهم على العودة من المدن إلى القرى والأرياف التي هجروها على إثر جور الاقطاع والفقر المدقع. وقد عالج القانون الكثير من القضايا الزراعية والسكنية بصورة علمية، كان من المؤمل ان تحافظ على سلامة وطبيعة التوزيع السكاني الذي له الدور الاساس في تجانس واستقرار الأوضاع الاجتماعية والادارية والخدمية والامنية.
إلا انه، وبغياب القوى الوطنية بكوادرها الاكاديمية والمهنية والميدانية، وبسبب تعاقب الطغاة واللصوص والظلاميين على حكم العراق بقراراتهم الفردية والمزاجية وحروبهم العبثية وغيرها من التخبطات، كل ذلك أدى بالتالي الى إلحاق ضرر بالغ بطبيعة الحياة في القرى والارياف، ما دفع مجاميع كبيرة من الفلاحين الشباب نحو الانخراط في صفوف القوات المسلحة لقاء منحهم قطع اراض في المدن، وتسليمهم سيارات صالون بالاقساط المريحة. ومقابل ذلك قلصت الخدمات في القرى والأرياف، وانحسرت فرص العمل، الأمر الذي ادى الى انتشار البطالة في تلك المناطق، وإلى اضطرار الملايين من العائلات الفلاحية للنزوح نحو المدن بوتيرة متصاعدة، حتى تفاقمت الأزمة وأصبح حلها عصيا.
وخلاصة القول، ليس من السهولة حل هذه الأزمات اليوم بعد أن وصلت ذروتها، إلا بوجود أشخاص أكفاء حريصين على مستقبل بلدهم، يأخذون على عاتقهم هذه المهمة، ويتعاملون معها وفق الأساليب العلمية الرصينة وليس الترقيعية. فأموال هائلة تم نهبها وتبذيرها طيلة السنوات المنصرمة على مشاريع خرقاء لغرض استيعاب الزخم السكاني في المدن، كبناء المجسرات وفتح الانفاق وتوسيع الشوارع، إلا ان ذلك لم يمثل سوى حلول ترقيعية. ولو ان تلك الأموال استغلت في إعادة اعمار مئات القرى والارياف، وتوفير مستلزمات العيش فيها، وتشجيع سكانها الأصليين على العودة إليها مجددا، لعاد التوزيع السكاني إلى وضعه الطبيعي، ولأصبحنا بلا أزمات مرورية واختناقات سكانية.