اعمدة طريق الشعب

تمييز ضروري! / قيس قاسم العجرش

مع أن له من السنوات سبعون عاماً إلّا أن انتباهاته توازي انتباه وحرص اربعة عشر شاباً من سائقي سيارات النقل العام المُسرعة والمتناطحة وسط بغداد الفوضى والازدحام.
ومع أن كل ما تبقى له هي بضعة أسنان، إلّا أنه يعضّ بها على ما تبقى من بصيرة في هذه الحياة يمكن له أن يميز بها الخير من الشر، والصالح من الطالح، والأبيض من الاسود.
قال لي وهو يُداعب زوجاً من البط، يسقيه الماء ويطعمها أكثر ما يُطعم نفسه:
وسألني عن تحالفات السياسة، فأجبته بجملة اعتذارية تفيد بأن الألوان قد اختلطت عليّ، وأن الأسماء تشابهت حتى صرت لا اميز بينها.
قال بملء فمه: أسماء...قوائم!...الناس كاتلها الجوع والفكر، وهذولة بلا إحساس كاعدين يلزكون فتوك!..
- شنو رأيك الحل وين عمّي؟.أريد أسمع منّك.
- قال لي: متى ما هجر الناس ملاحقة الأسماء، وانتخبوا الأفعال، ذلك هو(راس الخيط) للحل.
وكأن هذا العجوز يقصد البرنامج الانتخابي.
"طيب وكيف على الناس أن تميّز البرنامج الانتخابي طالما أن البرامج تشابهت؟، كيف للناس التمييز بين النافع والضار طالما أن اللغط والصياح والصراخ على أشدّه، وهو كلّه هذر وتهريج على شاشات الفضائيات!".
أجابني: عجيب أمرك، أنتم جيل الأنترنيت، يقولون أنه لا يترك صغيرة أو كبيرة إلّا واستحضرها. ويقولون أنه يتذكر كل الأقوال والأفعال والصور، وإنه يحفظ عن ظهر قلب كل السوالف(العُوجة)و(العَدلة)!.. هل يصعُب عليكم قبل أن تختاروا أن تراجعوا ما سبق لـ(مُختاركم)هذا أن قاله أو فعله؟..هل يصعُب إزاحة القليل من تراب (غوغل) حتى تنعشوا ذاكرتكم المعطوبة!.. نحن الشيوخ مازلنا نتذكر فلان وعلاّن وكل ما قالوه أو فعلوه، فلماذا لا تتذكرون؟.(إيش بَلاكم ؟!).
يبدو أنه من الصعب أن نتذكر، ويبدو أنه من الصعب أن نشحذ الذاكرة كي تقطع الشك باليقين.
عجيب،!...لماذا تحملون رؤوساً على أكتافكم إن كانت لا تتذكر مواقف وأفعال مسؤول لبضعة سنوات خلون؟.. ما الّذي يُنسيكم؟.
كفّ يديه وفرك راحتيه ونظر الى الشباك مثل من ينتظر غروب الشمس، ثم قام يسقي الزرع في الأصص المرصوفة خارج غرفته العتيقة. وبينما كان الماء ينزاح على النباتات الطريّة، قمت لأمضي في طريقي وانا أفكر في عطب الذاكرة الجَمعية، كيف تنسى جموع الناس وجهاً خادعاً سبق أن خدعهم ألف مرّة.. كيف؟.