اعمدة طريق الشعب

تحت ظلال النخيل ..!/ عبد السادة البصري

حينما كنّا صغاراً ، وفي أيام الصيف اللاهبة هناك في قريتي الجنوبية في أقاصي جنوب القلب ــ الفاو ــ وساعة إذ تشتدّ حرارة الشمس ، كنّا نستظل بالنخيل الوارف الذي يشكّل غابة متشابكة الأذرع ، نأخذ القيلولة تحت أفيائها وبين الجداول ، حيث تهبّ نسائم عذبة تنعش الروح والقلب ، كانت ترسم لوحةً من الخضرة والماء والروح السامية التي لا تعرف غير الطيبة والمحبة والتسامح ونكران الذات والوفاء لكل شيء !
تذكّرت تلك الأيام وأنا أتحدّث مع صاحبي قبل يومين عن مبادرة زراعة المليون نخلة التي أطلقها السيد وزير النفط مشكوراً ليعيد للبصرة نقاوة هوائها واخضرار ساحاتها ، لكنني قلت له :ــ كيف ستكون زراعة هذه النخيل : في الجزرات الوسطية للشوارع كي تموت بعد أسبوعين عطشاً ؟! أم في مزارع خاصة لنعيد غابات النخيل ونعمل على تشجيع الفلاحين من أبناء أبي الخصيب والسيبة والفاو والتنومة كي يساهموا بغرس فسائل النخيل في بساتينهم وفي كل أرض مات الزرع فيها ؟! ولكن .. أين الماء العذب الذي كان يجري في شط العرب والأنهار المتفرعة منه والسواقي ليرتوي النخل من ظمأ أودى بخضرة قلبه ؟!
لقد كانت غابات النخيل تسوّر الشارع الرئيسي الممتد بين البصرة والفاو وتظلله سوابيط العنب ، حيث تسير العربات بين الخضرة ورائحة الطلع ، لكنها ماتت وبقيت جذوعاً بلا رؤوس بعدما أنهت الحرب الملعونة حياتها وأجهزت ملوحة الماء على ما تبقّى !! كانت البصرة أم النخيل والأعناب بغاباتها الممتدّة في كل قرية وقصبة ومدينة من القرنة مروراً بالمدينة والهوير والتنومة وأبي الخصيب وصولاً حتى الفاو ، وقد ذكرها الرحّالة المسلمون والأجانب في كتبهم بأنها تشبه جنة عدن لكثرة ما فيها من أنهار ونخيل وأعناب ، لكنها أخذت بالتلاشي والاضمحلال شيئا فشيئا نتيجة الحروب والخراب وعزوف الفلاحين عن الزراعة وتركهم القرى وارتفاع نسبة الملوحة في شط العرب بسبب تغيير مجرى نهر كارون وشحّة المياه العذبة سنة بعد أخرى!
إذا أردنا أن نعيد جزءاً من هذه الغابات علينا أولاً أن نفكّر بكيفية إروائها ــ الماء العذب ــ وثانيا الاهتمام بها ومداراتها يوميا ، وثالثا تشجيع الفلاحين وأبناء القرى على الزراعة ودعمهم ، وقبل كل شيء تثقيف الناس بأهمية زراعة النخيل والخضروات والفواكه ، لا أن نترك الحبل على الغارب ونستورد التمر والملح والفواكه والخضروات بكلِّ أنواعها !
علينا أن نفكّر بجدٍّ كيف نبني الإنسان ونزرع فيه حبّ النخلة والخضرة والماء لأنه بعد ذلك سيعشق الأرض وما عليها ، لا أن نترك الفساد ينخر بجسد البلاد والعباد في حيرة من أمرهم يبحثون عن ظل نخلة هنا وهناك !.