ادب وفن

الرؤية الحلمية في "ثلاثة في مركب" / علوان السلمان

النص الشعري حضور ذهني وتعبير عن لحظة انفعالية تؤكد التجاوز باعتمادها الإيجاز عبر تقنية الانزياح وعمق المعنى وكثافة الإيحاء الناجم عن موقف يستنطق رموز الوجود برؤى متعددة الظلال، لذا فهو "تأسيس باللغة والرؤيا وتخطي يدفع إلى التخطي" على حد تعبير ادونيس، كون اللغة أداة لتشكيل المعنى وفضاء لتوليد الدلالات في مدارات إيحائية مكتنزة بتعابيرها ورؤيتها الكونية.

والمجموعة الشعرية "3 في مركب واحد" التي نسجتها أنامل مبدعها الشاعر خالد البهرزي، وقد احتضنت خمسة وعشرين نصا توزعت ما بين النص والنص المقطعي التبئيري المتوهج بقصره الدال على انبعاثه من لحظة مأزومة وموقف انفعالي مكتنز بصوره الشعرية التي تأخذ شكلا ايقونيا عبر بنية سردية بمثابة زوايا نظر عبر مرايا متداخلة تعبر عن لمحة فكرية أو رؤية حلمية، كونها ومضة تدل على تجربة تختزن في داخلها طاقة إيحائية اعتمد في بنائها الشكلي أسلوب التقطيع الرقمي وأسلوب الفصل بالعنونة اللفظية الدالة، وكل هذا داخل نسيج عنواني عام تشكل من أربعة فونيمات شكلت جملة اسمية أولها رقمي "3" وجار ومجرور ومضاف، وهو يعتمد تقنية الانزياح والإيحاء والتكثيف واستنطاق رموز الطبيعة للتعبير عن لحظة انفعالية مشهدية تتكئ على محمولات لفظية تكشف عن صور حسية بصرية، وإهداء إلى الآخر الجمعي "الثلاثة الذين عنيتهم دون تمييز" والذي يكشف عنهم قوله "أنا أنت، وصاحبنا يتوجب أن لا نصحو أبدا".
قلبي يخشى من رأسي
ففمي أول المتمردين
وعيناي غائبتان عن الوعي منذ نعومة إظفاري
أذناي تبيعان الصمت بأسواق النخاسين
أما شعري فسيذهب جفاء ولو
بعد حين
أما أنفي مازال يطارد رائحة الأنثى
كالمجنون وقد ناهز سن الستين
وخداي ليس لهما من اثر
فأنا كالسياب بلا خدين
وبقية رأسي سأبت بها بعد وصول الفكرة
فالشاعر يطرح تجربة مثقلة بإشارات من الذاكرة المحملة بوجع ذاتي واسى خفي.. كونه يمتلك الوعي الاجتماعي والنفسي المؤطر بقدرة تعبيرية وإيقاع نابض بالحياة من خلال توظيفه لضمير المتكلم الذي يشكل دلالة مزدوجة تشير إلى الفعل والحركة..
أعرف حين يكون الدمع وطن
لا تكفي كل منا مناديل الكون تنشف دمعه
وحين تكون الدمعة إنسانا
تبكي الأوطان بلا رحمة
وحين يكون على عرش الأشياء
للدرك الأسفل
تنحدر النكرات
وحين يكون بقربي الميزان وذيل الكلب
سيعتدلان.
فالشاعر يوظف الرمز الاشاري الذي يمتلك دلالته ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية والحركة المضمرة على المستوى النفسي.. فضلا عن انه العتبة الاستقرائية المحققة للنص هويته والمالكة لسر مغاليقه والتي فرشت روحها على حضور السياق التشكيلي الدال والوعي الشعري الذي يكشف عن رمز اشاري يستنطق رموز الطبيعة للتعبير عن لحظة انفعالية مشهدية تتكئ على محمولات لفظية تكشف عن صور حسية بصرية..
المركب ليس لنا
عجبا كيف يكون
ومنا من في المركب حتى الغرقى
عفوا..لم اسمع.. لم اقرأ من قبل كتابا يؤمن بالحمقى
أين المركب حقا
هل أنا من يحمل هذا المركب
أم أن المركب يحملنا
المركب يغرق.. يغرق.. يغرق
ونحن على الشاطئ نتفرج.. ليس العكس كذلك
فالشاعر يوظف الهواجس عبر مشاهد تأملية تسهم في تنمية المسارات الإيحائية وهي تسبح في رموزها ودلالاتها من اجل كشف المضامين الموحية عبر الخيال والمحسوسات كمحفزات في عملية الخلق الشعري المكتنز بجمالياته "الصورة/ الرمز/ الرؤية المكثفة"، لخلق صوره التي هي ضرب من المجاز.
فالنص يقترب من الحكائية كتقنية جمالية وفنية للتعبير عن الذات والواقع. فضلا عن ذلك فالشاعر يوظف الرمز الموحي الذي يخلق دلالات ومناخات نفسية تسهم في توسيع القدرات التخييلية.
وبذلك قدم الشاعر مجموعة شعرية تقوم اغلب قصائدها على المقطعية التي تشتغل على خاصتي التواصل والاستقلال.. ويربطها النسق البنائي وحبكة متداخلة بعتبات متعددة منها الرقمية "الفصل بالأرقام بين المقاطع" واللفظية "الفصل بالكلمات بين المقاطع" والتي تشكل عنصرا شعريا فاعلا خطيا في المقاطع كلها، كونها مفاتيح مقترحة لاستثمارها من أجل إدراك القيمة الجمالية والتعبيرية للنص.