ادب وفن

"لمصابيحك ارتديت عنقي": إشكالية تحديث بنية القصيدة (2-2) / حميد حسن جعفر

"4"

وإذا ما كانت هناك قشة تقصم ظهر البعير؛ فإن القافية عامة من الممكن أن تشكل أكثر من قشة تطيح بالقصيدة لتحولها الى شبكة عنكبوتية من تعابير وصور وتراكمات تحول القارئ الى فريسة.
في نفس الوقت الذي كان القارئ يعمل على أن لا تتحول القصيدة الى مصيدة القارئ الذكي، الفطن، القارئ الذي يعمل على أن لا يتحول الى تابع للنص.
إن خلق حالة دوزنة ـ ضبط النغمة/ التواصل ما بين النص والمتلقي يشكل أمراً أساسياً في صناعة القراءة.
هذا الفعل الذي يعتمد بالأساس على توفر المعرفة من جهة والمخيلة من جهة أخرى لتتساند كل هذه المفاصل للوصول الى نص منفتح قادر على صناعة الغواية، وسحب القارئ من منطقة التلقي السلبي، الى منطقة المكاشفة والتساؤل عبر إلغاء مبدأ القناعة بالمتوفر.
فالقارئ قد يكون آثارياً، حفاراً في طبقات النص. إن كانت هناك طبقات إن كان هناك ما يحاول الشاعر أن لا يقوله.
أي إن البحث عن المطموس أو المخبوء، يشكل الشغل الشاغل للقارئ من جهة ولفعل القراءة من جهة أخرى.
فالقراءة لم تعد فعلاً تابعا للبحث عن السطوح، بل إن تدمير السطح ومد اليد/ المسبار الى الأعماق وصولا الى القصيدة الموجودة داخل القصيدة ذاتها.
فالقراءة فعل يتعقب/ يتابع منتجات فعل الكتابة. يبحث عن المتغيرات التي ستحدث تحت مظلة الكتابة.
فالقراءة ـ مهما كان نوعها ـ لم تعد فعلاً آنياً، فعلاً يكشف عما في خوابيه ودواخله لحظة حدوث الكتابة.
فكثيراً ما تكون الكتابة فعلاً مستقبلياً، لا يؤتي أُكُله في موسمه. قد يظهر منجزها من خلال الطفرة التي تصيب شريحة أو فئة، أو طبقة أو سلطة.
لأن الاستشراف وما ينتمي الى النبوءة والتوقع يشتغل على ما سوف يحدث لا على ما حدث.
* * *
إن المتابع لكتابات "حسن سالم الدباغ" منذ "من أوراق يوسف" حصراً، سوف يجد ـ وهذا رأي شخصي من الممكن أن يحتمل الخطأ والصواب ـ أن المنجز الإبداعي للشاعر في المدونة أعلاه، كان يشكل علامةً فارقةً. في كتابات الشاعر الأولية أي قبل ما يقارب أو يزيد على العقد من السنوات، حيث كان الشاعر أكثر شباباً وفتوة، أكثر حدة وطموحاً، شاعراً ينتمي الى المغايرة والمشاكسة.
حيث كان القناع كشكل فني يمنح بنية القصيدة القدرة على التوغل وكذلك القدرة على القول والبوح، ويمنحها شكلاً متقدماً. إضافة الى الاستفادة من النصوص الدينية والأدبية/ التراثية، كالمتنبي، ونبي الله يوسف. وتحويل القارئ من بعد أن يتخلص من مهمة الاستماع الى إحدى شخصيات النص؛ حيث يعمل الشاعر على أن يكون خارج القصيدة، لتتحرك كائناته الشعرية منفردة ضمن حالة من حالات الوعي التي يمتلكها الشاعر نفسه. إذ يشكل المتلقي هنا شخصاً فاعلاً. إذ إن النص من الممكن أن يتحول الى أداة الشاعر في صناعة القصيدة.
إن عدم قناعة الشاعر بما يحدث ـ آنذاك ـ حوله، وبحثه عن المغايرة، كانا يشكلان شيئاً من المرجعية الإبداعية. كان من الممكن أن يعمل الشاعر على تطوير تجاربه الإبداعية وصولاً الى المنجز الإبداعي المختلف.
إلا أن الهزات التي تصيب بنية المجتمع، والتي قد تكون اكبر من المجتمع ذاته، وانعكاساتها على بينة الفرد والجماعة، قد تنتج حالة من الخيبة بما يحصل، ومن ثم ظهور مفروزات أخلاقية وسياسية واجتماعية وثقافية كذلك.، لا تمثل طموحات المثقف عامة والشاعر خاصة.
هذه الاحداثيات المخيبة للآمال، والإحساس بفشل الآخر في صناعة الحياة، والآخر هنا من الممكن أن يشكل الكائن السياسي، وفشل الثقافة في صناعة القيادات، وفشل الحلم في تحقيق ذاته.
هذه الإخفاقات من الممكن أن تنتج حالة تراجع نحو الماضي، نحو الثوابت على انه النقطة الأكثر إضاءة في تاريخ المجتمعات. وان الحاضر لا يمكن أن يشكل الأفضل. وبالتالي فالعودة الى ما سبق يشكل منجزاً بحد ذاته. ومن ثم فإن العودة الى الماضي قد ألقى ويلقي بظلاله على المنجز الإبداعي للشاعر ليجد في قصيدة العمود المطور، أو ما يسمى بقصيدة التفعيلة، الشكل والبنية الشعرية الأكثر قدرة على التعبير عن بواطن الشاعر.
وان حركة المجتمع مازالت تنتمي الى الماضي المتوارث، الى ما يشبه المقدس. فالثوابت والخطوط الحمراء مازالت تمتلك من القوة ما يؤهلها لصناعة القيادات.
إن أفكاراً كهذه لا يمكن أن تنتج أفكاراً تنتمي للحراك الثقافي، وإن العودة الى الماضي لا يمكن إلا أن تشكل حالة ارتدادية لا تقود الى البحث عن المتغيرات. ولا تقود الى تدمير القناعات بالطمأنينة والركون الى السكونية. إن تجميد أو تحييد قدرات المثقف عامة والشاعر خاصة لا يمكن أن يصب في مصلحة مجتمع ما، أو شريحة ما؛ في الوقت الذي تدعو فيه الثقافة الى صناعة التجاوز والمغايرة، يكون تأثير فعل التحييد تأثيراً مضاعفاً. وذلك لأن الشاعر يشكل أكثر من قدوة ومثال للآخرين.
إضافة الى إن التحييد هذا لا يمكن أن يظهر الى السطح، إلا ضمن غياب حالات الفكر والوعي والمعرفة.
فالمعرفة/ المعارف لابد لها من أن تكون الينبوع/ البؤرة التي تمد المجتمع بالبحث عن المختلف، ورفض تحول الماضي بكل ما يمتلك من منجز إبداعي الى مشروع مقدس أو الى تعويذة لا يجوز تمزيق قشرتها. وصولاً الى المعادلة التي يتحول بموجبها الثابت الى بنية لا يجوز المساس بها.
فالمعرفة تنتمي الى مفهوم تدمير السكونية، تدمير عملية تحجيم العملية الباحثة عن الإبداع.
فاذا ما كان الماضي إتباعاً، فالمستقبل إبداع.
وبدلاً من أن تكون الذات/ الأنا فعلاً باحثاً عن الآخر/ الانفتاح، فإن الأنا في "لمصابيحك ارتديت عنقي" لا يمكن أن تكون منتمية للانا المتورمة. إلا إن بنية القصيدة بأناها المخذولة تعمل على سحب أنا الشاعر الى منطقة الظل. حيث لا يمكن لها ـ أي للقصيدة ـ ولا للشاعر أن يفصحا عن القول.
وحين يعمل الشاعر، وتحت سلطة البحث عن الآخر/ الإنسان كما في "أنتي مينا" ص55، المهداة الى سالم شاهين، وفي بحثه عن المكان الأليف في قصيدته "الرحلة الثانية لكلكامش".
ورغم تحالف بنى القصائد مع تلكما القصيدتين، إلا أن ما يميزهما عن سواهما هو البحث في الأولى عن الآخر/ المدد ـ التواصل. الآخر الذي من الممكن أن يشكل وإياه ثنائية تنتمي الى ثنائية كلكامش/ انكيدو.
وفي الثانية يكون البحث عن ثنائية كلكامش/ الخلود.
حيث العشبة/ المدينة الفاضلة، أوروك/ الحلم.