ادب وفن

دور الأدب في معركة بيروت / شاكر فريد حسن

في حزيران عام 1982 اجتاحت قوى الغزو الصهيوني لبنان، وحاصرت بيروت ودمرت بنيتها التحتية، وارتكبت المجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا. ولما كان الغزو شاملاً واستهدف الشعب برمته فقد استنفر الجميع لصده والوقوف في وجه آلة الدمار بما فيهم الكتاب والأدباء ورجال الثقافة.
لقد قاومت بيروت، التي تحولت إلى ستالينغراد، وصمدت الثورة الفلسطينية، وانتصرت إرادة الإنسان الفلسطيني واللبناني على الجريمة والمجرمين. وكان للأدب والثقافة الفلسطينية الدور الطليعي الثوري والتعبوي التحريضي في المعركة، في شحذ الهمم وبث روح الصمود والمقاومة في نفوس المقاتلين، ومواجهة الترسانة الإسرائيلية والمذابح المريعة، التي ارتكبت بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني.
ولم يبق في بيروت من ليس له دور يؤديه في صد العدوان ودحره ولجمه، وكان الحصار والموت بمثابة تجربة لاختبار المثقفين ورجالات الأدب الفلسطينيين وامتحان للثقافة المقاتلة التي آمنوا وتسلحوا بها.
يقول الروائي رشاد أبو شاور، الذي خاض تجربة الحصار في بيروت وساهم في معركة الصمود والتحدي والانتصار على الغزاة:" ذهبت إلى بيروت كاتباً يمتهن الكتابة الأدبية بشيء من الطموح والمجد الشخصي. وخرجت من بيروت مدركاً تماماً لحقيقة جديدة في داخلي حول ماهية الكتابة . وقد اكتشفت الكتابة الحقيقية في واقع كنت فيه الكاتب والمقاتل ".
وقال القاص والروائي والأديب يحيى يخلف ابن "سمخ" المهجرة: " كيف لنا ان نكتب ونقاتل ونتنقل من مكان إلى آخر؟ ..".
والسؤال: كيف تعامل المبدع الفلسطيني في بيروت مع تجربة الحصار، وماذا كان دوره في المعركة؟!
وإجابة على هذا السؤال نقول: انه في خضم الحرب والقتال تداعى عدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين الفلسطينيين وعقدوا اجتماعاً طارئاً في مقر العلاقات الخارجية التابع لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وبحثوا قضية العدوان الغاشم والبربري على بيروت، وطرحوا تصوراتهم للدور المنوط بهم في مواجهة الغزاة، وفي النهاية اجمعوا على ضرورة المساهمة الفعلية الجادة في هذه الحرب، والانتشار بين الجماهير والمقاتلين وحثهم على الصمود، والقيام بتسيير سيارات تبث شعارات التعبئة وتوضح لكل قطاع دوره في الحرب، وتجهيز الملصقات الجدارية وت?زيعها في شوارع العاصمة، وحمل السلاح والتوجه إلى محاور القتال، وتوجيه بيان إلى الجماهير في بيروت وخارجها. وعلاوة على ذلك إصدار نشرة يومية تعبوية لإدارة المعركة الإعلامية من أجل الصمود، ورفد الصحف ووكالات الأنباء والإذاعات الوطنية بما يلزمه من كوادر إعلامية وإذاعية.
وفي صباح الثلاثاء الثاني والعشرين من حزيران صدر العدد الأول من نشرة "المعركة" عن تجمع الكتاب والصحفيين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب في بيروت، وتصدرتها كلمة شاعر المقاومة الفرنسية اراغون "اللعنة على المحتل ليدوي الرصاص دائماً تحت نوافذه، وليمزق قلبه الرعب " بينما الافتتاحية كانت بعنوان "هكذا نفك الحصار " نقتطف منها هذه السطور:" بيروت من الخارج محاصرة بالدبابات الإسرائيلية وبالحرب النفسية وبالشلل العربي الرسمي. بيروت غارقة في الظلام، بيروت تعطش. ولكن بيروت الداخل، تعد حقيقتها الأخرى. تمتلك إرادتها وتصوب بن?دقها لتحافظ على إشراق معانيها: عاصمة الأمل العربي. بشعار "إنقاذ" بيروت الجهنمي السلس، القاتل كالسم، يراد لهذا الأمل أن ينزوي في زاوية اليأس والانتحار في "مسادة" عربية منقولة عن الذاهبين الى انتحارهم في اوج انتصارهم والشرط الوحيد الذي يضعه مبتكرو لفظة "الإنقاذ" هو الاستسلام".
ومما نشرته "المعركة" على صفحتها الثانية بيان تجمع الكتاب والصحفيين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، جاء فيه:" من متاريس عاصمة الأمل العربي، بيروت. من شظايا الأجساد والقذائف. ومن ساحة الامتحان الأخير للجدارة بالأرض والحياة والمستقبل، يعلن الكتاب والصحفيون الفلسطينيون واللبنانيون والعرب: " ان لا خيار لنا سوى المعركة وان لا لغة للتعامل مع الغزو الصهيوني، الذي يمثل أحط أشكال العنصرية والصلف، سوى لغة الدم والرصاص. فمن هنا، من هذا الحائط البشري المرصوف بالسواعد المقاتلة والإرادة الحرة، يتحدد المصير، وتحدد البدايا? بدايتها الدائمة في معركة الانصهار الكامل بالمعركة. لا خيار لنا سوى المعركة. والمعركة في ذروتها في كل مكان. لا ضباب ولا أوهام ولا خداع . هنا تعجن البطولة اليومية ، البطولة العادية من فرط تراكمها. لتحول كل متر من الأرض إلى مأثرة أو معبد".
وبفضل البطولات الفلسطينية أصبحت بيروت في ايام حصارها البهيمي، من تراث الأدب والثقافة العربية الفلسطينية، حيث أملت الحرب على الأدباء والمبدعين العرب والفلسطينيين واللبنانيين، الذين كانوا في بيروت أيام الحصار أن يبدعوا ويكتبوا أدبا وثائقياً تسجيلياً نشر بعض منه في كتاب "شهادات من المعركة" الصادر عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء والصحفيين الفلسطينيين، وشارك فيه: محمود درويش ومعين بسيسو وعز الدين المناصرة ورشاد ابو شاور وحنا مقبل وعبد القادر ياسين وياسين رفاعية وليلى السائح وغيرهم. وكل نص في هذا الكتاب عبارة?عن لوحة إنسانية مقاتلة تروي قصة الصمود الفلسطيني اللبناني في بيروت التي لا تموت ،ومواقف الذين تحدوا آلة الحرب والدمار الإسرائيلية الشرسة وحافظوا على إنسانيتهم وانتصروا على اليأس والضياع والإحباط . وفي أثناء الحصار كان هم محمود درويش ومعين بسيسو الحفاظ على مجرد بقائهما الجسدي على قيد الحياة، حيث أن القصف الهمجي المباشر ليس إطارا ومكاناً مريحاً للإبداع وكتابة الشعر والملاجئ معتمة وخانقة. ورداً على السؤال ماذا تكتب أيها الشاعر في زمن الحرب قال الراحل محمود درويش في نص له بعنوان "عندما يصمت الشعر قليلاً " المن?ور في كتاب "شهادات من المعركة":" اكتب صمتي لان صوت المدافع أعلى من أي صوت، وسأعود الى الكتابة حين تسكت المدافع قليلاً عندئذ افجر صمتي المليء بكل الأصوات وأجد لغتي الملائمة".
اما الشاعر سميح القاسم، الذي كان يشاهد عمليات القصف على شاشة التلفزيون الملون ولا يملك القدرة على إيقافها وإنقاذ محمود ومعين شخصياً فيقول: "في مثل هذا الظرف لا استطيع إنقاذ ذاتي إلا بالكتابة. وهذا ما حصل فعلاً فقد كتبت بغزارة مذهلة طيلة المذبحة على أرض لبنان ونشرت آنذاك "تقريراً من أرض الجبهة ،الرجل الاخير ، بعد القيامة، الحصار، تغريبة، قصيدة القبر الجماعي، قطر الندى، وسربية الصحراء". من الواضح إن النتاج الإبداعي الأدبي الفلسطيني الذي كتبته أقلام وقرائح الشعراء والمبدعين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، وص?ر خلال العدوان وبعده، هو امتداد للأدب العربي الفلسطيني الذي تطور عبر مراحل كفاح شعبنا الفلسطيني ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية. وقد انشد الشعراء الفلسطينيون حين سكتت المدافع شعراً ملحمياً جمع بين الواقع الفلسطيني والتعامل العربي وبين الطموحات والأماني الفلسطينية بالحرية والاستقلال الوطني.
لقد دخل الحرف وجند نفسه أبجدية كاملة للتصدي والمواجهة ومقاومة الغازي، والكلمات خرجت من بطون الكتب والأسفار وارتدت زي الميدان، والصوت الفلسطيني من خلف حصار بيروت ارتفع حاملاً الرسالة ونص الانتصار وصراع الكلمات في صيدا وشاتيلا والاوزاعي وبرج البراجنة معلناً أن الأبجدية لن تنهزم، ولن ينطفئ النجم الفلسطيني الملتهب، والإنسان الفلسطيني لن يموت ولن ينهزم. فنحن شعب يستحق الحياة والبقاء والوجود الإنساني، وصدق درويشنا حين هتف قائلاً:"على هذه الأرض ما يستحق الحياة ".