ادب وفن

قراءة في رواية "متاهة اخيرهم" / صلاح وهابي

لست ناقداَ أدبياً، بل قارئ لي رؤيا فيما أقرأ. أهداني الكاتب محمد الأحمد قبل عدة سنوات احدى قصصه. ولكن روايته الأخيرة "متاهة اخيرهم" تعتبر نقلة نوعية. بمداعبة قلمه اوتار كلماته لتنبعث من بين اصابعه سمفونية لتملأ اجواء مدينة البرتقال عطراً عبقا فكراً وجمالاً وخيالاً بالانتقال من الخاص الى العام.
وهي تحسب على القص الواقعي السحري، لأنه يلظم همه بالهم العراقي بهذه المتاهة التي هي متاهتنا جميعاً، في بانوراما تصلح لدراسة انثروبولوجية، "دراسة الإنسان ومنجزاته". فهي كأية مدينة اخرى يطمر فيها اكثر مما يطفو فوقها، وما يقال همساً أكثر منه علناً "وهي حقاً مدينة تسمع فيها اكثر مما ترى".
فالخيال يتدعم بالممكنات، بالابتعاد عن الميتافيزيقيا المفرطة في الخيال. فهو يغزل القصة على نسيج "ابن يهوده" بالحركات والرموز في نبش فكرة التيه، بحيث يقودك في النهاية لتصدق الراوي هو "مكانيوس" الوريث الوحيد لممتلكات "ناجي يعقوب" في سينما ديالى والبيت الكبير ومحطة البانزين وشركة توزيع الافلام في بغداد وغيرهم. ونشرت الخبر واكد زميلي ابو ربيع ما ذهب اليه أستاذ اللغة العربية ظاهر شوكت، مما دعاني لأن أتأكد بسؤال عمه هادي علوان دندي جاري في السوق: هل ابراهيم "احمد" وزوجته سافرا الى ايطاليا بصحبة حسقيال بن ناجي يعقوب؟ فكان الجواب نفياً. حينها تأكدت من مقدرته على جر قدم المتلقي الى متاهته في غاية من الدقة والجمال. بشخصياته الواقعية التي سهلت له الحركة داخل متاهته. وعندما ضاقت به كسر قشرتها لينفذ منها الى ايطاليا.
وهو يستعمل اللغة التي تتناسب مع وعي شخوصه، حينما يردد فؤاد "لا يخاف الانسان إلا الانسان وانا لا اخاف الانسان".
قال يهوده لصديقه ابراهيم دندي: ذات مرة "لم يكن الدين يوماً سبباً في الصراع بين البشر في اي زمان ومكان.. بيد انه كان دائماً المبرر والغول، لأطماع الاقتصاد".
وهو يمر على بعض شخوصه الفرعية سريعاً لا تتعدى الدهشة كشخصيات طاردة او جاذبة، وهذا يضعف لدى السارد الجانب الميداني بالوقوف على اسباب تشكلهم وليس فقط ابهاره، لتدعيم الثيمة وما يشاكلها من صراع الشخوص في مكان الاحداث بطريقة تشبه المعرفة الانسكلوبيديا.
أنحن اولاد هابيل، ليطلع بيننا قابيل بين حين واخر ليقتلنا؟!
فالذي قتل الخياطة حبيبة ميخائيل شالمو اليهودية في دربونة التوراة لم يكن فرفر "عبد الكريم الحاج علي" صانع غلوبي الكببجي لوحده، بل كانت السكين بيد علي حسين رشيد القصاب وشهاب احمد فارس الكببجي. حكم على الاولين بالسجن ثمان سنوات وبراءة ثالثهم رشوة، و لم يكملا نصف المدة.
فجزاء الحياة كانت وراءهم اذ قتل فرفر في قاطع مندلي للجيش الشعبي وعلي حسين القصاب في قاطع البصرة، ويومها قالت الاهالي: هذه "حوبة حبيبة اليهودية" وثالثهم لم تمهله الحياة طويلاً فمات.
فالبعض لا يتخلص من بعده الواقعي ليسمو الى القيم الرمزية رغم مغادرته الحالة الاولى؟!. فحسنة الخبازة التي أنقذها "نديم التويجري" من الضياع والتشرد وساندتها عوائل المحلة، وبعد ان استقرت وتحسن وضعها رجعت الى جذرها السيىء. أهي نتاج بيئة رديئة، ام لجذر جيني سيىء، ام تفاعلهما ليشكل مخلوقا مشوها؟.
اما الشخصيات المهمشة وغير الطاردة كشخصية عناد الرجل الجنتلمان بطوله الفارع وصدره العريض، يصلح كمصارع في حلبة، احد منتسبي القوات الخاصة، فقد رفض الحرب المجنونة، وتكرر هروبه، ثم خرج من السجن فاقد الاحساس بالوقت والناس والمكان وطعم البرتقال "وشابراً" مدينته الصغيرة في نصف ساعة طولاً وعرضاً، نراه في كل مكان لا يؤذي احداً ويطلب القليل ليعبىء جوفه "عرقاً" ليلا ونهارا.
فؤاد عيدان، وهو من العوائل العريقة وابن محلتي ـ محلة دربونة الدجاج، لم يكمل معهد الفنون الجميلة وشخصيته الجميلة تشبه ابطال الافلام الاجنبية طالباً "العشغة" محولا الراء الى غين. قال لي يوماً منتصف السبعينيات: "ان جبهتكم مصيدة لكم" واختفى في ظروف غامضة.
وخليلو طباخ مجموعة المدرسين اليساريين والديمقراطيين في قضاء المقدادية انتقل الى بعقوبة بعد تفريقهم. يوماً سألته: لماذا تركت الضرب على الطبل، والحرب في بدايتها؟. أجابني: "طبول الحرب اسكتت طبولنا".
كما ان الزمن لم يكن لدى السارد هلامياً فهو يدخل متاهته 1966-1972 ويخرج منه 1982، ويبقى السرد داخل الزمن يلاحق شخوصه الرئيسيين اينما حلوا: بوضع اسئلة ذكية وملغمة وصادمة وصولاً الى دفع وعي شخوصه لتفكيك المسلمات التي لا تدعمها الوقائع. فهو يسبح عكس تيار نهر خريسان من الاسفل الى الاعلى ابتداءً من مقبرة "ابو ادريس" ومحطة القطار ومقبرة اليهود صعودا الى قنطرة خليل باشا.
قالت امه طليلة: "كان الولد في كل مرة يعلن تمرده، ولا ادري كيف يستبد بي اليأس فيسأل، عما يقارنه بالذي يسمعه فهو يجهر باكتشافه من خلخلة في الموازين، فكان دائماً يقول:
ما هذا الكون، لم يشهد اهله ان عرفوا حصاناً كان يطير فوق الغيوم ويبلغ المسافات.. ويؤكد ان العارف سوف يعرفها بأنها تدرجها علناً وتسخر منها ضمناً".
ويستذكر السارد اعادة ختان اخيه الصغير لتصحيح خطأ خلقي. لن نسأل انفسنا يوما: أليس الختان هو عبارة عن تصحيح خطأ سماوي؟. انه عادة مصرية اتخذها النبي موسى بإعتباره اخناتون المصري الذي اعتبر الختان ميزة للشعب المختار، ليميزهم بالختان عن غيرهم "سيد محمود القمني: النبي موسى واخر ايام تل العمارنة: الجزء الثالث" كما جاء في العهد القديم، وكأن الله يحتاج الى علامة للتفريق بين المختار وغيرهم. أليس هو تشويه لخلق الله؟. وتبناها المسلمون من بعدهم. او يسأل امه: لماذا تلبسين الشال عند الصلاة وترفعينها عند الانتهاء؟.
ويمكن اعتبار رواية (متاهة اخِرهم) على القص (ما بعد الحداثة) اذا اخذنا بما ذهب اليه ادوارد سعيد: "ان مصطلح ما بعد الحداثة هو موقف خارج الثقافات أي رافضا المركز او المهيمن الثقافي او الفلسفي الذي ينطلق من مفاهيم كلية سواء فلسفات مادية او مثالية من اجل فهم و تفسير العالم.. ويرى اخرون بأنها تمرد على الواقع، سياسي، اجتماعي، سادته حروب مؤلمة وغمرته الاحباطات المتتالية".
لهذا فهو لا يتواطأ مع الواقع الراهن ولا يؤمن بالحتميات، فهو متحيز ومتعاطف مع الانسان بشكل احترافي ويتعاطف مع شخوص متاهته الانسانية. فرمان الكببجي وزرزور وحبيبة الخياطة اليهودية ونديم وبيت ميخائيل، محاولاً السمو فوق الاختلافات التي يبررها الواقع، لأنه يتنبأ بان الثقافات المستقبلية سوف تحمل حزمة من الافكار والاجتهادات لتشمل وجه العصر ومستقبله، وهو يعلو على المفاهيم المغلقة وغير المتفاعلة مع نقائض الاشياء فيسمو على صغائر الاشياء والمفاهيم: عشيرة، عنصر، مذهب، دين وفلسفة. لهذا فهو قريب من شخوص متاهته، متحسس آلامهم وامالهم لشعوره بمظلوميته من خلال مظلوميتهم.
ان اعتماد بعض السرد في الرواية على السمع الشائع، دون تمحيص ومساندة تدعم الواقع العلمي الواقعي، أفقد الحدث مصداقيته وحرارته لدى المتلقي النبه، وأوهم البسيط "كانت مسعودة من طائفته، امتنع ناجي يعقوب من تزويج ابنه البكر من ارملة لأنها حسب عرفهم الاجتماعي نذير شؤم لكنها من احدى العوائل المتنفذة وسيطرتها على السوق، ويقال بأن هذه العائلة كانت تستورد الطحين اثناء حصار المدينة، وتبيعه بنفس السعر".
خلال تجربتي في السوق لأكثر من عقدين، صحيح للجانب الاخلاقي ومستوى الوعي وطول وعمق التجربة في السوق تلعب دورهما بين هذا التاجر وذاك في سعر بضاعته وحسن تعامله. و لكن كل ذلك محكوم بقانون السوق "الربح" المستند على قانون "العرض و الطلب" رغم اختلاف مشارب التجار. فالأجر يجب ان يكون بمقدار المنجز انسانياً، وفوقه يعتبر سرقة واستغلالا لطاقات الغير ويختلف ذلك بإختلاف الزمان والمكان، ولكن بالدرجة وليس بالنوع. وهذا ما نشاهده اليوم من حيتان الاستغلال و النفوذ وسيطرتهم على الاسواق بالاحتكار وسرقة المال العام.
فهو لا يكتفي بوصف الامكنة وما يدور فيها من شخوص واحداث بل ينتقل بهم من حالة التأمل التي شاعت في فلسفة (فيورباخ) الى عالم اكثر رحابة ونقاوة، فالراوي منحاز الى "الطيبة مقرونة بالتفاؤل" رغم متاهتنا. يهتف تشيرنيشيفسكي قائلا: سيحل العيد في شوارعنا نهاية المطاف. وأقول ستغادرنا الحركة يوماً، ولكن لا بد ان نسمع صياح الديكة غداً حين ينشطر الليل ليبزغ شعاع يوم جديد، سنسمع فوقنا رقص الشباب على انغام تغريد البلابل ووشوشة العصافير وهديل الفخاتي، حينها سنشق الارض لنشاركهم رقصهم الجماعي.
هذه الرواية هدية الكاتب لمدينته بعقوبة، لإدراكه بمسؤوليته كأحد ابنائها الغيارى، مقدار الضرر الذي لحق بها من تخلف وهدم وتهجير وتشويه وقتل وتفكيك لنسيجها الاجتماعي، من زحف الغربان. ليؤرشف جزءا من تاريخها خوفا من الضياع، كما ضاع الكثير في طاحونته.
هي رواية جديرة بالقراءة والاقتناء وخاصة لهذا الجيل الذي انقطعت به سبل معرفة تاريخ مدينة ابائهم واجدادهم، فهي ترمي رفع جزء مما تراكم عليها من غبار الزمن الثقيل، فعسى لملمة الهوة بين الاجيال، والتي كانت احد اسباب هذا الخراب، وهذا التيه الذي ليس اخيرهم!؟.