ادب وفن

"أفلاطونيا" السيميائية الشعرية / عدي العبادي

أي قراءة لأي منجز إبداعي تحيلنا لمعرفة ما في داخل المبدع، أي أن قراءة المنتج الإبداعي مفتاح لمعرفة ما في داخل ذلك المبدع الذي ترك بصمته من خلال عمل طرحه في الساحة وعبر من خلاله عن مشاعره وأحاسيسه، ومع هذا قد يكون العمل عبارة عن لحظة عاشها الكاتب، ولكن يظل هذا المنتج عملاً محسوباً عليه، فهو تعبير عن الذات وبصمة في تاريخه الإبداعي، كما حدث مع الشاعر الكبير ابن بشار الذي مدح جارته ممازحا حين أهدته ديكاً فقال أبياته الشهيرة رباب ربة البيت... الخ.
ومع ان احد طلبته حذره من عواقب انتشار الأبيات، لكنه لم يبال فظلت هذه الأبيات ليومنا هذا، وقد يعبر الكتاب عن أكثر من إحساس او صورة في عمل واحد يجمع به، وهذا ما نجده في نص الشاعر الأستاذ ابراهيم الخياط المعنون
" أفلاطونيا "
هن الزخارف المثيرة على حائط السيراميك
فأين سرب القطا ؟
وأين هفهفة البرد الكوثري؟
وأين الملوك والملائكة ومُهرتي الجانوسية ؟
يا انشطار العذوبة
إليك الأقحوان أردية
وريشاً إليك مجسات الوريد
وهذي مجرة اللوز لك أرجوحة
يتحدث الشاعر عن صور خارجية تحيط به كالملوك والملائكة والقطا لكنه يضيف لها مهرته الجانوسية كي يربط بين أشياء في عالمه الخارجي وانفعالاته الشخصية وهذه الرائية الشعرية تدل على قدرة المبدع في مزج ما حوله بحالته التي مر بها فيكون لنا نصاً حداثوياً يحمل الكثير من المفردات
بنسائم النسرين الغنج
أو بميس أساور الياسمين
فتنساب - رهوا-
فتنة عاشقات الأحياء الوطيئة
وتميد كواكب الأسرار التي نهوى
وترنّ ترنّ ترنّ
ترنّ خلاخل الخيلاء
فتصير أفياؤك المديدة
للأرجوان مروجاً..
لم يضع الشاعر ابراهيم الخياط في نصه "أفلاطونيا" اهتمامه على مركزية او موضوعية، بل جعله عبارة عن مجموعة أطروحات تخلف، وظل يتنقل ويخلق عدة نصوص في داخل النص الواحد، ولا غرابة ففي قصيدة النثر يمكن ان يكون كل بيت عبارة عن نص مستقل بذاته بل حتى العنوان يمكن ان يكون هو نص:
أرى الأمطار تثرثر
على قارعة العناقيد
وعلى مائدة العصافير
وعلى طارقة النوى
وأراك البهية ؛
فيا ثمالة الغـُدران
ويا ارتحال الفراديس
إذا رأيتِ ثـَمّ رأيتِ جحيماً
فذاك أنا المارج ذو السعير المتلألىء
أشتعل على مرمى برزخ..

تتضح السيميائية الشعرية في نص أفلاطونيا بكثرة المفردات ذات الدلالة عامة، و هذا المقطع خاصة، فالشاعر يرى ان للعصافير مائدة وقد أخرجها من وظيفتها الطبيعية هي والأمطار التي تثرثر، وقد ربط كل ما وظفه الى الانتهاء بنفسه، وليس بالضرورة ان يتكلم الشاعر عن فكرة جديدة كما يقول رائد الحداثة في مصر الناقد الكبير جابر عصفور: بل يكفي ان يصوغ لنا الفكرة القديمة بطريقة جديدة، وهذا ما نجده في نص الخياط الذي جعل اشتغاله على نفسه لكنه جدد بمنتجه الابداعي الذي حسم كعمل له:

موشحاتٍ بالتعاويذ الباهرة
وبقارةٍ من الزنابق السكرى
وفي صمت السواقي الضنينة
من جنة غضاضتك
يا اكتمال الزنجبيل
أشتعل ولا حَول لي ولا طـَول.
وللحور مراقيا
أو دوحة للجمان
والفراقد المنثورة
ومبتغايَ المستحيل!
وأرى الضفائر الغريرة بين السماء..

ان جمالية "أفلاطونيا" تكمن بكثرة المعاني وتحررها من فضائها وهذا يعود لقدرة الخيال عند الشاعر ويعد الخيال عنصراً جمالياً مهماً في كل مادة إبداعية سواء كانت قصة او شعراً او رواية الخ واعتقد هو أهم جانب على اعتبار انه يميز المبدع عن سواه، فمن يملك الخيال غير المبدع الذي يحوله ويتحكم به، وفي ما مضى كان الشاعر مقيداً ليس بالوزن والقافية بل حتى الخيال، فلا يمكن ان يقول شيئاً منافياً للعقل، وكانت الإمكانيات محدودة، فالذي يعيش في الصحراء لا يستطيع ان يعبر عن الحضارة، لأنه لا يملك روح التمدن والانسان المدني، ولا يقدر ان يصف ما في الصحراء لعدم معرفته بكل جوانبها..

أو ثم أبيح لثلة من الجوارح المستكينة
أن تحرسك
دون المها والريام وقطط شيراز
أو ثم لا أرى فوق الرباب المتكبر
كفك الهائمة بالرقود الممسوق
على كتفي الكسيرة
أو ثم تظللك السقوف الرملية
وتفترشين بلاطات الرخام
والسامراتُ في ليلك الصيفي الأثير
هـُزيها
وللشآبيب العبوقة بياراتٍ..

ان كل هذا البوح الداخلي والنزف لكل هذه الكلمات جعلنا نقف امام نص نثري حداثوي لشاعر ثمانيني صاحب تجربة طويلة، وبعد مراجعتي للنص وقراءته بدقة استنتجت ان هناك عدة صور في مخيلة الشاعر، واقد استطاع ان يربط بينها ويكون لنا أفلاطونيا، منطلقاً من داخله، وهذا ما يدل على علاقة قوية بين الشاعر وما حوله، وعلاقة بينه وبين عالمه الخارجي. ان تشكيل كل هذه الصور ليس بالسهولة بل بحاجة لمخيلة خصبة وتواصل مع العوالم وإحساس بأشياء كما فعلت الشاعرة نازك الملائكة في قصيدة النهر العاشق حين وصفت كارثة الفيضان فحولت بمخايلتها ذلك النهر الهائج على عاشق جاء يزور القرى التي يرويها ووصفت هجومه عبارة عن احتضان.