ادب وفن

عبود مازال يغـني..في الشعرية البصرية لمعطى يوسف العاني (3-3) / محمد الجـزائري

كانت حالة يوسفنا الصحية غير مستقرة، فقد أرهقته المحبات، والسهر المتواصل، والأخبار الشعثاء الآتية من البوابة الشرقية وثغر العراق، ففي تلكم الأيام كانت معارك شرقي البصرة على أشدها، وفي اليوم التالي وكنا في حفل استقبال أقامته وزارة الإعلام للوفود، وإذا بأبي يعقوب يدنو ويشكو قلبه وخفقانه المضطرب، لقد ارتبك عنده ضغط الدم فكان المنخفض مرتفعا ً،استنجدت بصديقتنا الشاعرة ليلى السائح القريبة مني، لتستدعي طبيب العائلة، فطلبته وعاد الأستاذ وأعطاه الأقراص المطلوبة. وحين خرجنا مرة من "لؤلؤة المرزوق" عند منتصف الليل كانت ثمة حواجز على الطرق، وما أن يطل علينا ضابط الشرطة ونقول له: نحن عراقيون حتى يفتح لنا الطريق مرحبا ً، كانت تلك اللمسات تهيّج مشاعر يوسف، وترقص قلبه. وهكذا أتعب الفرح المتواصل قلب الفنان ورفع في وتيرة ضغط الدم عنده.
في دبي ضيفت مؤسسة سلطان العويس شهرا ً تضامنيا ً مع "العراق: الإنسان والحضارة" بمجموعة فعاليات من إصدارات لكتب عدة، وعروض للرقوق السينمية، ومعرض للفنون التشكيلية، ومقتنيات الجناح العراقي بمتحف قطر للفن الحديث، وأمسيات للشعر والغناء وندوات بحثية نهارا ً، وكانت تلك المؤسسة قد وجهت الدعوة لمئة فنان وشاعر وباحث من داخل العراق لم يحضر سوى الفنان يوسف العاني، فقد تعذر على البقية الحضور بسبب عدم امتلاكهم جوازات سفر بعيد احتلال العراق وسقوط النظام.. فقدم العاني فيلم "سعيد أفندي" في احتفالية ضاجة ومتعاطفة مع سينما الأسود والأبيض الخمسينية، ولجمهور أخذه الحنين إلى بلده، وكان فناننا كما هي العادة النجم المتألق طيلة هذا الشهر، بخاصة وأن العديد من قدامى العراقيين هناك قد تعرفوا سلفا ًعلى تجربته في السينما بدءا ًمن "سعيد أفندي" 1958- إخراج كاميران حسني- وكان يوسف العاني قد كتب القصة والسيناريو والحوار لفيلم "أبو هيلة" 1962 اخراج محمد شكري جميل ويوسف جرجيس، هذا الفيلم المعد سينميا ًعن مسرحية "تؤمر بيك" ، كما كان كتب فيلم "وداعا ً يا لبنان" المنتج عام 1966-1967 باخراج حكمت لبيب، وبطولة العاني مع منير معاصري ومارلين،ومثل يوسف في فيلم "المنعطف" من إخراج جعفر علي ،المأخوذ عن رواية "خمسة أصوات" لغائب طعمة فرمان ، أدى فيه شخصية الشاعر حسين مردان، وكان عرض الإفتتاح في سينما بابل مساء 7/4/1975 ثم شارك بمهرجان موسكو السينمائي العالمي لتلك الدورة. كما مثل العاني في فيلم "المسألة الكبرى" من إخراج محمد شكري جميل - عرض الإفتتاح في سينما بابل أيضا ً مساء 31/1/1983 - ومن أبطال الفيلم غازي التكريتي بدور الشيخ ضاري الحمود الذي قتل الضابط البريطاني "لجمان" ابان ثورة العشرين، كما أسهم العاني أيضا ًفي فيلم "اليوم السادس" من إخراج يوسف شاهين وتمثيل داليداعام 1986 كما شارك في فيلم "بابل حبيبتي" اخراج فيصل الياسري 1987 وفي فيلم (ليلة سفر) اخراج بسام الوردي...
هل قدم الفنان"انطباعه" عبر الأداء، عن كل شخصية مثلها على خشبة المسرح أو عبر شاشة السينما والتلفاز؟ أي ما أضفاه من تحليل على تركيبة الشخصية، لتكون (هو) في شخصانيته؟ كما لو كان رساما ً انطباعيا ً سعى لأن ينهض بالعمل من كون الفن السابق نتيجة تركيب، ثم الإنطباعية نتيجة تحليل.
أهم ما سعى إليه الفنان يوسف العاني ممثلا ً، هو استعمال آلية الإنطباعية في اضاءة جوهر الشخصيات، وذلك بتأكيد لونيتها، وعدم الاهتمام بإظهار الكتل والحجوم، وإجراء عدد من عمليات الإختزال المتتالية، وحذف الكثير من التفاصيل المشهدية، كي يتوفر المتلقي على الإدراك الإنطباعي من هذا الفعل، وعبر تلاوين الأداء والحركة والصوت والإشارة، وهو ما تجلى قويا ً في التمثيلية التلفازية الشعبية "عبود يغني"، ليس من خلال صفات عينية مرتبطة بموضوع محدد، بل من حيث هي ظواهر مجردة في بنية المجتمع والحياة، قابلة للتغيير والزوال في جانبها السلبي، وقابلة للتطور والنمو في جانبها الإيجابي، ما يجعل العمل فضاء للتبادل بين المؤدي والمتلقي، لإستقبال ضوء الرسالة ونورها المنبعث من "عبود" والغناء، إذ تمثل يقينها المبثوث ليتقبله المتلقي، ويتعاطف معه، ولا أريد الخوض في مضمون التمثيلية، لكن خطوطها العامة التي تسربت من أنوار الأداء أشارت إلى حياة الناس المهمشين، والعزلة بدون روابط أسرية أو علاقات سوية، في مجتمع طبقي غير متكافىء ما تدفع البشر المتوحدين إلى ملازمة الحانة والغناء تعويضا ًَعن الفقدان والتهميش، كما يكشف النص الجانب الاخر المستغل من صاحب الحانة إلى رمز القمع "معاون الشرطة" وكيف ينهارون إزاء قوة التهديد بحرق الحانة،
إن الأداء العالي للممثل تجلى في نجاحه لخلق تغيير ولو بمقدار مساحة شعرة رأس في الآخر المتلقي، وزحزحة قناعاته ووجوده من "ثباتها" المزيف، المهيمن بقوة العسف، الجامد المناهض لتجدد الحياة ،سعيا ً إلى حراك وجودي آخر يخلصها من ربقة قيود ويحررها من جملة ضغوط.، ويقربها إلى أحلامها في العيش الأفضل.
نعم لقد فعل يوسف ذلك فيما قدمه من أدوار مضيئة عبر "عزف على العود المنفرد" اخراج رشيد شاكر ياسين/ بطاقة يانصيب/ الريح والحب/ يوميات محلة/ بلابل /الأيام العصيبة/ هو والحقيقة/ الحضارة الإسلامية/ الكتاب الأزرق/ الإنحراف/ الجرح/ حكايات المدن الثلاثة/ وأحفاد نعمان/ رائحة القهوة/ ثابت افندي/ عبود يغني....
فاز عديدها بجوائز، لكن الجائزة الأكبر هي الضوء الذي تمنحه أعمال الفنان من خلال قدرتها على خلق شعرية بصرية تضيء وتتوقد، تؤثر وتغيـّر.
وهكذا تماما ً عبود ما زال يغني وسيظل، مادامت أعماله توسع من المساحة الفاتحة، وتجلو الفضاء المضاء، برغم المقابل الموضوعي الداكن بظلاله القاتمة لأشكال الواقع والذهنيات السائدة والتقاليد الجامدة والسلطات الغاشمة..
تحية لشعرية الروح والنهج المضيء في مسار الفنان يوسف العاني ومسيرته ونسقه الجمالي المؤكد.