ادب وفن

المثقف والسلطة القمعية / عادل كاظم

وقف المثقف دائما وجها لوجه ضد السلطة القمعية في كل زمان وكل مكان، مدافعاً عن حرية الرأي وعن منجزه الفكري، مهما كان هذا المنجز صائبا او جانبه الصواب، ويذكر لنا تأريخ السلطة القمعية أنها تصدت وبعنف لكل الرجال الذين جاءوا برياح التغيير، وهذه الآلة القمعية هي نفسها التي كشرت عن أنيابها ماسكة بقبضتيها بخناق الفيلسوف سقراط فدفعت به لأن يشرب السمّ خلاصا من محنته التي صيّر فيها بدعوى انه كان يفسد عقول تلاميذه الشباب.
وسلطة القمع هذه هي التي دفنت عبدالله بن المقفع حياً، لأنه كان يستخف بسلطة العباسيين وبواليها على البصرة سفيان بن معاوية، ابن المقفع هذا المفكر الكبير الذي وضع كتابي "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" وهما سفران وضعهما في نقد السلطة وتسفيه إجراءاتها القمعية التي تصادر حقوق الإنسان التي نصت عليها الشرائع.
وسلطة القمع الباطشة هذه، هي التي أوجدت محاكم التفتيش التي قدمت الكثير من رؤوس المعرفة والفكر طعاماً لمحارق الموت، ورهنت كل مقدرات شعوب أوروبا بيد البطش والإرهاب بدعوى محاربة الهرطقة، وحجزت على كلّ من خرج على تعاليم الكنيسة فأحرقت كتب التنوير التي وضعها رجال الفكر والمعرفة في ساحات المدن، ووقع المثقف تحت طائلة التغييب في السجون المظلمة، ولنا في غاليلو غاليلي مثال على هذا، أن عالم الفلك العظيم هذا الذي أثبت كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، أُجبر بعد ان أُدخل سجن سلطات محاكم التفتيش لأن يتخلى عن نظريته مرغماً، وهو يردد مع نفسه بصوت منخفض:" ولكنها تدور رغم هذا"!. وعندما دخل عليه أحد تلامذته معاتبا له بعد أن تخلى عما جاء به وهو يقول:"اللعنة على أرض ليس فيها أبطال"!. فردّ غاليلو على تلميذه قائلاً:"اللعنة على أرض تحتاج إلى أبطال"!.
والقرن العشرون، يذكرنا بأحد شيوخ السلطة القمعية الذي سلب الكرهُ عقله فراح يسنّ القوانين لتقديم كلّ فكر حرّ للمحاكم، حتى شُبهت محاكمه بمحاكم تفتيش القرون الوسطى، ذلك هو عضو مجلس الشيوخ الامريكي السيناتور "ماك آرثي"، حتى سُميّت دعوات الكراهية التي نادى بها بالنازية الجديدة أو المكارثية..
ولم يسلم من تشريع محاكمه أحد من مثقفي أمريكا، لقد لوّح بعصا مكافحة الشيوعية بوجه كلّ من كان يحمل فكراً حرّا أو معارضا للتمييز العنصري، لقد بدأ بالمغني بول روبسن داعية السلام، فحجب عنه صالات الغناء، وقدّم للكرسي الكهربائي العالم الذري أو بنهايمر بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفياتي، ولم تسلم من إرهابه حتى هوليوود، فبثّ بين أروقة هذا الصرح الفني الكبير جواسيسه فما كان منه الا أن سحب جواز سفر شارلي شابلن الممثل الاشهر.
وفي عصرنا الحديث وفي الساحات العربية، رُفعت رايات التكفير بوجه الكثير من المثقفين ممن خالفوا الدعوات "الجهادية"، فقتل الكثير من الصحفيين ورجال الفكر.
وصوت التكفير هذا شبيه بالدعوات التي سادت القرون الوسطى في أوروبا، وألبست ثوب الهرطقة لرجال المعرفة من الذين نادوا بالتنوير، وحاربوا أفكار الظلام التي سادت فضاء أوروبا.
والسؤال هو: متى تستطيع الحضارات أن تبني جدارها السميك الصلب بمواجهة تلك الجائحة السوداء للسلطة القمعية؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن مجلة "الثقافة الجديدة" العدد:363 كانون الثاني 2014