ادب وفن

«كوميديا الحب الإلهي» والذاكرة المعطوبة – القسم الأول - / رحمن خضيرعباس

كوميديا الحب الإلهي أول عمل روائي للكاتب العراقي المغترب لؤي عبد الاله. بعد ان نشر مجموعتين قصصيتين وترجم رواية عن الانجليزية. ويبدو أنّ روايته هذه قد كتبت على نار هادئة. فقد استغرق في كتابتها عقدا من السنين. وهذا ما جعل حروفها وأفعالها تعانق جروحا عميقة في الذات العراقية التي تشظت في المنافي البعيدة. فمنذ الوهلة الأولى, تشعر بان الأحداث تمسك بك وتدعوك ان تبحث في متاهتها عن أزمنة بادت ولكن مذاقها ما زال طريا في الحلق, وعن امكنة اندثرت ولكنها مازالت شاخصة في الذاكرة. وعن أبطال يتصارعون بصمت بينما يسفحون ذواتهم وإنسانيتهم على مائدة العمر والانتظار . تشابكٌ في الفعل ونقيضه . وكثافة في المشاعر , حتى تتحول الرواية الى لوحة موغلة بالتفا?يل, غارقة بالصور والمواقف والتأملات والأفعال, تؤطرها أزمنة مختلفة . تزدحم وتشتبك متأرجحة بين سمو اللحظات التأريخية وبين قاعها. أسئلة تتقافز بين صفحات الرواية. تصمت أحيانا وتتفجر أحيانا أخرى. لتتصدى لماهية الفعل الإنساني وجوهر الخلق والحساب والثواب. أشياء كثيرة منها فقدان المنجز البشري. حيث تتعمق خيبة ابن القارح في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري, وهو يستجدي الذاكرة. يستصرخ أدباء العصور واعلامه فلا يجد فيهم من يتذكر المجهود الذي زرعه. وهاهم في فردوسهم ينساقون وراء ملذاتهم الحسية على حساب ثرواتهم الفكرية. أ? علاقة بين تهويمات ابي العلاء في رسالة الغفران وبين أبطال الرواية؟ أهي الذاكرة التي أريد لها ان تُجتَث وتُستَأصل من جذورها. تلك الذاكرة المعطوبة التي طاردت أبطال الرواية وهم في فردوس مهجرهم بلعناتها. أصبحت عبئا يلاحقهم . لذالك حاولوا أن يحصنوا أنفسهم باستنزافها وإغراقها بجزئيات المهجر.
هاهم أبطال رواية الكوميديا الإلهية يترعون كأسا طافحة بالألم وهم يتجرعون الغربة قطرة إثر أخرى. عبدل الذي اشتق اسمه من سرقة ازرار معاطف ضيوف ابيه وحالما علم أبوه بالخبر حتى غير اسمه من عبد الوهاب الى عبد النهّاب. ولكن الخشية من نظرة الناس جعلت الأب يتنازل عن موقفه فيسميه عبدل . وتستمر شخصيته القائمة على الابتزاز واستغلال الآخرين. فهو شخصية لا تتورع عن الحصول على المنفعة ولو بابخس الوسائل وأدناها. هجرته إلى لندن لم تكن الا بذات الدوافع . فهو لم يهرب من الأنظمة السياسية في بلده, وانما علم بانّ انكلترا تدفع?حتى لمن لا يعمل في إطار الضمان الاجتماعي. وقد وجد ضالته في فتاة انجليزية, تزوجها لتكون جسرا لاقامته وحصوله على الجنسية وجواز السفر.
ان عبدل بشخصيته السلبية يمثل شريحة من المهاجرين الذين تفننوا بالحصول على المنافع. ولكن عبدل فاقهم جميعا, فقد رسم الكاتب له صورة سيئة كانسان بلا مبادئ ولا قيم, لا يتورع عن اقتراف أي فعل غير منطقي أو غير أخلاقي اذا تعلق الأمر بمصلحته . وفوق ذلك فهو رجل شبه أمي يمارس كل المهن طالما يربح المال من ورائها. وحالما استطاع ان يمتلك جوازا للسفر حتى هجر زوجته الانجليزية, وعاد الى العراق للاقتران بامرأة عراقية اسمها بيداء.
أمّا صالح فهو نقيض لعبدل. أتى إلى انكلترا هربا من إرهاب الدولة وسلطتها البوليسية. من خلاله نستطيع أن نتلمس ملامح مرحلة ما بعد انقلاب تموز 1968 ومجيء البعثيين ومن ثم انقضاضهم على الحزب الشيوعي ومحاولة تصفية كوادره، ولعل رحيله عن العراق كان يتزامن مع اعتقال زميليه اللذين صُفيا في أقبية قصر النهاية. كما انه كان شاهدا على سياسة ارهاب المجتمع من قبل نفس الانقلابيين, وذلك حينما تم إعدام مجموعة من المواطنين في اكبر ساحات بغداد بحجة التجسس. مما جعله يعيش كوابيس الخوف حتى في أحياء لندن. حيث تطارده الملامح الحجرية ?شرطي الأمن. كما انه يمتلك ثقافة عالية جعلته يستفيد من الثراء الثقافي الذي يوفره الغرب. ومن خلاله استطاع القارئ ان يتلمس عمق اهتمامات(اللندنيين) بالفن والسينما والمسرح والموسيقى . وفي ظل المعترك الحياتي للرواية ذاتها فقد كان ( وهو الكاتب الروائي), منهمكا في انجاز الفصول الأولى من روايته ولكنه ليس بملاك, بل تختفي تحت ملامحه الهادئة اقنعة مشاغبة تتعارض ومبادئه، فهو يقيم علاقة صداقة غير متوازنة مع شهرزاد مع انه غير مقتنع بها. لفارق العمر. لكنه يستفيد من موقعها كطبيبة توفر له ما لم يستطع توفيره: المال والجنس وا?علاقات العامة بعينات من المجتمع الانجليزي. ولكنه لا يبادلها المودة والرغبة التي يتظاهر بها أمامها. كما انه ارتكب هفوة مع بيداء تشي بأنه غير قادر على كبح نزواته حتى إزاء تابوات اجتماعية محرمة. لقد رافقته عقدتان: عقدة الماضي المرعب حيث الخوف من سلطة لا تتوانى عن القتل لأقل الأسباب , وعقدة الجنس التي رافقته منذ طفولته, حيث النسوة الفاتنات اللواتي يجئن بيت امه لخياطة الملابس مما جعله يذوب في الجسد عشقا ولا يتورع عن ارتكاب علاقة مشبوهة ببيداء بنت خالة زوجته شهرزاد وزوجة صديقه وابن بلده عبدل.
شهرزاد هي الشخصية الرئيسة الثالثة في الرواية. تنتمي الى عائلة عراقية موسرة. وقد نكبت نتيجة لثورة تموز 58 وهاجرت العائلة إلى انكلترا وشهرزاد كانت صغيرة انذاك. مما جعلها تكمل دراستها في انجلترا ثم تتخرج من كلية الطب، وأثناء ممارستها لمهنة الطب تتعرف على احد مرضاها والذي تزوجته, وانجبت ابنتها الوحيدة هيلين.
من خلالها يطل ّكاتبنا على تلك المرحلة واصفا بشكل عرضي بعض ظروف نكبة وإبادة العائلة المالكة. ولعله - اي الكاتب لؤي عبد الإله - من القلائل الذين أشاروا إلى هذه المرحلة روائيا دون ان يتعصب لها او عليها. وبعد ان مات زوج شهرزاد تبقى وحيدة, وحالما تلتقي بصالح حتى تجد فيه عزاءا لبقية العمر.
اما بيداء فتأتي الى لندن مقترنة بزوجها عبدل وهي بنت خالة شهرزاد , لذالك فتكون لها معرفة بصالح . وحينما انجبت طفلها البكر سليم ظهر متخلفا ومشوها, وعلى الأغلب منغوليا لذالك احدثت هذه الولادة فجوة عاطفية مع عبدل. وجعلتها تعيش في أسوء حالاتها. ومع أنها ولدت توأمين ولكنهما لم يستطيعا كبح شبح الوهم الذي ظل يطاردها ويعذبها. وحينما مات سليم بلغت علاقتها بزوجها حد الكراهية.
هؤلاء هم أبطال الرواية وقد جعلهم الكاتب ينتمون الى الجيل الستيني ممثلا بشهرزاد والسبعيني ممثلا بصالح والجيل الثمانيني فتمثله بيداء. لكن الزمن الروائي يبقى قلقا, غير مستقر, بل انه يتماوج أحيانا بين مد وجزر, فما أن يطل بنا اطلالة قصيرة من زمن ما حتى ينتقل إلى زمن آخر. وكأن الزمن يتمدد ويتوقف لينبعث من جديد في حركة تموجية .لقد فتح نافذة على نهاية الستينات وحالما يغلقها حتى يسارع الى فتح شباك ينتمي الى الثمانينات, وكأنه يقوم بخلطة كيمياء الزمن ليخرج بشبه استنتاجات وهو ان الزمن العراقي يدور على نفسه ولايريد ان?يتخلص من جاذبية الألم . أما الشخوص الآخرون فكثيرون ولكنهم لايشكلون ثقلا فنيا ولا يؤثرون كثيرا على مسار الأحداث.
لقد كان لؤي عبد الإله حاذقا في أصول شد خيوط الرواية, وتقديم أحداثها على هيئة جرعات صغيرة, بمعنى ان الحدث لا يعطى كاملا, بل متدرجا ومن زوايا مختلفة . وهذا يجعل من السرد عملية تداولية بين أبطال الرواية. حينما حدث التحرش الجنسي بين بيداء وصالح على سبيل المثال, فكل واحد من هؤلاء الأربعة ينقله وفق عدسته وانطلاقا من زاويته , فينمو الحدث محاطا بمزيج من المشاعر المتضاربة ووجهات النظر والمخاوف وكأنه صورة ثلاثية الأبعاد. لذالك فالمادة الروائية لم تقدم جاهزة, فأحيانا تمر عبر منعرجات يتداخل فيها الوهم بالحقيقة. مث?ا: هل مات سليم الطفل موتا طبيعيا ؟ هل قتله أبوه حينما باع كليته إلى ابن صديقه عبد الوهاب؟ أو بالأحرى هل نقلت هذه الكلية إلى شخص آخر أم هو جزء من هلوسات بيداء التي كانت تستنشق الحياة عذابا. لقد كانت بيداء تعيش بين الحقيقة والوهم وكأنها قد وقعت ضحية للفزع والخوف من كل شيء, كما وقعت في حالة من الانفصام غير الحاد في الشخصية. لقد كان السرد خاضعا لعملية مونتاج على الطريقة السينمائية. فالتراكم في بناء الحدث يأتي على هيئة لقطات, تبرز وتختفي وتتصاعد ,مشحونة بالمؤثرات البصرية وحتى السمعية. فالسارد يوزع الأدوار ويتدخ? في بناء الحدث وتقديمه. ولكنه اثقل الرواية وجعلها تتشتت, وذالك من خلال ازدواجية المسار الروائي . فنحن نعلم بانّ صالح كان يكتب روايته التي رأيناها في الفصلين السادس والثامن, لننتقل الى جو وحدث مستقل عن السياق العام.