ادب وفن

أبو عدنان وفهد / غانم حمدون

أواخر1964 كنت في مدينة لايبزغ حيث تعلّمت اللغة الالمانية في معهد مختص بتعليمها، وسمعت عن رفيق لنا في برلين، كنيته أبو عدنان، له قصة فريدة مع الرفيق فهد. فكان طبيعياً ان أتلهّف الى سماع تفاصيلها منه مباشرة. بعد ستة شهور مرهقة الكثافة تعلّمت هذه اللغة بمستوى يؤهلني للإلتحاق بكلية الإقتصاد في برلين. وهكذا عدت الى إختصاصي بعد أن هجرته 13 سنة من نيل البكلوريس في الجامعة الأميركية في بيروت بفرع الإقتصاد، الذي فضّلته تهرّبا من مهنة التعليم التي لا تروق لي. لكن عقد البعثة ألزمني بالعمل في وزارة التربية التي إبتلتني بتدريس اللغة الإنكليزية لتلبية حاجة ثانويات في بغداد الى مدرسي هذه اللغة.
كان ابوعدنان قد سبقني بأكثر من سنتين الى تلك الكلية. تعرفت عليه بهذه الكنية وبها كنا نخاطبه ونتحدث عنه، وبها كذلك عنونتُ لاحقاً مساهمتي في حفل تأبينه. وطوال عقود صداقتنا ظل اسمه، عبد الرسول عبد الصاحب، عصيّاً على الرسوخ في ذاكرتي، حتى قبل ان تمحو الشيخوخة الزاحفة اسماء كثيرين ما زالت ملامحهم صامدة فيها.
كذلك ابنه (عدنان ابن ابو عدنان) فبهذه التسمية ظلّ في ذاكرتي هو الآخر، مذ كان زميل أبيه في جمعيتنا الطلابية و رفيقه في منظمتنا الحزبية في المانيا الشرقية.
ظل أبو عدنان ودوداً، محباً للمساعدة ومتواضعاً وهو من هو بسجلّه النضالي الحافل. وسَرّه أن اطلب منه الحديث عن فهد .
كان في ذاكرته المتوقدة خزين من المشاهد والأحداث التي عاشها في الناصرية حتى قبل أن يشغّله طيب الذكر أخوه الخياط كامل، صانعا عند طيب الذكرالخياط فليّح حسن وعمره زهاء خمس سنين. حدّثني عن اشخاص صار لهم شأن في الحياة السياسية كانوا، حوالي سنة 1928 ، يترددون على دكان (اسطه) فليح. ثم حلّ في الناصرية خياط إسمه بطرس، قادما من البصرة. فقرر فليح العمل معه لإتقان الخياطة على يده. وكان كذلك لأنه تعلّم مبادئ حرفته في الجيش ثم تركه، أو ربما طُرِد منه. وبالتبعية صار عبد الرسول صانع الأسطه الجديد كذلك.
عند ظهر أحد الايام زارهما العم يوسف (اخو اسطه داوود ابو مكينة الثلج) على حد تعبير الناس يومذاك. فأُرسل فليح صانعه لشراء تمر و(راشي) للغداء. وشاء سوء حظه أن يلوّث الراشي طارف قماش ممدود على منضدة الفصال. فراح فليح يصبّ جام غضبه على الصبي المرتعد. وإذا بالعم يوسف يتدخل محتجاً: ليش، ليش يافليح، مو هذا المسكين ديخدمك..؟!
فسكت الاسطه على مضض، ثم إنصرفوا الى السوالف وتناول الغداء.
شبّ الفتى عصاميّا، فلم يكفِه تعلّم الخياطة، ومن ثم مزاولتها مع شقيقه كامل، بل جمع بين الشغل والمدرسة المسائية، حتى بلغ الثانوية. ولعب سنة 1947دوراً اساسياً في تشكيل وقيادة اتحاد الطلبة في الناصرية. ثم ترك الخياطة وافتتح مخبزاً لتدبير معيشته. فإرتاح اخوه من مراقبة الشرطة "السريّة" لدكانه.
وقاده النشاط العارم خلال وثبة كانون الى سجن الكوت، وذلك بعد اعلان الاحكام العرفية بذريعة "حماية مؤخرة جيشنا المرسل لإنقاذ فلسطين" من التقسيم.
لما رحّب الرفيق فهد بالمناضل الشاب، شهق دهشةً وهو يرى العم يوسف امامه بعد مضي زهاءعشرين سنة على حادثة (الراشي) في دكان فليح وبطرس . ثم جلس ليحدث قائد الحزب عن صحبه الذين كانوا يترددون على دكان الخياطَين، وعن احوال الناصرية ومنظمة الحزب فيها.
بفضل وساطة أخيه كامل وكفالته المالية سُمِح لعبد الرسول أن يؤدي الامتحان الوزاري في البصرة. فأوعز اليه الرفيق فهد أن يزور الرفيقة مادلين، التي كانت معتقلة في سجن البصرة، ويبلغها تحيته الحارة مع أمله أن تصمد. فسرّه التكليف بهذه المهمة، خاصة وأن مادلين كانت زميلته في قيادة اتحاد طلبة الناصرية. ثم عاد السجن متفائلا بنتائج الأمتحان ونقل لفهد تحيات حارة من الرفيقة وعزمها على الصمود، فشكره وفرح بسماع أخبارها وتمنى له النجاح .
وحين قرر حكام العهد الملكي نقل قادة الحزب الى بغداد لإعدامهم إنضمّ أبوعدنان الى صف رفاقه الذين ساروا الى بوابة السجن مودعين القادة الابطال بنشيد" السجن ليس لنا نحن نحن الأباة، السجن للمجرمين الطغاة.."
جدير بالذكر أن الرفيقة مادلين هي طيبة الذكر أم سلام. أما اسطه بطرس فهو الداعية الأممي (بيوتر) الذي تحدث حنا بطاطو عن دوره في بذر افكار شيوعية في الناصرية، وقبلها في البصرة. ولوعرف بطاطو بتجربة عبد الرسول في الناصرية وقصته مع فهد والخياطين لسعى الى لقائه حين كان يعدّ مؤلفه الشهير عن العراق، الذي صدر بالانكليزية أواسط الثمانينات. وقد ندمت لتخوفي من لقاء بطاطو في بيروت، وذلك قبيل المغادرة الى براغ بإيعاز من طيب الذكر الرفيق رحيم عجينة*.
عاد الدكتور عبد الرسول بعد تخرجه الى الوطن حيث عين في وزارة الصناعة. فأستأنف علاقاته مع اصدقاء فارقهم عشيّة إنقلاب 8 شباط وزادهم بصداقات نشأت مع رفاق في خلية الحزب وزملاء في العمل. ومثل هذا شهِدت علاقاتي بعد عودتي الى الوطن في خريف 1971. زارني أبوعدنان في مكتب مجلة "الثقافة الجديدة" حيث دشنت عملي في هيئة تحريرها. وسرّ بسماع قصته مع فهد طيب الذكرالرفيق /الصديق أبو كاطع، الذي كان سكرتير تحريرالهيئة. ثم التقينا مرتين أوثلاثا قبل إنهيار الجبهة وإضطرارنا الى مغادرة الوطن: ابو عدنان الى برلين وأنا الى عدن . وبعد تسعة أشهر غادرتها الى الجزائر. وفي أواسط الثمانينات إستضافني حين توقفت في برلين عائدا من زيارة لكوبنهاغن الى الجزائر.
وحين قرر الحزب عام 1993 نقل تحريرمجلة "الثقافة الجديدة" الى لندن تواصلنا هاتفيا ثم إستضافني بكرم جميل في شقته المريحة أثناء المهرجان الثقافي العراقي الذي إنعقد في برلين. ورافقني الى كل فعاليات المهرجان.
اواخرالتسعينات تفاقمت متاعب شيخوخته، فأضطر الى العيش في دار المسنين، وحرم من هواية التجوال والمعاشرة، وكذلك من المساهمة الفعالة في جهود حزبه. تزايدت حاجته الى التواصل الهاتفي, وظل يجدد إشتراكه في مطبوعات الحزب ويتلهف الى أخباره .فكنت الخًّص له مايصلنا من المتابعات السياسية الخاصة بالرفاق. وكان يسخر من زيارات رفيق سابق يبخل بتسديد الإشتراك رغم إشتغاله براتب لابأس به. فيزوره كلما شاء الإطلاع على آخرما يصله من أدبيات الحزب. فيشكره أبو عدنان على تكرّمه بالزيارة وكأنه يجهل غرضها، فيتمتع بردّه : لاشكر على واجب ! وواصلت مهاتفته وحثّه على الواقعية في التعامل مع متاعب الشيخوخة.
عندإنهيار نظام البعث هاج حنينه للوطن. فعقد العزم على العودة رغم نصائح عدنان وشقيقه الدكتور إبراهيم ومحبيه. ليته استشارني لاطلب منه التريث حتى أعود من بغداد، لأن مجلس تحرير "الثقافة الجديدة" قد قرر عقد إجتماعه السنوي في منبعها وذلك في خريف تلك السنة، بمناسبة الذكرى الخمسين لصدورها. كنت سأرجوه صرف النظرعن ذلك الإنتحار فأصف ما شاهدت وعشت منذ دخلت بنا السيارة أرض الوطن في معبر طريبيل من الأردن حتى غادرت عبره. فأكرر ما قلت لمن سألني : العراق في نفق مظلم من الخراب الشامل يلوح في نهايته بصيص خافت هو التعددية رغم كل مثالب ممارستها.
كان ابو عدنان قد وصل عمان في أيار برفقة إبنه إبراهيم وكان صهرهما قد جاء ليعود مع عمه الشيخ الى بغداد ب إلطائرة، وذلك قبل أسابيع من إنقطاع الطيران المدني حين بات مطار بغداد هدفا لصواريخ "المقاومة"!
وصف لي الرفيق إبراهيم وداع أبيه الذي قال له: ياابني ما ضل بيّ حيل أناضل على درب الحزب الطويل، أريدك تواصل نضالك عني ايضا.
عند مدخل المسافرين طال عناقهما باكيين بحرقة الإدراك أن الفراق نهائي، حتى لبى الشرطي مناشدة صهرهما لسحب عمه من بين ذراعي إبراهيم.
وصل بغداد بفرح غامر ثم عانى حر الصيف وخراب الخدمات حتى ايلول حين توقف قلبه النابض بحلم الحزب .
وليت المنية أمهلته ليشارك رفاقه في إحتفال الذكرى الثمانين لتأسيس حزب العم يوسف والشهداء الأماجد الآخرين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يومها حدثني الصديق د.موفق الحمداني عن مدرس فلسطيني في الجامعة الأمريكية مذهل بسعة معرفته عن احوال العراق وحزبنا. واقترح أن التقي به. لكن دوافع ذلك الاهتمام بحزبنا، ومن مدرس في الجامعة الأمريكية، بدت لي مريبة، خاصة بعد افتضاح دور المخابرات الأمريكية في مؤامرة 8 شباط 1963. فكيف أجازف بلقائه وأنا مقيم في بيروت بإسم سبّاك إسمه حسن دحام العزاوي بجواز سفر "أصولي" كلفته 50 دينارا أرسلتها أختي الشجاعة سعاد مع صورتي الى صاحب (لوندري) بمنطقة "رأس الحواش" في الأعظمية هوعبد السميع محمد عارف شقيق الرئيسين. وتولى فتى شجاع من اقاربنا يسكن قرب المنطقة تسليم المبلغ وتسلّم الجواز الذي وصلني الى الموصل حيث لجأت بعد المؤامرة بإسبوعين فغادرت به أوائل1964 الى بيروت دون التوقف في سوريا. وبفضل سعاد والفتى أيضا حصل اخي/رفيقي فتاح على جواز مزور, وبفضلهما تكررت هذه الصفقة بضع مرت لإستحصال جوازات مزورة من لوندري عبد السميع.