ادب وفن

وداعا طارق الشبلي / علي ابو عراق

البصرة / طريق الشعباتفق مثقفون وسياسيون ونقاد موسيقيون وشعراء وملحنون أن الراحل "طارق الشبلي" الذي وافاه الأجل قبل أيام هو من أكبر الموسيقيين والملحنين العراقيين، وفي طليعة من اثروا واغنوا الموسيقى واللحنية العراقية والعربية عبر نحو نصف قرن، وخلفوا بصمات لا تنسى عليها، وإذا كان الإهمال والقمع والاضطهاد والعوز والفاقة هو حصيلته من الحكومات المتعاقبة، فان هذا لم يثنه عن العطاء الثر والإبداع المتميز، بل الملفت لحد الدهشة فضلا عن اكتشاف وإطلاق العديد من المواهب التي شكلت الوجدان العراقي العاطفي والسياسي وان ما خلفه من عشرات الأغاني الجميلة والخالدة هو دليل على ذلك.

وبعد؟
البصرة تقاوم أقدارها

لقد تضافرت الأقدار مع زحف جيوش الظلام على البصرة، البصرة المدينة الموشاة بدهشة الأساطير وسطوة التاريخ وغنج الجغرافيا، البصرة بوابة العراق نحو كل زاه وجديد مدينة الشعر والماء والنخل والعشاق والحكايات الخضلة والسندباد والفرح والشناشيل والفقه وعلم الكلام والنحو والمدارس المختلفة، البصرة التي باض فيها الحب وفرخ.. واتسعت ظلالها لتكتنز بكل خضرة العالم واحمرار توته وتغريد بلابله وهديل فواخته لتكتب أول صفحات البياض في تاريخ العرب الذي طفحت اغلب صفحاته بفيض من السواد، البصرة التي آنست وحشة الرمال وكسرت صمت الصحارى وأبدلت حللها الصفراء بحلل ملونة وزاهية، البصرة التي بدت عبر العصور عروس الدنيا وناسجة أفراحها، تضافرت لتطفئ مهرجانات فرحها وأرخبيل اضوائها ونجومها اللامعة التي أنارت سماء العراق بفيض ثقافتها وفنونها ودافق أشعارها وأولوية ريادتها، البصرة التي يدخلها البشر من كل جهات العالم بقلوب مطمئنة ليجدوا فيها الكفاية والدعة والسعادة والبهجة ويمتاحوا منها دون حد أو خاتمة، البصرة التي تمتزج فيها الموسيقى العذبة والأشعار الصادحة والروائح العابقة والرقص الحار بفيضانات الطيبة وفروض التسامح وعواصف الألفة، والتي كانت عبر قرون منارا وفنارا لكل موحيات الحب والجمال، فبعد الزحف الكبير لفلول الظلام مظللة بالرايات السود والأهازيج والهمهمات الطائفية ناثرة قبلها التابوات والموانع والممنوعات لتطيح بكل ما يشعشع في البصرة من فجر ويتشظى من نور فوأدت كل باهر وجميل واحتالت على كل نابض وحي ومعبر و خنقت كل ما يبشر بأمل ويلوح بإشراق.. فتحولت مدينة البهجة والألوان والتنوع البشري والثقافي إلى مستعمرة للسواد وقلعة للويل والنواح... فهاجر أغلب أهلها وتناثر الكثير من مبدعيها في شتات الغربة وجليد المنافي وأغلقت مسارحها وسينماتها ونواديها.. وتعرضت كل عتبات جمالها ووعيها إلى إبادة جماعية إذ حول "البعض" المسارح والكالريهات الى مستودعات تجارية وهدمت السينمات وسوتها بالأرض وتحولت النوادي الاجتماعية والترفيهية إلى مطاعم أو الى محلات أحذية اواكلات جاهزة.. وتحولت الفرق الموسيقية التي تناهز 250 فرقة موسيقية في البصرة إلى فرق للنواح والعويل هذا لمن تماهى مع مهرجانات فلول الظلام بيد أن هؤلاء لم يكتفوا بهذا القدر من العدوان والخراب بل امتدت أيديهم للتصفية بسلسلة من عمليات الخطف أو التفجير أو القتل لكل من تسول له نفسه بإقامة حفل عرس أو حفل عائلي أو الاحتفاء بأي مناسبة ، ويا ويل كل الويل لمن يمسك آلة عود أو كمان أو أي آلة موسيقية والتي استبدلت بالصنوج والزناجيل بعد ان كان شباب البصرة يتباهون بحمل هذه الآلات ويمشون الهوينى في دروب المدينة الآمنة وهم يتباهون بذلك، وتبدل بعد هذا كل شيء فإضافة الى الحرب السرية أحيانا والعلنية أحيان أخرى على هذه المدينة التي هي كما أسلفنا سادنة التاريخ وزهوة الجغرافية وموئل الحب ومفزع الفرح وحاضنة الشعر والموسيقى والرقص وسائر الفنون ..جاء القدر ليكمل دورة الخراب والموت والنسيان، وليقوض ما تبقى من أعمدة قاومت عناصر خرابها ووقفت شاخصة وكان وجودها يذكر بما تبقى من هوية هذه المدينة ويوحي بإرثها الزاخر الجميل بل الملفت والمؤثر بشكل واضح، والذي جعلها تحصد أكثر الألقاب زهوا وجمالا ورسوخا رغم متواليات خراباتها التي كانت أثقلها وأشدها بؤسا زمن النظام السابق اذ تعرضت لإهمال النظام وعتوه وانتهاكه ولكن أكثر صفحاتها وحشية وإبادة هي التي جاءت مع فلول العتمة بعد سقوط النظام السابق ، جاء القدر ليسرق ما قر واختبأ عن عادياته في أعماق رحمها، وكأن هناك مؤامرة تنسجها عناكب الظلام بالاشتراك مع نسور القدر.. فبعد الشتات والهجرة والتهجير والقتل والخطف تسرق محمود عبد الوهاب ومهدي عيسى الصقر وفؤاد سالم وطارق الشبلي وغيرهم، وهم رموز المدينة ومصدر فخرها، وإذ نلوذ بالصبر والسلون لهذا الفقد الأليم خصوصا الملحن طارق الشبلي الذي لم يزل جرحه حارا وطازجا، الملحن الذي أزهرت ألحانه في جميع محافظات العراق حقولا ومروجا وربيعات غضة، وعرفه العراقيون كملحن فذ عصي على النسيان وممتنع عن التواري بل سيبقى دائم الحضور في الوجدان العراقي والذاكرة الشعبية عبر أغانيه وألحانه الكثيرة التي منها الصفصاف ولو تحب لو ما تحب وفر بيه وغيرها العشرات، نتمنى من الله ان يكون رحيما بنا ونتوسل بالقدر أن يكون اقل غدرا وأكثر حنوا أن يهب لنا حيوات ما تبقى من مبدعينا لردح من الزمن ..وان يكون اقل شراهة من الظلاميين الذين ابتلعوا مدينتنا بكاملها و الكثير من ثرياتها المضيئة ويمنحنا الفرصة من جديد لنمنح مديتنا شيئا من فرحها المضاع ومجدها القديم ويفك تحالفه المريب الغادر مع فلول الظلام ومنتجي الويل والخراب والثبور.