ادب وفن

قراءة لقصيدة «أمي» للشاعر سامي عبدالمنعم / عيسى مسلم جاسم

الأم مفردة أممية، وقاسم مشترك يوحد لغات العالم، وان اختلفت قليلاً، نجد المفردتين «ماما أو مامي» السائدة بين شعوب العالم، وهي الف باء النطق لدى اطفال العالم قاطبة، اما من الجانب البايولوجي، وعبر تجارب العالم الروسي «بافلوف» وابحاثه الطويلة الأمد على الحيوانات، ولا سيما الفئران، حين وضع اسلاك مكهربة بينها وبين الغذاء، وبين الجنس ثانياً، فتوجست خيفة، ولم تعبر الأسلاك، وكانت الحالة الثالثة، كان العائق الكهربائي يمنعها من الوصول الى ابنائها، وهذه المرة اجتازت العائق المميت، للوصل الى ابنائها وهكذا تغلبت عاطفة ا?أمومة على ما سبقها من الغرائز «البايولوجية»، اما «أمي» انا كاتب السطور والتي رحلت قبل عقدين من الزمان «لها الرحمة» كانت تقول عن الأم: هي الحياة وعلى حد تعبيرها، الدنيا، والارض والوجود، والتناسل والتواصل، والديمومة.يقيناً لا أروم كتابة مقالاً او بحثاً عن الأم، وان كانت تستحق الدراسة وكتابة المجلدات فقد وثقت الكتب السماوية والقيم الأرضية، وأفردت لها الكثير والكثير، حتى باتت تشكل مرتبة أدنى واحدة عن الآلهة، قديماً وحديثاً.
لكن بيت القصيد قصيدة - أمي، للشاعر، سامي عبدالمنعم، والمنشورة في الصفحة السابعة -أدب شعبي- ليوم الخميس الموافق 23 أيار/ 2013، ومن خلال جريدتنا- الاثيرة- طريق الشعب بعددها 191 لسنتها 78.
تصدرت القصيدة عبارة - الى أمي العزيزة، والى كل الأمهات- مما يدل على شمولية مفردة الأم ودورها التربوي والنضالي الفاعل، الأم التي الهمت المبدعين فنانين وكتاب وشعراء خالدين، فهذا الرصافي، الذي حضر معنا التفتيش الصباحي في المدرسة الابتدائية، حين ولجت مقاعد الدراسة للمرة الاولى، في اواسط خمسينيات القرن الماضي، وحين يتصدر احد التلاميذ الذين سبقونا بالمرحلة الدراسية، وبصوت عال موشح بالفخر والحماس تردد البناية المدرسية صدى قصيدة: أمي، احب الناس لي أمي ومن بالروح تفديني، وتمضي القصيدة، وهي تجسد دور الام الخطير، ناه?كم عن الصورة المرافقة للأم من تعب وهم ونكد لأجل النهوض برسالة التربية والرعاية والمعيشة، حتى ولو كان بجانبها رجل، نعم الأم التي نهضت ايضاً باعباء البيت من كل جوانبه في سنوات غياب الرجل الطويلة في طاحونة الحروب الدموية، والاسوء حين تفقد اعزتها في ساحات الموت المجاني، والتي لم تتوقف لغاية هذا اليوم. كم هو حجم قلبك يا «أمنا»، وانت تنوئين بهذا الثقل الجسيم.
قصيدة «أمي» تتألف من ثمانية وعشرين سطرا، وهي متعددة القوافي، وتكررت حروف «الروي»؛ الراء، النون، التاء الطويلة، اللام، والحاء، وبهذه الصيغة الهندسية للقصيدة، فتلج باب مدرسة التفعيلة وبـ»امتياز» وهي على الاغلب طويلة ومتعددة «التفعيلات» وهي اصلاً مكتوبة للالقاء على المنابر، ويستقبلها الجمهور الأفقي العريض برغبة وارتياح كبيرين، وهذه هي أبرز سمات الشعر الشعبي الذي حظي بجمهوري النخب «أدب الصالون المهني» وعموم الشرائح الاجتماعية التي هُمشت طويلاً، ناهيكم عن نقاط أخرى تحتسب لقصيدة «أمي» لكونها تنز بالموسيقى، وتزهو?بالايقاعات الرومانسية الحالمة، على الرغم من كون القصيدة بمضمونها العام خريجة المدرسة الواقعية الاشتراكية، لكونها جعلت من اكبر كونها ظاهرة «بايولوجية».
- أمي سگتنه الصبر من يوم چنه ازغار/ منها عرفنه الوفه واتعلمينه اشعار/ الزاد ما بيه طعم لو ما يجي خطار- السطور الاولى من القصيدة، ومنذ السطر الاول تشعر وكأنك امام «بانوراما» تاريخية، تؤرخ القيم الخيرة، منذ بدء البشرية الى يوم الحضارة المدنية، وهذا التراث الانساني حملته «أمي» في تلافيف قلبها الكبير وطيات فكرها الثاقب، فمع «حليبها» المعبق بكل نجاحات اليوم وارهاصات المستقبل، هذا الحليب مطعم بمفردات عديدة أولها الصبر على الويلات وعدم السكوت على الضيم ولكن عند ضمان النجاحات، والأم هي المدرسة الاولى للمعارف والوف?ء والأدب والأشعار، ناهيكم عن خصلة الكرم الذي دأبت عليه العائلة والدور الفاعل للأم فـ»الخطار» هو ملح ولذة الطعام، لأنهم اعتادوا عليه.
- ولو دارت أمي بزعل حتى الشمس تندار/ شيلتها هيبة وطن تلمض دمع واسرار/ باصبعها محبس شذر عن الحسد والعين- النص الذي يزيح الستار اكثر عن «الأم» وقد فاقت صفتها الآدمية، بل هي من طراز آخر غير الجسد والدم بل هي قدرات اضافية اكبر من السمات «الخلقية البايووجية المادية» فقد حظيت بمنزلة عالية كالأولياء والصديقين، بل هي قضية كل العالمين، ومسيرتهم الطويلة المحفوفة بالمزالق والمخاطر «شيلتها هيبة وطن» هنا جسد الشاعر الجانب «الفنتازي الرمزي» للدور الفاعل والمؤثر لهذه الأم، وبالتالي هي فكر نير وثاب، وبامكانها ايقاف عجلة ا?حياة لو أرادت، فهي حين غضبها تتراجع الشمس لارادتها، أي أم بهذه المزايا، وأي أمهات؟!
كذلك يوظف الشاعر «الميثولوجيا» فيجعل محبسها وشذرته دريئة من الحسد، فهذه الأم العملاقة صاحبة الارادة، لابد أنها تقض مضاجع الاعداء من الطغاة ومن سار تحت ثقافتهم.
- وكت المعاند صگر، وبالحب حمامة بيت- النص بودي التوقف عند هذا السطر ويكشف الشاعر عن معدن هذه الأم «القضية» فهي في جوهرها مسالمة محبة للخير عاشقة للسلام، وحسب الشاعر هي «حمامة بيت» جميلة أنيقة اليفة عاشقة لكل قيمة عليا متألقة، هي حمامة- بيكاسو وفائق حسن، لكن هذه الصورة البهية وهذه اللوحة الرومانسية، تسبب الزكام والحساسية لاعداء الانسانية، التي ترعبها الحمامة الأنسية، \
حينها يبدأ الصراع على أشده، في حين معسكر الحمائم لا يتراجع، وعلى مضض، وتستعير منقار ومخالف الصقر. هكذا هي الحمائم وقت الشدة، لأن الهجمة المعادية تحول دون الوصول الى شواطئ الوطن السعيد فلا تلوموا «أمي» الحمامة الاليفة.
- ما يغمض الها جفن الا اذا رديت/ يوليدي غاب الگمر واتنطرك ما جيت- النص يترجم الاجواء والأمكنة، فالام وريثة عقود من القهر والحرمان والتسلط، لذا فالقلق لا يغادر قواميس حياتها، فهي على دراية بمصائر الاجداد والآباء والأخوة، وما دفعوه من أثمان سخية غالية لاجل ان تدوم اشراقة القمر، جاءت مفردة القمر على فسحة «الديمقراطية» المحفوفة بالمخاطر، وهنا المعاني مجازية، نعم فقلق الامهات مشروع،
وعمر الأقمار قصير، والأبناء في ظل هذا الوطن مصيرهم مجهول ما بين جبهات القتال والدوائر الامنية او المقابر الجماعية.
- تعذرني يبني بالنشد لو لحيت/ أنت طعم دنيتي وانت عمود البيت- النص لصورة مكتملة للحيرة والقلق، حين يرفض هذا «الولد» القيود والمراقبة حتى من الأم ويثار لرجولته ومهامه المصيرية، تعتذر الأم عن ذلك وتبرره،
لانها تراه هو بذرة التواصل والنجم الثاقب والضوء في نهاية النفق بعد ان ذاقت مرارة خسارة «الأب الغائب الحاضر والمجهول» فالنار تسعر تحت رماد الكبرياء.
- ليلة شته والگاع طين/ والحزن خيم عالروازين- نص من السطور الأخيرة والموشح بالشتاء والطين والحزن- وهي رموز كان بودي الا يختم الشاعر بها القصيدة لابد من صناعة الفجر بعد ليل طويل شتائي، بقي السطران الاخيران:
- يبني يبو گلب الحنين/ مابد لن گلبه النساوين- النص فقط بودي اتوقف عند مفردة النساوين اللواتي هن ضحية وهن أم، اعد كتابة الموروث يا سيدي «سامي».