ادب وفن

مخيم المواركة.. ورواية القناع (1-2) / حميد حسن جعفر

"1"من إشكاليات النص السردي في يومنا هذا، إشكالية تعدد المنهجيات وتكاثر النظريات. فما عاد النص خاضعا لنظرية نقدية ولمنهاج عمل قد تكون وظيفته بالأساس تكبيل النص السردي بسلطات وانساق وظيفتها بالأساس تحجيم فضاء النص. بل إن السارد ذاته بات مؤمنا وبشكل مطلق، بأن وقوع الحافر على الحافر لا يمكن أن ينتج كتابة إبداعية. بل إن فعلا كهذا لا يمكن إلا أن يكون تابعا لنص سابق، وبالتالي لا مجد ولا فضل لنص كهذا ولكتاب كهؤلاء. بل إن سلطة الإبداع هي وحدها القادرة على إنتاج نص مختلف، أو كتابة مغايرة.
وقد كان لجوء العديد من كتاب الرواية الى فن "الرواية داخل الرواية" عبر وجود نص روائي، أو نص حكائي منقول/ مروي عن رواة، أي إن هناك نصا شفاهيا.
فيما اعتمد البعض الآخر على وجود نصوص مدونة، تراثية، أو رسائل أو وصايا، أو نصوص خاضعة لفن التناص، أو أن تكون هناك نقوش وحفريات لحضارات قديمة.
البعض الثالث حاول أن يزاوج ما بين الشفاهي والمدون، من أجل إنتاج نص هو منجز لفن التلاقح من الممكن أن يجد فيه الكاتب المعاصر فسحة أوسع وفضاءات أرحب؛ يتمكن من خلالها إطلاق ملكة المخيال لإنتاج فعل مغاير قادر على إقناع القارئ على وجود كتابة تنتمي للحداثة.
*****
المتلقي في حقل الكتابة الروائية لابد له من أن يضع يده على العديد من هكذا محاولات، من الممكن أن تنتمي للنضوج. فليس من الصعب على القارئ الجاد، الذكي، أن يضع أكثر من إشارة على أكثر من تجربة كتابية قادرة على أن تفصح عما من الممكن أن يقدم الكاتب من أفعال تبتعد كثيرا عن التكرار.
واذا ما استطاعت الواقعية بكل أشكالها أن تقدم نماذج متقدمة من فن السرد، ضمن آخر مبتكراتها، ونعني بها الواقعية السحرية، فقد استطاعت منهجيات النص السردي الحديث أن تدفع بالواقع الثابت جانبا، لتتمكن من أن تدس مسابيرها في الأرض البور، التي لم تستكشف بعد. حيث إشكالات الانسان عبر علاقاته بما يحيط به من طبيعة ونفوس، ودواخل وكائنات بشرية. أو ما يحيط به من إشكاليات الواقع التي تتناسل على هيئة حروب وثورات ودكتاتوريات، ومحاولات شطب، حيث سلطات القوة والنرجسية والإحساس بالتفوق.
لقد تمكن الكثير من الروائيين وعبر العديد من الأجيال، وضمن الفضاء المحلي من أن يشتغلوا على الكشف والتعرية، وتقشير الأزمنة والأمكنة وصولا الى ما يمكن أن تخفي القشرة الخارجية. الى ما يمكن أن تخفي الظاهر/ القشور من كذب ودجل ودسائس ومحاولات تصفية وشطب.
لقد استطاعت المنهجيات الحديثة من أن تفتح أمام السارد والمتلقي بوابات لا تعد ولا تحصى، قد يتمكن الانسان المعاصر من خلالها وعبرها من الوصول لتجاذبات وتقاطعات، والى تناقضات الانسان مع نفسه، ومع الآخر.. واستطاعت أن توفر لكل من الكاتب والقارئ وللكتابة كذلك مجالات واسعة تمكن الفن الروائي من خلالها أن يتجاوز الكثير من التجارب.
فالمتتبع للفن الروائي، سواء كان على المستوى المحلي أو العربي أو العالمي سوف يحس بحالة من العجز في الاستقبال والاطلاع، ورغم ضرورة صناعة حالة توافق ما بين القارئ والكاتب، إلا إن الكاتب هذا لم يعد منتظرا قارئا بعينه، بل إن حرفة/ مهنة الكتابة والتفرغ لهكذا حالة إبداعية استطاعت أن تتقدم على فعل القراءة نفسها ـ على المستوى الفردي ـ على الرغم من عدم سهولة الكتابة. بل إن الزمن الذي قد يحتاجه الكاتب من أجل الكتابة من الممكن أن يفوق ما تحتاجه القراءة من الوقت، ومن الممكن أن يفوق عليه بمئات المرات، بل قل آلاف المرات.
فرواية "إخوة يوسف" للكاتب الألماني "توماس مان" صاحب "جبل السحر" التي ترجمها الروائي وطبيب الأسنان علي عبد الأمير صالح. وصاحب "الموت في البندقية"، فإن "إخوة يوسف" استغرقت كتابتها "16" سنة، ما بين عامي 1926 و 1942.
لقد استطاعت الكتابة الإبداعية أن تنتج قراءة إبداعية/ قراءة نوعية، رغم تقدم الفعل القراءاتي على الفعل الكتابي. واذا ما اعتبرنا عمر الكتابة هو ثمانية آلاف من الأعوام ،فإن عمر القراءة قد يشكل عمر الوجود البشري على الأرض.
القراءة المبدعة هذه لم تكن بحاجة الى قارئ فقير/ بريء، بل بحاجة الى قارئ/ ماكر، قارئ مبتكر قادر على مواجهة الكاتب بقراءة لا تقل معرفة عن المكتوب/ المدون، العمل السردي.

"2"

الروائي "جابر خليفة جابر" في "مخيم المواركة" يعمل على صناعة نص روائي/ سردي، يعتمد بالأساس على نص، أو مجموعة نصوص سابقة/ مرسلة من قبل شخص آخر أو مجموعة أشخاص آخرين وهذه النصوص تتحرك ما بين الشفاهية والمدونات وصولا الى الكتابة الرقمية.
فاذا ما كان الكاتب ذاته قد اعتمد في كتابه القصصي السابق "طريدون"، هذا الكتاب الذي ينتمي الى السرد الروائي أكثر من انتمائه الى كتابة القصة القصيرة، قد اعتمد الكاتب هنا على فن التناص، ما بين المدون والتصوير، بل ما بين الكتابة والفن التشكيلي، ما بين النص واللوحة. إذ إن البحث عن سبل الكتابة المختلفة يشكل الهاجس الأول من أجل إنتاج حالة تنتمي الى المغايرة والاختلاف. فعل التناص هنا فعل يحتاج الى دربة أكثر، والى معمار قادر على البناء الهندسي، إذ إن السرد الإبداعي لا يمكن أن يتقبل الأفعال العشوائية.
*****
في مهرجان المتنبي العاشر "25ـ 26/ 9/ 2012"، ومن ضمن إحدى الجلسات النقدية طرح الدكتور سمير الخليل تصوراته حول "قصيدة مستلة من قصيدة "القناع" اسماها قصيدة "المرآة"، والتي تشتغل على معاينة الداخل ـ دواخل النفس ـ عبر صناعة شخصية لا وجود لها إلا في ذهنية الشاعر نفسه.
في رواية "مخيم المواركة" للروائي "جابر خليفة جابر"، يجد القارئ إن الروائي يعمل على صناعة شخصية متخيلة مستلة من شخصيته هو. حيث تدور الحوارات/ الرسائل ما بين الاثنين، ما بين جابر خليفة جابر، والشخصية الرئيسة في النص، والتي صنعها الراوي وفق خصوصياته.
قد تتشكل هذه الشخصية وفق قصيدة القناع، أو رواية القناع، والتي من الممكن أن تنتج ما يسمى برواية المرآة، حيث يجد الروائي نفسه أمام مرآة متخيلة، حيث يجد نفسه شخصا آخر، وإن اختلف خارجيا فهو متطابق داخليا.
وبذلك لن يكون الدكتور "أحمد/ ودميرو" سوى جابر خليفة جابر، والذي سيقوم بدور "عمار اشبيليو".
القارئ الاعتيادي البريء ـ الذي يعيش في غفلة من التغيرات التي أصابت جسد الكتابة ـ قد يجد نفسه في حيص بيص من أمره، حيث يشكل "عمار اشبيليو" سلسلة من المراجع السردية، سلسلة من حلقات يضخ بعضها للبعض الآخر ما يستخدم من أمور الذاكرة، حلقات متصلة من الأجداد والآباء والأحفاد وعلى مر المئات من السنوات.

"3"

إن لعبة الكتابة في "مخيم المواركة" تنتمي للمغامرة؛ فعبر سردياتها تتشكل لدى القارئ رؤية مفادها إن "جابر خليفة جابر" يعمل على جعل الواحد جميعا، وتحويل الجميع الى واحد، حيث تتداخل الشخصيات والأحداث. عبر هكذا اشتباكات تتحول الكتابة الى حالة من الاختيارات، إذ إن القارئ سوف يجد نفسه وسط تعدد الحكائين. إذ سيكون السرد تحت رحمة الحوارات التي تتطلب إصغاء وتبصرا، من أجل تثبيت عائدية الحوار. وبسبب تعدد الأندلسيات ـ كأمكنة ـ مادية وروحية، معاصرة ومتوارثة، وبتعدد الأندلسيين أجدادا وأولادا وأحفادا، أندلسيون يتشكلون من خلال الذهن/ المخيال، وآخرون يعودون الظهور، ناهضين من تحت غبار القرون.
أسماء العشرات من الجغرافيات، مياه ويابسة، مدن حقيقية وأخرى متخيلة. إن القارئ ومن قبله الروائي يعمل على صناعة المحاذاة. القارئ يحاذي الروائي، والروائي يعاين محاذيا النفس، مرآة القاص ليست حالة فيزياوية/ سطح عاكس، سطح ملموس؛ بل إن المرآة هنا حالة حضور لكم هائل من الأمكنة والأزمنة والبشر.
الروائي لا ينفي عن بطله السارد قدرته على الكتابات السردية والشعرية، بل على القارئ أن يضع في حساباته إن البطل الذي لا اسم له، لا يمكن أن يكون إلا "جابر خليفة جابر" أو "الدكتور رود ميرو".
قد يتخفى أو يتماهى أي منهما خلف سواه، أو خلف آخرين يشكلون "المواركة". إن الصلات الجنينية أمر واقع ـ لا مفر منه ـ فالروائي يتحدث عن تجربة تأسيس حضارة قد تعتمد في بعض تفاصيلها على الدين، وفي البعض الآخر على العرق، والبعض الأخير على وحدة الكائن البشري، حيث تكون الانسانية هي كل ما يدور وسط هذا المخيم أو ذاك.
*****
إن مفاتيح السرد التي يضعها الروائي بين يدي القارئ، لا تفتح مغلوقات بقدر ما تصنع أقفالا. هذه المفاتيح هي محاولة لصناعة آفاق كتابة متعددة، إنها غواية الكتابة.
قد لا تمتلك الكتابة الموجودة في ذهنية/ مخيال السارد حالة تحجيم لما يريد أن يقوله الآخر، بل حتى الشخصيات معرضة للحضور والغياب، معرضة للقول وللصمت.
الكتابة المختلفة هي وحدها القادرة على صناعة الوجود. ورغم وجود الأسماء إلا إنها لم تستطع أن ترتبط بالشخصيات، والقارئ لا يدري متى يتخلى المرء عن أسمائه، ومتى يلتصق بأحدها.
*****
على القارئ في هذا العمل السردي أن لا يكون غافلا عما يحدث أو مهملا لما يدور، بل عليه أن يكون فاعلا، أن يكون قائدا للقراءة، لا تابعا للكتابة. هكذا قارئ، وبهذه المواصفات قد يجد نفسه وفي لحظة ما محاصرا بين جمع من "المورسكيين" وسط مخيم من المخيمات الأربعين، بين مجموعة من الشباب التي تمتحن نفسها عبر الكتابة المختلفة.