ادب وفن

بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب(2) بعض الحقائق الغائبة أو المعلقة / جاسم المطير

من أولى مظاهر الإبداع الفني والفكري هو أن لا يساور الأديب خوفٌ ما من انهمار الكلمات وأساليبها بالإصغاء إلى الإبداع الذاتي عندما يكون الكلام ، دائما ، حقاً لكل فرد ، كما هو معروف منذ المجتمع الأثيني القديم: أن حق القول والتعبير هو أول فكرة أساسية في خلق الحرية وفي أخلاقياتها.

منذ بداية خمسينات القرن الماضي ظهر اتجاه معرفي ساد في الوسطين الشعري والسياسي، معاً، وقد تبلور ، بصورة جلية، من خلال مواقف الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب وانتقاله في التفكير والشعور من (الفكر الملتزم) إلى (الفكر المنعتق) ، ثم إعلانه محاولة التحرر من مصاعب الانتماء الحزبي والتزاماته القاسية بالنسبة لمن يحمل مشروعاً شعرياً كبيراً وأهمية خروجه إلى (الحرية) والتقرب من المقاييس السائدة في الثقافة الغربية بعيداً عن فرضيات معاكسة كانت متبعة في ثقافة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي آنذاك . كانت ثقافة بدر شاكر السياب بالدرجة الأساسية هي (ثقافة حسية ) ، ثقافة ذاتية هدفها الأول هو التغلب على مصاعب المحيط في بناء القصيدة العربية والتحرر من قسوة متطلباتها المعمارية القديمة بما يجعلها قادرة على إخراج ثقافة الإنسان من اطر حياة سياسية ، صعبة ومعقدة وعنيفة، كما بدا له ولكثير من الأدباء والمثقفين الآخرين، أن الشاعر – أي شاعر - لا يستطيع تجاوزها إذا ما زج به داخل السجون فأن قصائده ستغرق بالتيه والذبول وربما الموت.

بعد مظاهرات الوثبة 1948 – 1949 وبعد انتفاضة تشرين 1952 وبعد فشل الدكتور محمد مصدق رئيس وزراء إيران في تأميم النفط الإيراني وتحريره من قبضة الاحتكار البريطاني، بعد هذه الأحداث اكتأبت روح بدر شاكر السياب ، أكثر وأكثر. صار يعتقد أن حرية الشعر والشاعر ضرورة قصوى للتألق الملحمي في الشعر . صار يعتقد أن وجود أي شاعر داخل السجن معناه أن شعره سيكون ظلاماً أو أنه سيعاني الآلام الموجعة كما هو حال الشاعر التركي ناظم حكمت الذي اضطر ، بعد تحرره من السجن عام 1950 ، إلى الهجرة إلى موسكو السوفييتية . لم يكن يريد تكرار هذه التجربة معه من خلال وجوده (عضوا) في خلية من خلايا الحزب الشيوعي .. يريد مواصلة تجديد نشاطه الشعري لكنه لا يريد ان يهب حياته مخاطر الدخول إلى السجن كما حدث لكثير من الشعراء في العراق وإيران وأماكن أخرى الذين أدخلوا إلى السجون .

كانت الحياة العراقية في منتصف القرن العشرين تعمها الفوضى ويسودها القلق ،خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصيرورة الشارع العراقي ساحة للمظاهرات المطالبة بالحرية . كان هدف الشاعر السياب الأول: إما تطوير القصيدة العربية أو موتها إذا ما استمرت تقليدية من دون تجديد. وقد كانت منابع ثقافته الرئيسية قد جاءته ليس من الماركسية والمناهج الشيوعية التي لم يتعمق بقراءتها ، بل من قراءته باللغة الانكليزية لكتب الأدب الانكليزي ( ت.أس. اليوت وآخرين) والأدب الألماني (غوتة وآخرين) والأدب الأوربي (رامبو وبودلير) وغيرهما . عموما . تلك القراءات كلها صوّرت له أن التحرر من الفكر الحزبي الملتزم هو الخلاص من كل ما يعترض سبيل هذا التطور وفي مقدمتها التحرر من المبادئ الحزبية التنظيمية ،خاصة وانه كان يمر بـ(المرحلة الحسية) أي مرحلة (الشعور الفردي) الناهض من دون أن يتعلق لا بالمعارف الشيوعية ولا بالمعارف المنزلة المقدسة أي (المعرفة الدينية). لذلك حاول في تصميم مقالاته التي نشرها في جريدة الحرية البغدادية عام 1959 أن يتحسس شكلا من أشكال الانتصار النابع من بداية تجربة سياسية ذات مسافة محدودة، بصوتها وتنظيمها ، في علاقته مع الحزب الشيوعي العراقي وليس من وفرة معاناتها . يمكنني القول أن تلك الفترة القصيرة من حياته الحزبية أزهرت قصائد طويلة ، بقلب أكثر بساطة وببراعم ثورية أسدى فيها خدمة كبيرة للفنون الشعرية بالتحدث عن قضايا جماهيرية وإنسانية عميقة في دواوينه ( الأسلحة والأطفال، المومس العمياء، حفار القبور) .

أما مذكراته الحزبية – السياسية ، هي كما يعرف الجميع مقالات ذات صبغة عاطفية، غاضبة، سريعة،انتقامية ، ثأرية ،لا تحمل وضوح الفلاسفة والعلماء، بل أنها كتبت بأسلوب نثري ضعيف، كما أجمع الكثير من الذين قرؤوها - منهم شقيقه الأصغر مصطفى السياب - بما لا يعكس عظمة الشعرية لكاتبها. أطلق الشاعر بدر السياب العنان لقلمه في كتابة أقوال ومدعيات ساذجة لم تترك صدى لها إلا في صفحات الجرائد العراقية والعربية التي كان منها يصدر نحيب الرياح المعادية للشيوعية كجريدة (الحرية) لصاحبها قاسم حمودي و(الثورة) لصاحبها يونس الطائي و(الفجر الجديد) وغيرها من الصحف التي كانت تضمّ كتـّاباً اعدوا أنفسهم وأقلامهم لمواجهة نهوض الحركة الوطنية الديمقراطية في العراق بقيادة الحزب الشيوعي .

الشيء الوحيد الذي كانت تتضمنه تجديدات الشاعر العراقي بدر شاكر السياب أنه اوجد حراكا ثوريا في الشعر العربي كله محققا تلاقيا واستجابة لما كان عليه الشعر في العالم الغربي حيث كان الشاعر الألماني كلوبستوك (1724 –1803) أول شعراء أوربا ممن جاءوا بأسس (الشعر الأوربي الحر) المتمرد على النظام الشعري القديم، المتحرر من استخدام القوافي والأوزان التقليدية في بعض قصائده. وقد وجدتْ المقالات السيابية ضد الحزب الشيوعي عام 1959 نفسها - من دون قصد كاتبها - داخل شبكة لبنانية تتساقط كتاباتها مسحوبة بخيوط سريعة الجريان بمواقف وأفكار لا تـُرضي غير أعداء الشيوعية في العراق والعالم العربي . كان الرأي المتبلور قبل تلك الفترة لدى بد شاكر السياب أن تكون الحركة الشعرية قادرة على (تخليص الشعر من الحزبية، من السياسة) كما كتب إلى يوسف الخال في رسالته له ( رسالة بدر عام 1958) بينما كان بدر شاكر السياب قد كتب أعظم قصائده حين كان حزبيا مهتما بالقضايا السياسية والمظاهرات الجماهيرية والإضرابات العمالية كإضراب عمال الميناء كما جاء برأي الشاعر الشيوعي العراقي ألفريد سمعان. كذلك كان بدر نفسه قد أكد واقع ارتباط الأدب بالسياسة بقوله ( فالسياسة والأدب عندنا ممتزجان بشكل يتعذر معه الفصل بينهما) مثلما جاء في رسالة بدر إلى سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب اللبنانية في 19 حزيران 1954 .

من المعروف، أيضاً، أن بدر شاكر السياب قد كتب ذكرياته الحزبية - السياسية عام 1959 في ظروف و أوضاع سياسية ،خلافية، دولية، باشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين الدوليين ،الاشتراكي والرأسمالي، بعد الحرب العالمية الثانية ، كما في ظروف سياسية عراقية معقدة كانت مليئة بصراع بين جبهتين أساسيتين: جبهة القوى الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي وجبهة القوى القومية بقيادة حزب البعث والرئيس المصري جمال عبد الناصر ، وهو صراع ترك آثارا سلبية في نفوس جميع الوطنيين العراقيين .

لقد كان الكاتب والشاعر المصري عباس محمود العقاد (1889-1964) قد سبق السياب في التعامل السلبي مع الشيوعية و الحزب الشيوعي المصري في كتاباته المعنونة (مذهب ذوي العاهات) . يمكن القول هنا أن العقاد كان قد بدأ ذلك التعامل (فلسفياً) أول مرة عام 1924 بمقالة ضد (الفلسفة المادية) وختمها بكتاب عنوانه ( لا شيوعية ولا استعمار) (1957) وكان هذا الكتاب من إصدار مؤسسة بنيامين فرانكلين الأمريكية وهي نفس المؤسسة التي اجتذبت أقلاما عربية أدبية وسياسية لتجميعهم كعناصر ضد الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة بين المعسكرين العالميين .

كان بدر شاكر السياب من بين الأدباء العرب الذين اجتذبتهم سفينة المؤسسة المذكورة حيث المزيد والمزيد من الشعراء اللبنانيين كانوا يدفعونه نحوها في ظل ظروفه المعاشية القاسية التي لم تخلو من وحشة الفاقة والحاجة إلى المال. هذه (الوحشة) كانت عاملا أيضا من عوامل دبيب أقدامه لصعودها، مترجماً، كتابين أدبيين. استلم عن الأول 300 دينار وعن الثاني 400 دينار. كان بعض أصدقائه يريدون أن يكون رديفاً للعقاد. أرسل الكتاب الأول بواسطة جماعة مجلة (شعر) اللبنانية التي كانت متهمة بأنها مجلة تابعة إلى الحزب القومي الاجتماعي السوري وهو من الأحزاب اليمينية المتطرفة. كان صديقا السياب ادونيس، ويوسف الخال ، من أنصار هذا الحزب . ثم أرسل الكتاب الثاني بواسطة جبرا إبراهيم جبرا .

بعد قيام بدر بنشر ذكرياته عن الحزب االشيوعي العراقي في جريدة بغدادية صار الشاعر ادونيس يلح عليه بإرسال مذكراته ( كنت شيوعياً) إليه لنشرها بكتاب في بيروت ، ليكون – كما أظن - رديفا لآخرين من الشعراء والكتاب في سوريا ولبنان من الذين تمردوا على الشيوعية في بلادهم وكتبوا ضدها في وقت انضم فيه جهد الشاعر ادونيس إلى حملة معاداة الشيوعية وقيامه بترجمة كتاب ضد الاتحاد السوفييتي عنوانه : ( التعذيب في سيبريا). ربما كان هدف الضاغطين هو أن تكون مذكرات بدر شاكر السياب حربة من الحراب في مكافحة الشيوعية في منطقة الشرق الأوسط وإظهار أن بقاء أي شاعر في تنظيمات أي حزب شيوعي يجعله محروما من أشجار الفن الحقيقي ومن ظلال الحرية خاصة أن رواية ( ارض ثمارها من ذهب) الصادرة في أوائل الخمسينات لكاتبها البرازيلي جورج امادو كانت في الجوهر إشارة جريئة إلى الموضع الحقيقي الذي يستطيع فيه أن يكون الشاعر الشيوعي (حراً) وقد كان لها صدى واسعاً بين الشعراء والمثقفين عموماً وصار الشاعر الشيوعي العراقي مظفر النواب حراً بانتقاداته لسياسة حزبه عام 1964 من دون أن تتهجم عليه قيادة الحزب، وقد ظل موضع احترامها حتى اليوم . علماً أن أدونيس كان قد أخبر بدراً ، أنه يريد طبع ونشر المذكرات لـ(غاية مهمة) لم يذكرها له مما دعا بدر إلى الاستفسار عن هذه (الغاية المهمة) في رسالته الموجهة إلى ادونيس بتاريخ 18 – 12 – 1960 . مما ينبغي الإشارة إليه انه انكشفت بتصريح مسئول إعلامي - فني في هوليوود - نيسان 2014 - أن إخراج رواية (الدكتور زيفاجو) للكاتب السوفييتي لويس باسترناك كفلم سينمائي كان (إجراءاً) أمريكيا من (إجراءات) السياسة الرأسمالية العالمية في الحرب الباردة .

يتبع

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 10 – 4 – 2014