ادب وفن

حول الثقافة الأنصارية / داود أمين

الآن، وبعيداً عن الحماس العاطفي، وموقفنا الشخصي كأنصار، عشقنا الحركة الأنصارية، ومنحناها باقتناع ورضى، أجمل سنوات العمر وأغلى التضحيات، هل بإمكاننا أن نتحدث عن ملامح "أدب وفن أنصاري" ظهر خلال السنوات العشر، بين 1979_ 1989؟
للإجابة على هذا السؤال الصعب، أجد مناسباً التأكيد، على أن مفهوم الأدب، رغم سعته، يضيق عن وصف، النشاطات الثقافية الغزيرة والمتنوعة، التي ظهرت بين الأنصار! فالأدب "شعراً، قصة، رواية، خاطرة، نقداً، نصاً مفتوحاً" لا يؤطر نشاطات إبداعية أخرى، كالمعارض التشكيلية، ومعارض البوستر، والتصوير الفوتوغرافي، التي أقامها الفنانون الأنصار في قواعدهم، وفي قرى كردستان، التي لم تكن السلطة قادرة على وصولها. كما لا يمكن للأدب، أن يؤطر النشاط المسرحي، غير القليل، الذي رافق ميلاد الحركة، وشهد لحظة إحتضارها! ولن يؤطر أيضاً، مئات الندوات والمحاضرات بمواضيع مختلفة، والتي لم أشهد لها مثيلاً، سوى في قواعد الأنصار.
لذلك يمكن القول، أن الثقافة، أو قسمين منها على الأقل، وهما الأدب والفن، يمكن أن يصلحا إطاراً مناسباً للحديث عن النشاطات الثقافية، التي ظهرت في صفوف الأنصار، خلال السنوات العشر، من عمر الحركة.
من الضروري، إبتداءاً، تحديد: ماذا نعني بمفهوم "الثقافة الأنصارية"؟، إنها في رأيي، النتاج الثقافي الذي يقدمه المقاتلون الأنصار، ويتناول مشكلاتهم وهمومهم الأنصارية، لذلك لا أستطيع إعتبار المواضيع، التي يكتبها الأنصار، عن الحرب في جبهة بعيدة، كالبصرة مثلاً، أو عن ظروف مناضل العمل السري في بغداد، أو لوحة رسمها نصير فنان، لسجين يعذبه الفاشيون، وما شابه ذلك، ضمن ما سنتفق على تسميته بـ "الثقافة الأنصارية"، وقد تكون هذه النتاجات رائعة، وجيدة فنياً، كما لا أستطيع إعتبار، ما يُكتب أو يُرسم أو يُمثَل عن الأنصار، من خارج صفوفهم، ضمن إطار المصطلح السابق نفسه، لإفتقار ذلك النتاج للصدق ولحرارة والم المعايشة المباشرة!َ مهما جهُد مبدعوه، في محاولة تمثّل التجربة ومحاكاتها، لأن الأنصار عاشوا مناخاً خاصاً، لا يمكن تقليده بسهولة، فالبغل مثلاً، مفردة إعتيادية لحيوان مالوف، في ذهن من لم يعش في كردستان، ولكن البغل، شيء آخر تماماً لدى الأنصار، شيء بالغ الدلالة لرفيق عاش معنا، طوال سنوات التجربة الصعبة، حتى غدا واحداً منا، له إسمه وتأريخه، وتفاصيل مسهبة عن "مساهماته!". وما ينطبق على البغل، ينسحب على كل جزئيات أسرار حياتنا الأنصارية الخاصة، وقد لا أجانب الحقيقة إذا قلت، إن لنا، كأنصار، مزاجنا الخاص، الذي نتوحد ضمن إطاره، بالرغم من إختلافاتنا الواسعة كأفراد! إذن لنتفق إن الثقافة الأنصارية، هي ما يبدعه المقاتلون الأنصار أنفسهم، عن حياتهم الأنصارية الخاصة.
والآن لنحاول إكتشاف، هل هناك ملامح لثقافة أنصارية متميزة؟ وأين موقع هذه الثقافة، إن وجدت، ضمن مسار الثقافة العراقية عموماً، أو الثقافة المعارِضة، حينذاك.
بعيداً عن الحماس الذي يُذكيه الحب العميق للتجربة الأنصارية، يمكن القول إن أدباً أو فناً أنصارياً متميزاً لم يظهر طوال عمر الحركة، وكل ما ظهر لم يكن سوى نتاج أدبي أو فني مبعثر، يمتلك في مضمونه الحرارة والصدق وجرأة الإقتحام، لكنه في مجموعه، لا يؤشر لتميز أدب أو فن أنصاري! فالقصائد التي ظهرت بين صفوف الأنصار، ولا أقول الدواوين، لا تُشكل إتجاهاً شعرياً متميزاً، حتى لو غلبت الجودة على بعضها، إذ أن بضع قصائد لا تخلق تياراً، خصوصاً إذا كانت من إبداع شعراء شباب، غير مؤثرين أصلاً في الحركة الشعرية العراقية، لذلك فهم بقصائدهم القليلة هذه، غير قادرين على تأسيس مشروع شعري مُميز السمات. ونفس ما يقال عن الشعر، يمكن أن يقال عن القصة القصيرة، رغم إن كتّاب القصة كانوا أكثر عدداً، وأفضل تعبيراً وقرباً، من الذين كتبوا الشعر، وفي ذهني الآن، تفاصيل قصص أنصارية جميلة، لمنذر أبو الجبن، ويوسف أبو الفوز، وأبو فاتن، وأبو سعد إعلام، وأبو الطيب، والشهداء أبو رزكار، وملازم حسان، وأبو ظفر، أما الرواية فلم تظهر إلا بعد سنوات طويلة، وهي قليلة ومقتصرة على بضعة أسماء. ونفس الشيء بالنسبة للنقد الأدبي، الذي يرافق عادة ظهور الأدب، ويمارس فعله التقييمي من خلاله، فإذا كان ألأدب غائباً، وأعني بالغياب هنا، عدم تبلوره كتيار فاعل ومؤثر، فكيف يظهر النقد؟
غير ما ذكرت من أشكال أدبية، ظهرت مئات المقالات والخواطر الأدبية، التي توزعت على نشرات الحائط، والمجلات الدفترية، ودفاتر المذكرات الخاصة، ثم ضاع أغلبها.
ما جرت الإشارة إليه من أشكال أدبية ينسحب على المسرح، فالنصوص المسرحية الأنصارية، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بالرغم من أن أعمالاً مسرحية غير قليلة قدمت في مختلف قواطع الأنصار، لكن ما هو أنصاري بينها نادر تماماً، ولا أتذكر سوى مسرحيتين يمكن أن تنطبق عليهما صفة "مسرح أنصاري" هما "مذكرات نصير" و "الحارس" وقد كتبهما منذر أبو الجبن، وأخرجهما سلام الصكر، وما قُدم عدا هاتين المسرحيتين، كان نصوصاً عربية أو عالمية.
الفن التشكيلي كان أكثر تعبيراً عن التجربة، وأكثر صدقاً وإلتصاقاً بها من سابقيه، وربما يعود السبب، لوجود عدد غير قليل من المبدعين الأنصار التشكيليين، أو لكثرة المناسبات الحزبية والوطنية والأممية التي كانت تتطلب نشاطات فنية تحتل المعارض التشكيلية جانباً مهماً منها، وقد برز في هذا المجال، الشهداء معتصم عبد الكريم وأبو آيار ومؤيد، إلى جانب عدد غير قليل من الأنصار الأحياء.
والآن لنحاول تلمس الأسباب الرئيسية التي لم تبلور تياراً أدبياً أو فنياً أنصارياً متميزاً طوال عقد، من سني الحركة الأنصارية.
أولاً : عدم مساهمة معظم المبدعين الشيوعيين والديمقراطيين، ولأسباب مختلفة، في حركة الأنصار، وتفضيلهم العيش في عواصم ومدن الغربة، مما حرم التجربة الأنصارية، من إسهامات هؤلاء المبدعين، وحرمهم هم أيضاً، من معايشة تجربة عميقة الغِنى والدلالة.
ثانياً: الموقف الخاطئ للعديد من الهيئات الحزبية، ومكاتب الوحدات الأنصارية، من المبدع والمثقف النصير، حتى وصل الأمر بالبعض، للإستخفاف بنتاجه، وإتهامه بالميوعة، والتهرب من العمل الأنصاري.
ثالثاً: إنشغال المبدعين الأنصار، بالعمل الأنصاري اليومي، وما يتطلبه هذا العمل، من جهد عضلي فائق، بحيث تتضاءل فرص القراءة والكتابة والإبداع.
رابعاً: غياب المركز الذي يوحد ويوجه النتاجات الإبداعية الأنصارية، فرغم أن الحديث عن تأسيس فرع لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين، بدأ منذ عام 1981، إلا أنها لم تولد إلا عام 1984، ولم يصدر من مجلتها الدورية "ثقافة الأنصار" سوى ثلاثة أعداد!.
خامساً: عدم تسليط الضوء في الخارج على نتاج المبدعين الأنصار، لضعف الصلة بين الحركة الأنصارية وإعلام الخارج وربما لعب الموقف الفكري لبعض مسؤولي إعلام الخارج، المعارضين لحركة الأنصار عموماً، دوراً في عدم التحمس، لنشر نتاجات الأنصار.
سادساً : ضياع معظم النتاج الإبداعي للأنصار بسبب ظروف الحركة نفسها، والمتسمة بعدم الإستقرار في موقع واحد، وتعرض مواقعها للقصف والحرق والإجتياح من قبل السلطة ومرتزقتها.
سابعاً: عزلة الحركة الأنصارية عن تطور الحركة الثقافية في الداخل والخارج، إذ كان الراديو، في معظم الأحيان هو النافذة الوحيدة، التي يُطل منها النصير المثقف على العالم الخارجي، في وقت إنعدمت أو كادت، صلته بالمجلات والصحف والكتب الثقافية الجديدة، بالإضافة طبعاً، لغياب السينما والتلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى.
ملاحظة: من الضروري الإشارة، إلى أن مساهمتي هذه، تقتصر على ما ظهر من نتاج أدبي أو فني باللغة العربية، وفي قواعد حزبنا الشيوعي العراقي فقط إذ ليس لدي معلومات كافية لما ظهر باللغة الكردية لأنصار حزبنا وأنصار الأحزاب القومية الكردية، كما إني أهملت الحديث عن "الصحافة الأنصارية" إذ أن موضوعها، يحتاج لحديث يطول، ولا مجال هنا لإيراده.