ادب وفن

ناتالي ساروت / عدنان محسن

في مقال نشرته "المجلة الأدبية" يعتبر الشاعر الفرنسي ألن بوسكيه (1919-1998) أنّ الكتاب نوعان: أصحاب الكتابة وأصحاب القضايا، وبعض أصحاب القضايا مثل أصحاب السوابق، ينتهي مفعول كتاباتهم حالما ينتهي مفعول قضاياهم.
ويرى بوسكيه أنّ ناتالي ساروت (1900-1999) ممثلة بامتياز للطراز الأول من الكتّاب، وأعني أصحاب الكتابة. فسرعان ما ختمت ببصماتها الأدب الفرنسي في القرن العشرين، منذ أنّ أصدرت كتابها " مدارات " وهي في السابعة والثلاثين من عمرها.وأنّ أصلها الروسي حال دون أن تقترب، في بداية شبابها، من هذا الأدب الذي كان موزّعا في تيارات ومدارس واتجاهات فكرية وأيديولوجية في أغلب الأحيان متناحرة وفي حالة من الصراع السياسي، لم يُمكّن من مثلها أن يكون طرفا لا في الصراع ولا في ذلك التناحر. آنذاك كان أندريه مالرو منشغلا بالشرط الإنساني وأندريه جيد في هموم خارجة عن الأدب. علينا أن لا ننسى، يقول، إستغراقات مينيتران في علم النفس التقليدي ورفض بيرناتوس المفرط لأي اعتدال. في ذلك الوقت كان سيلين يتقيأ عصره، أما جان بول سارتر فكان منذ ذلك التاريخ يغسل يديه من الصنف البشري برمته.أمام هذا المشهد، لم يكن لها أن تنسى نداءات دوستيوفسكي المجلجلة ولا نبرات تشيخوف الخفيضة، وكيف لمثلها نسيان فرانز كافكا الذي سيعتلي عرش الحساسية الكونية.
وإذ كان لابدّ من المقارنة، يرى بوسكيه أنّ كتابات فرجينيا وولف، دون أن يعطي دليلا مقنعا، نموذج الحالات ذهنية تجد مصادرها عند فرويد والفرويدية، بينما وجدت ناتالي ساروت في الكتابة نفسها ضالتها، فهي تستقي ما تريد وما لا تريد من الكتابة ومن أجلها.
وفي الوقت الذي انبرى فيه عدد غفير من الكتّاب إلى تكريس الفهم باعتباره الشرط الأول للكتابة، اختارت هي الطريق الأصعب: انفصال الكتابة عن أنماطها.
أنّ أحدا لم يكترث بكتابها الأول، في بادئ الأمر، إذ كان من العسير رصفه في خانات معروفة وفق تصنيف سائد، ويعرفه الجميع. وإذا كان لابدّ من التصنيف فيمكن إعادة اختراع تصنيفات جديدة ووضعه في خانة النص المفتوح: ثمّة أناس يجيئون ويذهبون، وهناك حركات ترتسم وهياكل تظهر، دون أن نعرف من أين يأتي كلّ هذا، والكاتبة لا تضع أي عائق لولوج هذا العالم، لكنّها في الوقت نفسه، لا تساعد أحدا على القبض على ما هو خفي فيه. بالنسبة لبوسكيه، نصوص ساروت نثرية في المقام الأول تعتمد التأويل وسيلة للفهم، كما أنها في الوقت نفسه شعرية تسلط الضوء على شخوص تظهر تارة وطورا تختفي،وعلى القارئ أن يجتاز النص بفهمه، وإذا شئنا الدقة، يمكن القول إنّ العكس وارد أيضا، إذ يحدث أن يجتاز النص قارئه.على القارئ أن يستكشف الخفي وغير المكتوب. ومن حقّه أن يعفي نفسه من واجب قديم هو الفهم, بفضل جيمس جويس، يقول بوسكيه، لم يعد الفهم عن طريق الإدراك ضروريا. وراء هذا المبدأ حقيقة تشترط عدم استبدال الإدراك بالحلم، في زمن كانت الكتابات السريالية تعلّي من شأن الحلم وتقدّمه. كتابات ناتالي ساروت ليست باطنية في المعنى الصوفي، لأنّها تعرف تمام المعرفة ما يمكن قوله كما أنّها تعرف أيضا، وخصوصا، ما لا ينبغي قوله. وكان عليها أن تنتظر فترة ما بين الحرب العالمية الثانية لتصدر كتابها الثاني "صورة مجهول"، ويمكن اعتبار هذا الكتاب وفق معايير اليوم رواية كان بوسع كتّاب مثل ستندال أو بلزاك تصورها،كما يمكن أن نطلق عليه رواية مضادة أيضا.
فالكتاب ليس سوى نثر قصصي منشغل بطرح الأسئلة دون أن يكلّف نفسه عناء صياغة إجابات لها.وإذا توفرت فرصة الإجابة فأنّ الكتاب يفعل ولكنه يجيب عن أسئلة غير مطروحة.وغالبا ما تقود هذه الإجابات المبتكرة إلى إثارة أسئلة لا يتوقعها أحد.وذهب جان بول سارتر الذي كتب مقدّمة الكتاب إلى القول "ناتالي ساروت لا تريد إن تضع شخوصها لا في خارج النص ولا في داخله، ذلك أنّنا جميعا،إزاء أنفسنا وإزاء الآخرين في الداخل وفي الخارج معا".
هذا تصور جديد في القص. فهو يقترح على الكاتب أن لا يتدخل في رسم مصائر وسلوك مخلوقاته.وعليه أن يكون دليلهم وحسب وليس له أن يرافقهم. وعلى القارئ أن يشترك في خلق ما كان قد سبق النص ولم يُكتب وعليه أن يستشرف ما سيأتي بعد النص ولم يُذكر.وهذه مهمة ليست في غاية الصعوبة لمن يُحسن القراءة، لأنّ الكاتبة لم تخف الجوهري على القارئ ولكنّها لا تريد أن تُثقل عليه بحضورها.لقد أكل الدهر وشرب، يقول بوسكيه، على طريقة الفهم عند أناتول فرانس وأندريه جيد. والفهم عند ساروت هو أن تفهم شيئا وليس بالضرورة أن تفهم كلّ شيء. وكانت ساروت كتبت قبل صدور "صورة مجهول" عام1984 وبعد صدوره محاولات جمعتها في كتاب أحدث عنوانه "عصر الشك" ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية الفرنسية. ويبقى الكتاب حسب بوسكيه ضمن السياق الساروتي، لكنه استرعى الانتباه أكثر من كتبها السابقة، لأنّه ألقى الضوء على طريقة ساروت في التفكير وعلى وجه الخصوص على نظريتها في الكتابة، إذ كتبت مقدمة لكتابها تقول فيها:"كلّ ما قيل عن الرواية الحديثة وعن روادها جعل الناس يعتقدان هؤلاء ليسوا سوى حفنة من الخبراء وضعوا نظرياتهم في المختبرات وراحوا ينقلون على الورق نتائج فحوصاتهم المختبرية". وبعد أن أشارت إلى سطحية هذه الآراء، انبرت لتدافع عن مفاهيمها في الكتابة، يوجزها بوسكيه على النحو التالي:
ليس على الكاتب أن يتهيأ للكتابة وفق تفكير مسبق.
ليس على القارئ أن يفهم كلّ شيء.
ليس على الناقد أنّ ينقّب في النص عمّا يؤكد اتجاهه النقدي، وليس له أن يغسل النص في حمام عقلانيته.
ويرى بوسكيه أنّ وجود ساروت في صفوف الحركة الجديدة كان عابرا، فموهبة كهذه لا تتطامن في اتجاه ما، حتى لو كان جديدا.هي ترى إلى حقيقة النص، وحقيقته موجودة بين الأسطر ومن خلال تفاعل عدد من الحقائق المتناقضة والمتباعدة يتقدّم النص.كي تكون عملية الخلق كاملة عليّك أن تتردد، تقول ساروت، من أجل الخلق لابدّ من معرفة جدوى التردد، هذا هو مبدأ ساروت في الخلق.