ادب وفن

جلسة تأبين للراحل "عبد الستار العاني"

طريق الشعب- خاص

ضمن برنامجه نصف الشهري أقام ملتقى جيكور الثقافي في البصرة جلسة تأبينية للشاعر والقاص عبد الستار العاني في 27 نيسان في قاعة الشهيد هندال/ مقر اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي.. شارك في الجلسة التي قدمها الشاعر والإعلامي عبد السادة البصري: عدد من الأدباء من بينهم: صبيح عمر، جبار الوائلي، مقداد مسعود، عبد الباقي عبود، محمد المادح، رائد السعد، عدنان شجر.
اشتملت المشاركات على استذكارات، ونصوص شعرية وسردية، حضر الجلسة عدد كبير من مثقفي البصرة منهم الرفيق على مهدي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والرفيق جمعة الزيني عضو مجلس المحافظة والرفيق عباس الجوراني مرشح الحزب للبرلمان وعضوات في رابطة المرأة العراقية.
وهذه نبذة من المشاركات التي تضمنتها جلسة التأبين:
عبد الستار العاني: طيرٌ من وردٍ ودمع
مقداد مسعود
الزائر الأخير لايهب من يقتادهم قامات ٍ أضافية ً، وما سأقولهُ لادخل له بتحسين الذكرى، سأقفُ صامتا أولا أمام غياب الإنسان الجميل الأنيق الشاعر والقاص عبد الستار العاني،ولن أسأل 2014 عما استلبتهُ من بصرة الخير،فقد كانت هذه السنة صلفة ونهمة بشكل بشع جدا.. الشاعر والقاص عبد الستار العاني اغترف من الكتابة مايوائم أناقتهُ ورقتهُ، وكأنه يشكل منمنماتٍ من كلماتٍ يريدها سهلة وفي متناول الجميع. حضر بيننا وفينا بأناقته ورقته وبصوته المبحوح قليلا ولثغة الطفل التي صانها بلسانٍ مبين تساءلتُ يومها من اين لهذا الرجل الجميل الرقيق الانيق من اين له قدرة الوخز كالدبابيس؟.
أتوقف عند القاص العاني، في مجموعته "الأغتيال" فهو أكثر عمقا من شاعر الدبابيس وسأقتفي العاني قصصيا.. فهو يعي جيدا " أن ظلام العالم يتوارى أمام نقطة ضوء"... والعاني/ البصري عبد الستار.. "لديه القدرة على الاقناع من خلال عينيه وتقاطيع وجهه/ 26 العشاء الاخير".. في السنوات الأخيرة، رأيتُ عكازا أراد ان يكون جميلاُ فتوكأ على ما تبقى للعاني البصري من جمال ٍلا يأفل وتطيرتُ فقد أصبح العكازُ لغة ً أخيرة، في أيديّ أحبتي أدباء بصرة المعتزلة وصاحب الزنج، فتساءل بعيدا عن ماركيز، أليست هذه العصا، بمثابة فعل استباقي لمقدم ذلك الزائر بسنارتهِ وشباك صيده ِ، كما وصفه العابر الاستثنائي استاذنا محمودنا عبد الوهاب؟! وفيما يرى النائم رأيتُ مدير مصرف بيت كبة.. "كعادته كل يوم وهو يرقب المراجعين من خلال واجهة مكتبه الزجاجية/ للسنابل أشواك" ثم رأيته "ينظر في ساعته كلما دلف مراجع" ثم سمعته يحدث روحه اللائبة "وقت الناس ثمين"..
في هذا المكتب سأزوره في سنوات الحصار، في ذلك القيظ اللاهاب من آب ،أنعشتني نسمات المكيّف.. فجأة وأنا ارتشف الشاي في مكتبه، تلوى عود بخور متصاعد..ورأيت الشاعر العاني وقد وخزته دبابيس غير شعرية وهاهي "غرفته ضاقت به، يحاصره كل شيء، حتى الكرسي الذي اعتاد الجلوس عليه،أطبق مسنديه، مساحة المقعد ضاقت تحته، شباك أختلطت خيوطها، حصار مقيت يطبق عليه من كل صوب ،خوف وحذر وترقب شاي أبوحسن" وبقوةٍ من رهف الشاعر الذي في الإنسان، هاهو عبد الستار العاني.. "مثل طائر شده الحنين الى حريته، هكذا راح يدور بين جدران زنزانته الباردة وهي تعلو أمام عينيه، لاشيء يمنحه الإحساس بالوجود غير تلك الكوة الصغير".. ها هو العاني يتجول وعكازه، يدخل مقهى اتحاد أدباء البصرة، ذات صباح ندي، يترجل من سيارة تكسي، مرتديا دشداشة بيضاء متوكأ عصاه، نتبادل القبلات قرب كشك ناصر، فأعرف منه انه جاء من بيته في الجمعيات ، للحصول على نسختين من الجريدة التي نشرت له قصيدة عن استاذنا الذي لن يرحل محمودنا عبد الوهاب..
أتأمل وجهه الذي تفرح منه بياضات وحشة الوحدة..تلك الوحشة التي تطوحه على مدار الساعة، فأعود الى قراءة قصة "يباب"... "حين ضاقت به الغرفة، جدرانها تحركت لتطبق عليه، وإن مساحتها لم تعد تحتويه، إنتفض وهو يرتدي ملابسه،هبط مسرعا، قدماه تلطمان درجات السلم بإيقاع منتظم وسريع".. في الشارع مع المارة من خلال وحدته.. هل كان له شعور محمود عبدالوهاب "أشعر أننا نجتمع وحيدين "
ها هو العاني يلفت انتباه المارة صائحا.. "يا جماعة.. لا تخافوا.. فقد مرت خيول كثيرة من هنا، لكنها اختفت بصهيلها..والغزاة تساقطوا من ظهور جيادهم مثل ثمار".
ما يزال الزائر الأخير يتعقب خطوك ايها العاني البصري،وأنت متشبث بزرقة قميصك الاجمل متشبث بفضة رأسك..متشبث بذلك المذاق الساحر، المذاق الذي يزيل تجاعيد الصباح والضحى والظهيرة والمساء والليل وآخر الليل..ويجعلك طريا كحبة عنب..طريا كيوم جديد..
كأنك ذلك الصبي معلمك القصصي، الصبي المنغرس في قصتك "زبد البحر".. "صبي في عمر زهرة.. نظراته تنم عن تحد كبير..قامته استطالت وهي تمتد الى الأعلى شجرة سامقة".
بفعل حضور هذا الصبي الاسطوري.. "الزوارق تزهو مبتسمة حين ترى ظلال انوفها مرسومة على صفحة الماء، أسراب الطيور عادت تحلق من جديد، نسيم عذب شفيف يداعب أزهارا ذابلة ويوقظها من غفوتها".. للصبي حضوره الايقاظي على الاشياء.. لكن هل للصبي من سطوةٍ على الزائر الغريب وهو يتعقب عبد الستار العاني؟ "حين أرخى نظراته وهو يرنو الى البعيد، ثمة حوار ظل ينساب وحين أشتدت نبرته تصدع فجأة، أحس بقشعريرة سرت في أوصاله، وبقلق واضح... زهور القار البيضاء".
مرثية الندى
عبد الباقي عبود التميمي
عبد الستار العاني
على ضفة ٍ من ضفاف ِ الجنوب
رسمتُ خيالك َ في مقلتي
جميلا رقيقا ً لطيفا
يناغي (البلابل ) في شرفتي
لقيتُك حيث الندى وحيث ُ النسيم
يطش ُ العطور َ على راحتي
أبي...
أيا شيخا ً..يافتيا ً بشوشاًْ
بهيَ الملاقاة والطلعة ِ
منحت َ الجميع َ شبابية َ الاصدقاء
واني لأخجل ُ ان اذكر فيك من شيبتي
قرأتك حيث ُ الجمال
وحيث السطورُ تمّد القناديل في صفحتي
عليك َ السلام ُ ..عليك السلام ُ
وأنت َ تغادر هذا المكان
وكل الاماكن لًما تزل ْ
بُعيَد رحيلك في عزلة ِ
بعيد رحيلك في عزلة ِ
أخي وصديقي الشاعر والقاص عبد الستار العاني
جبار الوائلي
أخوتي الافاضل في ملتقى جيكور الشعري
كان صديقنا الراحل شاعرا وقاصا..ومن زخم هذا العطاء كان يحرك أدواته..بألتقاطات ، عمقّت رهافة حسّه الشفيف، فأنطبع في قلوبنا.. نبضٌ
لا يزول ولآلىء سطعت من ثنيات غورها العميق منسابة بين طيات جحافل الألم، فتعالى الى سيلها البليغ،ليتوج هاماتنا باحتضان حميم باسطة مفرداتها بعناق جمال بلاغة الحروف من ثنيات فكرها البهيج..لتوقظ سكوننا برهافة حسها العميق..كي تترجم ارتعاشات دقات القلوب مصحوبة بندائها الخفي..
أصدقائي الاعزاء : هكذا كانت مفارقاته اللذيذة، التي طالما أدهشتنا مرارا
فأضطررت ذات يوم أسأله : يا صديقي لا تسرف في كتابة الشعر، فالشعر ولادة ٌ حينما تطلق صرخة المخاض..
فأجابني الشاعر الراحل عبد الستار العاني : بإمعان وتريث وهدوء والإبتسامة تشرق من بين وجنتيه: الشعر يا صديقي يتفجر في داخلي بانغماس وحراكٍ لهواجس الأعماق ، فكيف لي ان أطرد ضيفا عزيزا ودودا يطرق أبواب القلوب؟
يومها عرفتُ لماذا انطبعت قصائده وشماً ترصعت بها النجوم كلآلىء ساطعات ٍ من ثنيات القلوب، يؤطرها الدمع بحزنها البليغ وتتوج هاماتنا بسطوع لايزول وتوقظ زمن َ السبات المرير..هكذا تعانقنا قصائده بأرتعاشات ٍ مصحوبة ٍ بنداء خفي تلج أعماقنا دون ان تطرق بابا للولوج يصاحبها ايقاع شجي ندي شفيف...رحمك الله..يا أبامهند.. وأبقاك نبراسا في دروب الاوفياء..
قدر المغني
صبيح عمر
قبل أيام غادرنا الشاعر والقاص الفقيد عبد الستار العاني، ليتركنا في فجيعة أخرى لأهل الابداع والفن من الذين غادرونا مؤخرا، في الوسط الثقافي والإبداعي.. ترى مالذي حَدَث َ في الروح؟ وما الذي غيّب ذلك الصوت، الذي كان يغني بشجن، على مابيننا من شجن خفي.. "وعلينا كان نشربه حتى الزجاج كأسنا المر...".
لقد كان عبد الستار العاني ممتلئا بالحب.. رغم مزاجية الشعر والواقع المر،لأنه كان يشرب الحلم بكل شقائه... لقد خفت ذلك الصوت، مع حبه الأرقى لأرقى النغمات التي لم تخلُ منها جلساته الخاصة، بين الأخوة والأحبة، كيف استحال الخبر الى شيء، مضى؟ كيف ندرك ُ حقيقته، عندما تعني الموت أو نغض عن غبارها..؟ هكذا كان خبر الموت،لعبد الستار العاني، كيف يموت الشعراء، وأهل الفن بإحساسهم المرهف، عندما تشتعل أسماؤهم... مازلنا في عتمة الخبر، نبحث بين أوراقنا عن رائحتهم وعن تدويرة وجوههم، ثم نعود مثلما كنا...
أريد ان أقول: حين مالت عيناك نحو الانطفاء، ملنا نحو الفجيعة، حين كنا خارج موعدنا، قبل أن نصل اليك...
عبد الستار العاني، كان صوتاً دافئا ً، بخمرته وجمرة أعصابه، وحبه للحياة، إلا ان المنية قادته الى الرحيل، كنا ننتظر ان تظل بيننا، نحن الذين مازلنا نقبض على جمرة هذا الوطن بنواجذنا، رغم اشتعاله وكنت معنا، لو أنك قلت لنا بأنك سوف ترحل في شقائك بغتة..كنا وصلنا قبل موعدنا إليك.. كي تفاجئك القصائد في النخيل.. هذا المغني والغناء من النخيل الى النخيل..لقد ذهبت ولم تذهب..
لقد رحلت ولم تمت... مازلت بيننا، بحبك للحياة، لكنه قدر المغني يسبقنا.. إليك.
كان نسمة في زمن إحتراقي
عدنان شجر
كان لي صديقا في زمن وحدتي كان لي نسمة في زمن أحتراقي، وجهه الودود وهو يبتسم لي ينقلني من حالة يأس الى فرحٍ يضيء روحي.. كيف غاب؟ ها أنا أحتاج من يعزيني..كيف توقف القلب الكسير؟، كيف إنطفأت العين التي تذرف عشقا كلما ذكرنا اسم العراق؟. كيف غاب وهو مايزال ذلك المعطاء في ومضاته الشعرية؟ التي ما انفكت تصفع الزمن الرديء بمنديل اعتذار..هاهو يرحل وراء ذلك الافق تاركا في قلبي فراغا يشبه الفراغ الذي تركه ابي في رحيله دون وداع.
ها هو قلبي قد انسدت أكبر شراينه..
قرير العين بين احضانه
رائد السعد
رغم الحزن الذي ملأ الاجواء
لكن شذاك طغى
واستحضرت ُ قصائد قيلت ْ في العشاق
لكن شعراً في الاعماق بقي..
نعم أيها الكبير مازال عبق كلماتك يدوي في عالم الشعر والإحساس وحبك للعراق ،أيها القلب الكبير، لقد رحل جسدك لكن روحك تطوف بين روابي العراق الذي طالما عشقته..
الكل يعرف عبد الستار الإنسان ذي المشاعر الرقيقة والأحاسيس الشفيفة
بيد ان إنسانيته كانت مدافة بألم..
يداه سعفات نخيل
داعبتهما النسمات
عكازه أتعب الزمن
صرير رياح
ورقة تهوي
برقتها....
يتمتم...
كم تمنيتُ ان أكتب آخر قصيدة..
تلك كانت آخر أمنياته حينما كنت ُ بجانبه وهو على فراش المرض
هاهو العراق يحتضنك بين ثراه الذي طالما عشقت عبقه
نم...
قرير العين بين احضانه..
استذكار
محمد المادح
لم تكن معرفتي بالراحل عبد الستار العاني قديمة، بل كانت مع عودة نشاط اتحاد الادباء بعد سقوط الطاغية، كنا نتبادل التحايا فقط ثم تطور الامر الى جلسات عابرة بعدها تعمقت اللقاءات، فوجدت لديه القدرة على الاقناع من خلال عينيه وتقاطيع وجهه وذلك ما كان يشدني اليه.تعرفتُ على بعض أصدقائه حين كان يضيفهم..كنت أرنو اليه وهو يحادثهم باجلال وأحترام كبيرين بصوته الهادىء وإيماءاته الناعمة مثل رفيف فراشة،ومن خلال أحاسيسه ومشاعره ،تستيقظ أحلامه..يتألق الطموح في وجدانه حين ينفعل بإصرار كي يظل قلبه وعاءً وروحه زيتاً وحين تتعمق صداقتك معه تصاب بحيرةٍ، فهو رقيق بتعامله، يشدك بأسلوبه حين يحدثك وكأنك تسمع تغاريد طيور حينا وحينا رفيف فراشات..إلاّ أنه سرعان مايثور غاضبا لأبسط الأسباب ..كانت مناقشة أو مجادلة أدبية !! بعدها يشعر بندم ويلوم نفسه
ولا يتواني عن الاعتذار وبدموع غزيرة...
في تأبين الراحل عبد الستار العاني
عبد السادة البصري
"هام لم يدر متى أطفأه الشوق
وأين احترقا
سنة مابين كأسين غفا ،ثم صحا
واغتبقا
سقطت زهرة لوز عفةً في كأسه
أجمرت عيناه شوقا
وتلظى شبقا"..
هذه القصيدة النوابية، كان صديقنا وزميلنا الشاعر والقاص عبد الستار العاني، يحفظها عن ظهر قلب ويقرأها في كل جلسة ٍ بطريقته الخاصة التي يبكي معها..
تعرفت ُ على العاني آواخر التسعينيات من القرن الماضي،حيث عرفني عليه صديقي الشاعر عمار علي كاصد، وكان يومها العاني يعمل مديرا لمصرف البصرة الأهلي في شارع الكويت بالعشار، كنا نزوره أنا وعمار ،كل يوم وبين يوم ويوم ونجلس معه، نقرأ لبعض ونتحاور ونتناقش في كل الامور، تعرفتُ في مكتبه على القاص ودود حميد والقاص عبد الحسين العامر..بالنسبة للراحل العاني أصدر عام 2000 مجموعته الشعرية الوحيدة "دبابيس".. حملها قصائده التي تقترب كثيرا من الرومانسية وعلى طريقة التفعيلة، وكنت الوسيط بينه وبين اتحاد ادباء البصرة وأخص بالذكر صديقنا الشاعر حسين عبد اللطيف الذي كان وقتها رئيسا للاتحاد فسعيتُ لحصوله على هوية الاتحاد وذات يوم جئته بها.. كما أصدر عام 2010 مجموعة قصصية تحت عنوان "الاغتيال".. وكانت قصصه أفضل وأنضج من شعره..فالقاص أفضل منه شاعر.. أنتخب عضوا في الهيأة الادارية السابقة وأنسحب بعد سنة لظروفه الصحية.. الراحل كان شفافا وطيبا وخلوقا وتنزل دموعه لأدنى شيء حتى ساعة قراءته الشعر...