ادب وفن

وريد الوردة .. حميد المختار / د . موسى الخافور

تحيلني الذكرى، مع حروف اسمه، صوب خصوصية تعتليها أكوام من تلال الورد. في قلب مدينة، تسايرها زهور عربات الياسمين مثقلة بالدواوين، والتوراة، والقرآن وأغصان من الصفصاف الباكي.
ومع الدفلة نعود صغاراً معبئين بعطر الأشواق مخبأة في ثنايا أذهاننا من حديقة وحيدة كانت تتمتع بها تلك المدينة.
استذكار حميد (كتابة) لا يحتاج إلى استحضار- ضرورات خصوصية - لان هذا الحميد لا يزال ينزف ثقافة وينزف معرفة.
فما بين الإبداع في سياقاته المرورية، وما بين النص الشعري كحالة شعرية، عاش حميد وهو يفيض حضوراً أدبياً واجتماعياً بين أقرانه ومحبيه، متفوصلاً بين الحالات، وهو ينشدنا قافية هنا ويسرد قصة هناك.
ولكن معي ظل المختار محكوماً بحالته الشعرية!، فمن بيئته البسيطة جداً والمكتنزة بأثر الأمكنة والأزقة، وغبار الحكايات، والنصوص، والعشق، فتح طريق المعرفة "نوافذ" يطل بها مع الأسماء المحيطة به "مناخاً" والتي استطاعت بفعل حضورها الإبداعي ومنجزها الفني أن تعتلي بشموخ ناصية الثقافة العراقية.
تأثر "الشاعر" مثلما كانت تربطنا روافد معرفة نتبادل فيها الكتب، والمسرح وأفلام الاوسكار والترشيح ونوبل وأسماء مخرجين وممثلين، وسارتر والبير كامو، ودستوفسكي ومكسيم غوركي، وبيار دوشين، واوسكار وايليد واريك سيغال، ونجيب ومحمد خضير، والسياب، وحجازي، والتكرلي والطيب الصالح، والمتنبي وابن خلدون وجبران وجبرا. والبواقي كثير حتى كأن هؤلاء نراهم ونتسامر معهم ويودوننا ونودهم. كانوا لنا جذوة الإبداع وعين حمأ في تكوين شخصياتنا الثقافية. فمع هؤلاء، وبمزيج من عوالق مدينته وعبق ذكرياته حافظ المختار على المعنى في تجلياته، ذلك ماكان ظاهراً في ديوانه "علوي الهوى" المعنى نفسه بأسلوب متنوع مثلما كان في سبعينيات القرن المنصرم ينشدها في شارع الرشيد وطيب ذكر مقاهيه:
أي الطريقين يا قلبي ستختار، أجنة الخلد؟، أم تحظى بك النار.
وقرب الرمز وعبر عن ذوبانه فيه مما قاده إلى جمالية الكشف في توضيح عن الصورة برؤى ابداعية منحته القدرة على اظهار التكوين وهكذا أخذت قصائده طابعاً يحاكي النسيج الموحد في التقنية والتأثير
لولاك يا راية العباس ما بقيت
لهذه الأرض أفضال على الشهب
ومن اهتمامه بالمستقبل، وحلم الصبية المعتقين بالحرمان، أمعن المختار في الحلم فظهرت نصوصه الشعرية فنارات مليئة بالنقل يحاكي بها أحجار الجوادر بنعومة زهرة الداليا، والخروع باشلاح النرجس وعبق البوة، برشاقة عطور الياسمين ويمعن في الحلم ويسير، حتى لا يرى إلا.. نحن نتقاسم الحلم.. وقد منحنا العالم.. هالته الحقة!.
سأظل في تيه وفي دورانه
مادمت ذا فكر وذا وجدان
انا في ضجيج الكون صوت ضائع
أنى ذهبتُ ضجيجهم يغشاني
ولابد من وقفة مع إبداعات المختار المترعة.. حداثة والذات صبغة تعبيرية خالصة، فتارة يسودها القلق.. حد القلق وأخرى يحذوها الأمل.. حد الفرح وما بينهما ينشد المختار رؤاه مظهراً ملامح الوجد لديه مؤطرة برطوبة أدوات التاريخ المعفر بقدسية خيوط زغب جناح جبرائيل في ذكره لأهل الطهر، أهل العشق المحمدي ومحفوفة بذكريات أطياف الطفولة والصبا ومرح تلاميذ الابتدائية ومثل وطنه وقضيته وشعره، يقطع المختار دورته المليئة بعنفوان مراتع الطفولة والفلسفة والاعتقال والأفلام.. والعلاقات والتي بدورها مدته بخصوصية واصل فيها مشواره وفي استكمال هذه الدورة وحوّل بمقتضاها الكلمات إلى نبض حيوي فاعل في ذهنه وفي قلوب متلقيه.
يسود الشاعر حميد المختار وجهة نظر يعتريها وعيه بضرورة أن يبقى الوطن ملماً بكل تنوعاته ذات المآرب المختلفة.. لا المتخالفة، السياسي فيها والأديب، الفني والثقافي، العقائدي والمذهبي. لذا اقتضى معه اصطحاب أدوات معرفية ذات تاريخ مصاحب للإنسانية كحقيقة، مكنته معها من تكوين حقيقة شعرية.. كشرط لبلوغ السمة الإبداعية، استحضر مع المختار شكل الحياة فالتمس "بوله رفيع"، ذاك الانسجام الأقرب بالبوح، واستوضح معه "بعشق" بيانات مدينة بريئة وشهادات تفوقنا المدرسي عندها تصبح الكلمات قوائم.. وللكثافات.. صبايا زقاق.. وأسراب لقالق.
ونكبر وتتبعنا فراشات الأصابع.. مومئة فنهديها من رفيف أرواحنا رقة الابتسامات.. ورقرقة الحوار، وشيئاً من نسيم الحنين وأتلمس معه أفكارا تاخذ أيضا طابع القسر للتعبير عنها حتى يأخذ الشعر لديه مداخل معطرة بالرموز.. والدهشة، فالمختار صاحب الشعر طويلاً.. حتى صار له كظله من اجل أدراك الدهشة ومع حميد الصديق.. أتأمل على الدوام افتتاح صفحات مثقلة بالود، وبالشعر، والأصدقاء، مما يضاعف غلّة احاسيسه بالاندماج مع الأخر وفي حالات غير دائمة يقع "متأسفاً" لفقدان فلسفة الصلة مع الآخر "ذاتية اللحظة". ففي أحيان تغيب عندنا جميعاً فلسفة هذه اللحظة فتأخذ العلاقات طابع الانشطار وجوداً وان جاءت مؤقتة.
وتمضي بنا الأيام وأتخطر مع حميد الصديق خصوصيات المراقبة، والتنبؤات ولنقترب منها أكثر فأكثر، بوسعنا استذكار آيات الذكر الحكيم مع مضامين صاغها في تكوين تعبيرات المختار.. فلم يكن في يوم ما قد أدهشنا بريق الماس، مثلما أدهشنا سحر بريق الشعر والإبداع.
هكذا نمضي موغلين في الأشياء لنسأل عن بكاء.. طال وعن فرح.. لم يأت بعد!.
وكم أثقلتنا الهموم بعودة الجنود والرايات وأغاني الحروب.. وعن عشق فقدناه.
هكذا مع المختار أرى ما أريد من السنابل
ومن جدائل النهر.. ضفائر لريح تمنحني فرصة أن أغمض عيني فأعيش عالمنا المفترض.. طفولة.. بهالته الحقة!.
ومعه أدرك أن هذا السكون.. يفضي إلى واحة
وان هذا الليل.. وان جاء طويلاً
يرشدني إلى باب.. مدينتي القديمة
مع المختار
الأمس، الحجر.. تفاحة، لطفل على سياج المدرسة
وأسراب من الحمام.. ترمينا
بالشعر، والمودة.. والسلام.