ادب وفن

" من الشباك ".. قوة الواقعة اليومية في المجهر السردي / عبد العزيز لازم

" من الشباك "، عنوان رشيق ملون استحوذ على إهتمام قراء جريدة "طريق الشعب"، كتبه بعناية فائقة عُرِفَ بها الروائي المبدع عبد الكريم العبيدي واستمر لبضعة أشهر من عام 2013. ارتضت الصفحة الأولى تخصيص مساحة خاصة في الجزء الوسطي منها رغم هيمنة اللون السياسي على جميع مواضيعها في إطار الخبر والتقرير والافتتاحية لاحتضان ما ينتجه العقل السردي لعبد الكريم العبيدي.
استطاعت "من الشباك" تزيين الموضوع السياسي وجعله مرحبا به وأكثر قبولا من قبل القارئ المستعجل. وبذا يكون الفن الإعلامي العالي الذي مارسه القائمون على الجريدة قد التقى مع الفن السردي في خلق حوار مهذب مع القارئ حول هموم مطلبية تضمنتها التقارير الخبرية والسياسية التي تمتلك أدواتها الخاصة في تحقيق الوصول الممكن إلى عقل القارئ وضميره. بينما استخدمت "من الشباك" وسائلها المميزة لبلوغ ذلك الهدف واُعطيت إطارا ذهبيا على الورق. فلماذا كانت "من الشباك" مميزة؟.
إعتمدت "من الشباك" في إنجاز شغلها المميز على أربعة مرتكزات سردية هي: أولا رشاقة العنوان، وثانيا دفق الحكي، وثالثا الصدمة المرة المدعمة بالدعابة، ورابعا الانتظام اللفظي المحسوب.
إن رؤية الأشياء من الشباك وليس من الباب يحقق مصداقية لا جدال فيها لأن ذلك يعني أننا أمام حقائق خالية من الحذر والتحسب وبعيدة عن الرتوش أو التصنع الذي يمكن ان يموه تلك الحقائق لو حصلت الإطلالة عليها من الباب وبعلم مسبق من قبل صانعيها أو المتسببين في حدوثها.
لقد خضعت مواضيع "من الشباك" لإجراءات ورشة صنعها روائي يمتهن السرد المحلق في طرح مواضيع تسري فيها الإيماءات السياسية من الأطراف إلى القلب. فحالما تدخل هذه الإيماءات أطراف الموضوع تمارس سريانها الشفاف إلى المناطق الأخرى من هيكله وهدفها الوصول إلى القلب، لكنها لا تبلغ ذلك إلا بعد أن تستكمل عملية ملء الحفر المنتشرة في الأطراف. عندها تشتعل ومضة "حامضة " كما يعبر البصريون حين يصفون الإنسان اللماح المرح، ويسميه البغداديون "شقندحي" في تعبير شعبي محلي.
لندرس المثال التالي منها بعنوان "كارثة بشرفي":
(يبدو أنهما كانا يتحاوران قبل صعودهما إلى سيارة الـ "كيا"، وحالما جلسا على مقعدين متجاورين، واصل أحدهما قراءة المشهد العراقي بكل ملفاته وقضاياه، وكأنه يقرأ نشرة أخبار، بينما ظل الآخر مصغيا إليه، ومرددا من حين لآخر لازمته الساخرة:
- درجة الحرارة 46 مئوي، وتوقعات بعواصف ترابية وغبار، وتصحر، "يعني موت أحمر".
- كارثة بشرفي
- الكهرباء في أسوأ حالاتها، والوعود بتحسينها باتت من الماضي، والناس تلوذ بالمهاف داخل بيوتها المظلمة التي غدت أفران حجرية
- كارثة بشرفي
- الطامة الكبرى هي انقطاع مياه الشرب عن العديد من الأحياء السكنية التي بات سكنتها ينتظرون مكرمة السيارات الحوضية، إنها مأساة حقيقية
- كارثة بشرفي
- العمليات الإرهابية تتزايد، والوضع الأمني يزداد تدهورا، ويقولون: قضينا على الإرهابيين "من دبش"!.
- كارثة بشرفي
- نسبة الفقر ارتفعت كثيرا، وملايين العراقيين يعيشون تحت خط الفقر.
- كارثة بشرفي
- "تره صدك كارثة بشرفي"
- "أكلك كارثة بشرفي ونص" )
استلال العنوان من أجواء التداول اليومي لمواضيع مؤثرة على حياة الأغلبية الساحقة من الناس "الزمان"، يحقق علاقة حميمية بين النص وأصحاب الشأن من تلك الأغلبية، ويجري دعم تلك الحميمية بحكاية شعبية بسيطة داخل واسطة نقل "المكان" مألوفة. وتتصاعد في أجواء حوار يبث دفقا من الغرائبية الممراحة والموجوعة في آن، بما يخلق خطابا ساخرا واضح الرؤية. ثم تتحقق الذروة الفنية بالصدمة الأخيرة. فالمتحدث الأول يروي أخبارا عن كوارث بشكل ميكانيكي ولا يعلم هو أنها كوارث رغم إن المحاور الثاني يردد لازمة " كارثة بشرفي" بعد كل قائمة من هذه الأخبار الكارثية، ثم فجأة ينتبه المحاور الأول وكأنه اكتشف غياب ذهنه الكارثي فيؤكد كارثية ما أورده بحرقة من يعود إلى نفسه بعد غياب وعيه حول ما قال فيحاول في النهاية أن يعوض عن هذا الغياب الغرائبي عبر تأكيده على كارثية ما ذكر!.
استطاعت "من الشباك" إقامة وشائجها الفنية مع جنس الأدب الساخر الهجائي العالمي انطلاقا من الأجواء المحلية العراقية. فهذا النوع من الأدب يمتلك إرثا تاريخيا لازال متصلا مع الواقع المعاصر، ويجد مجاله في الكثير من الفنون الأخرى أيضا، خاصة فن الصورة والفنون الأدائية. ورغم إن المقصود بالهجاء أن يكون مضحكا إلا أن هدفه الأعلى هو البناء باعتباره أيضا مرتبطاً بالنقد الاجتماعي. ويصنف مؤرخو الأدب أعمال الهجاء ضمن نوعين، الأول هو الهجاء "الهوراسي" نسبة إلى الهجّاء الروماني هوريس والثاني الهجاء "الجيوفينلي" نسبة الى الهجّاء الروماني "جيوفينال". ويوجه الهجّاء الهورايسي نقده بشكل مازح نحو ما يعتقده حماقة وليس رذيلة اجتماعية بأسلوب الدعابة الشفافة وخفة الظل والمبالغة. بينما يخاطب الهجّاء "الجيوفينلي" الأمراض الاجتماعية بطريقة السخرية القاسية الغاضبة وعالية الإدانة . لذلك يعبر هذا النوع من الهجاء عن مشاعر النقمة .
نعتقد ان عبد الكريم العبيدي استطاع بقدرة واضحة احتواء النوعين التاريخيين، بل أضاف توابل عراقية باهرة لابد منها في خلق النص الجديد.
إن طبيعة المواضيع التي تناولتها "من الشباك" تحمل الكثير من الحقائق الصادمة لأنها تعبر عن حجم الظلم الموجه الى الناس الذي أُنتج بشكل مخطط لإنزال عذاب خرافي في حياة السكان دون ذنب ارتكبوه تسبب في حرمانهم من نعمة الاستقرار الحياتي.
إن تلك التوابل العراقية جعلت الومضات التي حملتها النصوص ذات خصوصية سيا-ادبية سردية قائمة على عنصر الصدمة الفنية. لذلك أصبحت "من الشباك" مصنوعة من التراب العراقي، وبهذا أنجزت مهمة عالية الأهمية تمسك بها الأدب الروائي العراقي وهي التسجيل التاريخي، فالمواضيع المطروحة فيها تتضمن افرازات حوادث مهمة بل مصيرية غلّفت الواقع العراقي في حقبة تاريخية شديدة الحساسية، وقد عني الكاتب بنوعية اختياراته الثيمية وخاصة من باب تمثيلها للمزاج الشعبي السائد بين الناس من جهة، ولأنها تغطي حياة الغالبية العظمى للسكان من جهة أخرى.
نحن، إذن، أمام تجربة إعلامية ثقافية فنية مميزة، نتمنى بقوة استئناف إصدارها مجددا.