ادب وفن

جواد سليم الأنسان والفنان والمبدع/ خضر عواد الخزاعي

قبل الحديث عن الفنان الخالد جواد سليم لابد من الأشارة إلى نقطتين مهمتين في مسيرة هذا الفنان أولهما أن فن جواد سليم وأنجازاته الفنية العظيمة وخصوصاً نصب الحرية لم تكن لترى النور لولا وجود الزعيم عبدالكريم قاسم رئيس الوزراء في الجمهورية الأولى بعد ثورة 14 تموز 1958 والأرادة القوية لهذا الزعيم الذي كانت من أولى أهدافه وأهتماماته أبراز معالم الهوية الوطنية العراقية وأستخدام الوسائل التعبيرية لذلك ومنها الأهتمام بعالم الفنون بشقيها الرسم والنحت وأن تكون ساحات بغداد مسرحاً لأبداعات الفنانين العراقيين في هذين المجالين حيث لم يكن في بغداد آنذاك سوى ثلاثة تماثيل للملك فيصل الأول والملك غازي والقائد البريطاني مود صممها فنانون أجانب حيث قام بتعيين الفنان رفعت الجادرجي أميناً للعاصمة بغداد والذي أخذ على عاتقه البدء بتنفيذ أفكار الزعيم عبدالكريم قاسم حيث تم أنجاز نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس من تصميم الجادرجي نفسه ونصب الحرية في ساحة التحرير قرب حديقة الأمة لجواد سليم وجدارية فائق حسن القريبة من نصب الحرية .
أما النقطة الثانية فأن كل منجزات جواد سليم وبالخصوص منجزه الخالد نصب الحرية يعتبر حلقة الأرتباط الوحيدة بين عصرين عراقيين الفاصلة الزمنية بينهما تمتد لأكثر من سبعة الآف عام وهذا الأنجاز أيضاً ماكان ليتحقق لولا العقلية الجبارة والديناميكية التي أمتلكها الفنان جواد سليم في نظرته الأستشرافية لما هو أبعد مما كان سيمنحه الحاضر العراقي له آنذاك حيث عرف عن جواد سليم دأبه المبكر لتأسيس فن عراقي خالص أدواته التراث والحضارة الرافدينية وما وفره هذا التراث وتلك الحضارة من رموز محلية أغنت المعارف الأنسانية بما انتجته من فنون وآداب وعلوم وفلسفات .
كذلك أن أي دراسة بحثية ناجحة عن جواد سليم وفنه تكون بمعزل عن الوسط والبيئة الأجتماعية والسياسية والتاريخية التي كانت محور أهتمام الفنان الراحل جواد سليم ستكون قاصرة وغير موفقة لأن فن جواد سليم في الرسم والنحت كان أمتداد لهذا التراث الخصب وتفاعل مجموعة العوامل المكونة للبيئة العراقية .
جواد سليم وهو جواد محمد سليم علي عبدالقادر الخالدي (1921 - 1961) يعتبر من أشهر النحاتين في تاريخ العراق الحديث ولد في أنقرة لأبوين عراقيين وأشتهرت عائلتة بالرسم فقد كان والده الحاج سليم وأخوته سعاد ونزار ونزيهة كلهم فنانين تشكيليين وكان في طفولته يصنع من الطين تماثيل تحاكي لعب الأطفال نال وهو بعمر 11 عاما الجائزة الفضية في النحت في أول معرض للفنون في بغداد سنة 1931ولقد أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في بغداد.
يعتبر جواد سليم أحد أهم مؤسسي الحركه الفنيه المعاصره في العراق وقد أستطاع بزمن قصير أن يضع بصمته الخالده في عالم الفن التشكيلي في وقت كان يعتبر فيه الفن التشكيلي أداة من أدوات الزينة والمكملة لديكورات البيوت الرفيعة الشأن عدا الرسم والنحت أهتم جواد بالسيراميك وبرسم الكاريكاتير وكان يصنع التحف الفضية والنحاسية وله تصاميم عديدة لأغلفة الكتب منها ديوان الجواهري الأول وديوان (قصائد عارية) للشاعر حسين مردان ومجموعة (عرق وقصص أخرى) لجبرا ابراهيم جبرا والمجموعة القصصية (أشياء تافهة) لأخيه الفنان نزار سليم و(أغاني المدينة الميتة) لديوان شعر بلند الحيدري.
وكان يجيد اللغة الإنكليزية والإيطالية والفرنسية والتركية إضافة إلى لغته العربية وكان يحب الموسيقى والشعر والمقام العراقي أضافة إلى ذلك فقد نجح في العزف على آلة الكيتار مع فرقة الرافدين الموسيقية وكتب العديد من المقالات عن الموسيقى لكن جواد سليم حاله حال الكثيرين من مبدعي العراق ورموزه التاريخية الشامخة شموخ حضارة وادي الرافدين لم يتلقى العناية الكافية من الدراسة والبحث والتدقيق عن كل ماقدمه للفن العراقي والعربي والعالمي سوى التفاتات بسيطة وقصيرة قدمها القليل ممن أختصوا بالفنون التشكيلية والعمارة ليظل إرثه أسير قاعة العروض ومجالس السمر والحكاية ففي إحدى اللقاءات التي أجرتها أحدى الفضائيات العراقية كان السؤال عن الفنان الذي قام بنحت نصب الحرية في قلب بغداد وكانت النتيجة سلبية فالبعض أعتقد أنه لفنان أجنبي والكثير لا إجابة لديه وهذا جزء من سياسة التغييب التي أنتهجتها أنظمة الحكم التي لم يرق لها أن يكون الدور الريادي للعراق في مجال الفنون والمعرفة بهذا الحجم الكبير والمؤثروعلى أيدي فنانين عراقين .
تنقسم حياة جواد سليم الفنية بين مرحلتين مهمتين :
المرحلة الاولى :
وهي مرحلة الأهتمام بفن الرسم والتي رافقها البحث الدؤوب عن هوية مرجعية لهذا الفن :
هذه المرحلة بدأت مع عودة جواد سليم إلى بغداد بعد رحلته الدراسية في البوزار بباريس في العام (1938 – 1939 ) وكذلك في روما ( 1939 – 1940 ) والتي عمل خلالها في مديرية الاثار العراقية كمرمم للآثار ومدرس في معهد الفنون الجميلة وتأسيسه أولى الجمعيات الفنية ( جمعيأة أصدقاء الفن ) وأول ما يطالعنا في هذه المرحلة مجموعة تخطيطات سريعة (اسكتشهات) منفذة بالقلم تتسم بالسرعة والرهافة والحركة حيث يعتمد فيها على أبراز الخطوط الخارجية للموضوع (Out lines) واختزال التفاصيل الأخرى لصالح الشكل العام وأقرب مثال على ذلك عمله الأقدم ( الملاريا 1941 ) إذ أنه يعتمد على التجريد والخطوط الحرة المتشابكة لإنجاز الأحساس بالأنفعال العام ويتكرر نفس الأستخدام التقني في لوحته (أطفال في الطريق 1944) حيث يبرز التركيز على الخطوط الخارجية أيضاً وتظهر ملامح الوجوه بتعبيرية واضحة تتجسد عبر الألم في وجه الأم التي تحمل طفلاً والبراءة الجميلة في وجوه الأطفال الذين يضمهم الشارع وفي (الأبن المقتول 1947) و(الطفل الميت) في العام نفسه نجد نزعة تعبيرية واضحة في وجوه النسوة وصياحهن ووجود الأبن والطفل ميتين وسط العمل كما تبرز نزعته الخطية الحرة واضحة في العملين وفي هذه المرحلة يبرز أهتمامه في أستخدام اللون كما في لوحاتة ( نساء في الأنتظار ورجل في المقهى 1943 ) و (لورنا ) و( زوجة الفنان بثياب عربية 1948) وبعض المناظر الطبيعية حيث يدخل اللون هنا كعنصر أساسي من خلال تحديد المنظر وجزئياته أو جمالية الشخوص .
أستمرت مرحلة الرسم حتى الخمسينات من القرن الماضي وكانت تأثيرات بعض الفنانين الأوربين أمثال بول كلي الذي كانت جزءاً من أعماله رسوماته الأستشراقية واضحة في أنها ساعدته على أن يكون أكثر فهماً لمدلولات التراث الأسلامي والفلكلور العراقي والحضاري والشعبي ويظهر ذلك بوضوح في لوحاته ( كيد النساء 1953 - ومسجد الكوفة 1957 - ومسجد الخليفة 1958 ) وكانت هذه المرحلة ثرية بتعدد النواحي الفنية على مستوى الموضوع المستوحى من الطبيعة مثل (شارع في مدينة بعقوبة 1952) و(الجادرية 1953) والشكل في سلسلة رسوماته (بغداديات) و(زخارف هلالية) المستوحات من التراث البغدادي وأستعارته التجريدية في لوحة ( الضحية 1952 ) والتركيز على التعبيرية في مجال آخر في وبعض البورتريهات التي جمعت بين الدقة وجمال الوجوه .
في هذه الفترة يرسم جواد أهم لوحاته ( زخارف وبغداديات 1955-1956) ولوحة (أطفال يلعبون (1953 و(االزفة والموسيقيون في الشارع وليلة الحنة 1956-1957) و(كيد النساء 1957) و(صبيّان يأكلان الرقّي) و(السيدة والبستاني) و(الشجرة القتيلة (التي رسمها بعد أن رأى بستانياً في حديقة منزلهم يهوي على شجرة متيبسة لكي يقتلعها فكان ذلك دافعاً لموضوع لوحته التي كان أسمها يشي برؤية إنسانية تعطي النبات سمات بشرية فهي شجرة مقتولة نحس بآلامها كما يحدث للبشر إذ يموتون وقد أمتد هذا المنظور إلى الشكل نفسه حيث بدت الشجرة في غاية الجمال قريبة الشبه من امرأة شابه بقوام جميل وشعر كثيف بينما تتضح القسوة في حركة الرجل الذي يهوي عليها بفأس كبيرة بينما تعلق رجل آخر فوق جذعها ليجز رأسها وانحنت المرأة ذات الزي الفلاحي لتجمع أشلاء الشجرة من الأرض بحركة جميلة فيها عناء وفتنة وكأنها تحمل شيئاً يخص جسدها هي لا جسد الشجرة و(القيلولة 1958 ( وهي أخصب سنوات فنه ثم بداية قطيعته مع الرسم لأنشغاله بدراسات عمله النحتي الخالد ) نصب الحرية) .
في هذه الفترة كان مهمة جواد سليم الأخرى التي لاتقل شأناً عن منجزه الفني هي مهمة البحث وتأسيس لهوية فنية عراقية خالصة تكون مرجعيتها موروثات حضارة وادي الرافدين ورسومات الواسطي والتراث الفلكلوري البغدادي والعراقي وكانت تلك مهمة صعبة وسط ماكانت تزخر بها الساحة العراقية من الفنانين العراقيين العائدين من أوربا مثل فائق حسن وحافظ الدروبي وعطا صبري وأسماعيل الشيخلي الذين كان همهم الشاغل الأنجاز الفني وتأكيد هويتهم الشخصية الفنية على حساب الهوية الجامعة للفن العراقي التي كانت الهدف الرئيسي في بحث ومنجزات جواد سليم الفنية بالأضافة إلى وجود بيئة سطحية في تفهمها لقيم الجمال والذائقة الفنية وتلك كانت معضلة كما يراها جواد سليم حيث يقول في مذكراته التي جمعها الأستاذ جبرا أبراهيم جبرا (إن الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها بصورة عجيبة هؤلاء يريدوننا أن نرسم تفاحة ونكتب تحتها (تفاحة) ومنظر الغروب على دجلة وتحتها (الغروب) أو فتاة جميلة ويجب أن تكون جميلة لأن الفن جميل وتحتها نكتب بخط جميل الانتظار والفنان الحق يجب أن يعرف ماذا يرسم ولماذا هو يرسم فماذا تعني صورة نخيل رسمت كما يراها الفوتوغراف ) جبرا ابراهيم جبرا (جواد سليم ونصب الحرية ص 149) لذلك نراه يقول في مكان آخر ( أن الفنان مطالب بأن يهضم كل قديم ليأتي بالجديد وما هذا القديم إلا دنيا هائلة ) .
المرحلة الثانية : وهي مرحلة التحول التدريجي من الرسم إلى النحت :
وكانت أولى تجاربه النحتية هي منحوتة (البناء 1945 ) تعود دراسات المنحوتة وتخطيطاتها الأولية إلى عام 1944 وفي أواخر عام 1945م ينتهي منها تماماً لقد كان عمل (الأسطة) كبير البنّائين هو الذي أوحى له بالعمل لذا فقد ظهر في العمل النحتي كبيراً ونفذها بطريقة النحت النائيء جامعاً مؤثرات الحضارة الفرعونية والأشورية وهي غنية بالتفاصيل فثمة سبعة أشخاص إلى جانب البنّاء الأساسي يساعدونه في العمل وهناك تخطيط أولي منشور للمنحوتة ضمه دفتر مذكرات الفنان .
ومن أعمال جواد المشهورة منحوتته (السجين السياسي) التي قام بتهريبها إلى لندن عام 1953 للمشاركة في المسابقة الدولية مع 3500 نحات حيث فاز بالمرتبة الأولى لفناني الوطن العربي وبالمرتبة السادسة بالنسبة لنحاتي العالم وكان المشترك الوحيد من الشرق الأوسط وتحتفظ الأمم المتحده لنموذج مصغر من البرونز لهذا النصب نفذه جواد بأسلوب تجريدي خالص مستخدماً الهلال كشكل يشير إلى السجين الذي يشرق بحرية ويطل خارج القضبان التي تحيط به فالناظر لا يرى إلا هلالاً محوّراً مأسوراً وسط قضبان حديدية وأسلاك تنغرز في جسده لكنه بلا ملامح محددة كإشارة إلى هوية إنسانية لهذا السجين بسبب الفكر فهو ينتمي إلى العالم كله لا إلى جنس أو لون أو مبدأ محدد بالأضافة لهذا العمل قيامه بأنجاز بعض المنحوتات الفنية منها تمثالين لمحطة قطار مدينة بعقوبة القريبة من بغداد وتمثالاً لحصان لمضمار سباق الخيل في حي المنصور ببغداد لم يعجب الشركة القائمة على السباق وشعاراً لمصلحة نقل الركاب بالعاصمة ومنحوتة برونزية للمصرف الزراعي جعل لها عنواناً ( الإنسان والأرض 1955) نفذها بأسلوب النحت الناتئ أيضاً تميزت بغناها الرمزي وتكاملها السردي حيث تظهر الأرض الولود بشكل امرأة خصبة ضخمة الأثداء على يمينها طفل وتحيط بها أغصان شجر وثمار وتعلوها قرون ثور كما صمم عام 1956م جدارية عن الثروة النفطية لصالح شركة نفط العراق يتضح فيها الأثر الأشوري اكثر من سواها بتكرار الثيران أسفل العمل واستعارة شكل الأفاريز أو الأختام الأسطوانية والأشكال التي تذكر بالحضارة السومرية والبابلية إلى جانب عامل السرد الذي يربط بين ظهور النفط من باطن الأرض على شكل شعلة نارية ملتهبة أسفل المنحوتة وبين تحورها على شكل أشجار ضخمة في أعلاها إلى جانب المصغرات المحددة في أنحاء المنحوتة وداخلها أشكال بشرية أو دوائر مرقوشة .
وكانت الأم واحدة من محاور أهتمامات جواد سليم النحتية حيث أنجز عملين الأول ( الأمومة 1952 ) منفذ بطريقة مباشرة مع شيء من الرمزية والشاعرية في حمل الفاكهة وضخامة الثديين إضافة إلى جمالهما ورقة الجسد ودقته والعينين الواسعتين بشكل هلالي واضح أما التمثال الثاني للأم ( عام 1954م ) فهو يعتمد التجريد فثمة قوس أو هلال مفتوح إلى الأعلى يستند إلى قطعة مرمر مجوفة بدورها وكأن الشكل كله يوحي باكتناز الأم للعاطفة والولادة والجمال وسنرى أن ثمة كرة مدورة توحي بشكل فاكهة أيضاً وهي تتدلى من أعلى القوس من الجهة اليمني ربما تأكيداً لفكرة العقاب والنزول إلى الأرض بسبب المرأة أو– لا ربما تشير إلى الولادة كثمرة لشجرة الأمومة والعطاء الذي يرتبط بها عبر الولادة واستمرار النوع ومن أعماله أيضاً الثور 1954المصنوع من مادتي الخشب والحديد وفيه يصبح القرنان هلالين كبيرين ويستدق جسد الثور ويطول وكأنه يمثلك امتداده من الخيال والفكرة إلى الفن والتجسد بهذا الامتداد .
في هذه المرحلة التي سبقت أنجاز ملحمته التأريخية ( نصب الحرية ) كان جواد سليم يعيش صراعاً نفسياً وفكرياً في خياره بين الرسم والنحت فهو يقول في إحدى يومياته (29/5/1944) إلى توزع محير بين الرسم والنحت (إني لا أريد أن أكون كروزيتي يبدد قدرته بين الشعر والتصوير لا يدري أيهما يجيد..أنا أعيش في القرن العشرين وتقسيم قواي بين الرسم والنحت من المؤكد سيوصلني إلى لا شيء إني أفكر أن أتحرر من الرسم في يوم من الأيام لأني أشعر شعوراً أكيداً أنه ليس بالشيء الذي أعيش من أجله إنه لا يعبر عن نفسي تمام التعبير) جبرا أبراهيم جبرا ( الرحلة الثامنة ص 169) ولقد كان شكل هذا الصراع في جزء منه منولوجاً داخلياً ورؤية بدأت تستقر في عقل جواد وقرارة نفسه أنه بات قريباً من النحت ( أستقر في رأسي شيء خطير وهو أني لا أصلح أن أكون رساماً لأني أرى شيئاً وفرشتي تعمل شيئاً آخر وقد استنتجت في كثير من المرات أني لا أرى الألوان بالقوة التي يتطلبها رسام بارع من الصنف الأول وأنا لا أريد أن أكون مصوراً من الصنف المتوسط إني أفكر بالشكل والحجم أكثر مما أفكر باللون ... وأني أجتهد بكل طاقتي وأحرص أشد الحرص في إخراج حتى أبسط القطع في النحت بينما يكون الرسم لي كلهوٍ بسيط لا يهمني إن كان حسب اتجاهي القديم أو الحديث بالنسبة لصوري التي رسمتها قبلاً ) جبرا أبراهيم جبرا ( الرحلة الثامنة ص 177 )
الأنجاز التاريخي لجواد سليم ( نصب الحرية ) :
نصب الحرية هو أكبر نصب في الشرق الأوسط تم تنفيذه في المساحة الفاصلة بين حديقة الأمة وساحة التحرير أما محتوى هذا النصب العظيم فتتكون من 14 جزءاً تمثل ثورة 14 تموز التي قام بها الشعب ضد الحكم الملكي الاستبدادي من أجل تحريره .
يقول الناقد والروائي جبرا إبراهيم جبرا أن فكرة نصب الحرية كانت تراود جواد منذ منتصف الأربعينات لكنه لم يرَ الوقت آنذاك يصلح لتنفيذها وعندما جاءت ثورة 14 تموز أيقن جواد إن الوقت أصبح مناسباً لتنفيذ حلمه بينما تقول لورنا زوجة الفنان جواد سليم بأن فكرة نصب الحرية جاءت من المهندس المعماري رفعة الجادرجي لقد أقترح رفعة إقامة جدار عريض مرتفع في ساحة من ساحات بغداد الكبرى على هيئة بوابة عالية أو لافتة تستند من جانبيها على الأرض وكان المطلوب من جواد نحت مشهد بارز من مادة البرونز يعلق على صدر اللافتة أما جواد فلم يكن يريد النصب مرتفعاً ومعلقاً بعيداً عن المارة أراده قائماً على الأرض في متناول الناس بحيث يستطيعون الإقتراب منه وتفحّصه عن كثب وتلمس منحوتاته بالأيدي خشي رفعة في حالة وضع النصب بمستوى الشارع أن يتسلقه الصبية أو أن يكتب المارة أسماءهم فوقه لكن هذه الفكرة لم تزعج جواداً إذ كان يرى أن كل نصب يكتسب مزيداً من الجمال عندما يترك الناس بصماتهم عليه مثل الآثار العالمية المزينة بأسماء آلاف السياح والتواريخ المحفورة عليها دون أن يفسد ذلك جلالها أو قيمتها الفنية وفي محاولة أخيرة لإقناع رفعة اقترح جواد إقامة بركة مائية أمام النصب تمنع العابثين من الوصول إليه وقال إن انعكاس المنحوتات على صفحة الماء سيكون مثيراً حسم رفعة الجادرجي الجدل قائلاً إنه تمكن بصعوبة بالغة من إقناع المسؤولين بفكرة نصب كبير كهذا وبالتالي فإنه يخشى أن يصرفوا النظر عن الفكرة إذا تضاربت حولها الآراء بعد هذه الحجة وافق جواد على إقامة النصب كما يريدون واستُدعي إلى مقابلة الزعيم عبدالكريم قاسم للأستماع إلى توجيهاته قبل البدء بالتصميم وخرج من المقابلة شديد الارتياح والإعجاب بشخصية الزعيم قاسم وتوضح لورنا أن عبدالكريم قاسم لم يطلب من جواد أن يضع صورته وسط الجدارية كما زعم بعضهم لكن بعض المنافقين المحيطين بقاسم أقترحوا عليه أن توضع صورته في قلب الشمس السومرية التي تتوسط النصب ويبدو أنه لم يخضع للاقتراح بدليل أن الصورة لم توضع في النهاية .
في هذا العمل الأستثنائي في الفن التشكيلي العراقي والعربي والشرق أوسطي عمل جواد بكل جهد وأخلاص ليكون عمله هذا تتويج ملحمي لحضارة وادي الرافدين برمتها أستحضرت بأرادة العراقيين من خلال ثورة تموز 1958 ولقد هيأ لها كل مستلزمات النجاح والهوية الوطنية بأستحضاره لكل مفردات ماضي العراق المشرقة وحضارته الرافدينية مستخدماً الدلالات الرمزية لهذه الحضارة من ( ثور وحصان وشمس وأمومة وخصب وعزاء وموت ومياه ) وفي آذار 1959 سافر جواد إلى إيطاليا ليقضي أشهراً طويلة في مصهر خاص بفلورنسا يصنع المصغرات بعد تخطيطها ثم يعمل مع مساعديه ( ومن أبرزهم النحات الشهير وتلميذه في المعهد محمد غني حكمت) لكن الفكرة الواضحة في ذهنه أنه سيصنع ملحمة بالمعنى السردي والفني تحكي تاريخاً وحاضراً لذا أراد لها أن تكون بهذه السعة وأراد لها أنه تكون بأسلوب النحت الناتئ وليس المجسمات متأثراً بالفن العراقي القديم وفكر في لوح عريض هو الأرضية التي تستقر عليه وحدات النصب التي يبلغ عددها أربع عشرة وحدة تضم خمسة وعشرين وجهاً عدا الحصان والثور ويمتد هذا اللوح المعلق خمسين متراً وبارتفاع أكثر من ثمانية أمتار ووضع جواد منحوتاته على إفريز عرضي في أستعارة تعددية لأسلوب الخط العربي فوق سطر طويل أو مايشبه عمل الأفاريز والجداريات العراقية القديمة أو شكل (اللافتة) أي القطعة البيضاء أو الملونة من القماش يرفعها المتظاهرون ويكتبون عليها الشعارات المؤيدة للجمهورية الوليدة وهذا ماجعل ناقداً مثل جبرا أبراهيم جبرا يذهب برؤيته للنصب وتفسير وحداته (على أنها مفردات "بيت من الشعر العربي يقرأ من اليمين إلى اليسار فكل وحدة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يعبر عن النصب بأجمعه( توق العراق إلى الحرية منذ القدم وتقديمه الضحايا في سبيلها ) جبرا أبراهيم جبرا ( جواد سليم ونصب الحرية ص37 ).
ولقد كان جواد سليم واعياً وملماً لكل الطروحات والنظريات التي درسها في المرحلة المهمة من حياته في مدرسة سليد لفنون النحت في بريطانيا وربما كانت حاضرة بفكره طروحة الكاتب والناقد البريطاني رسكن ( 1819 – 1900 ) عن فن النحت والتي مفادها (أن التكوين يعني وضع أشياء عديدة معاً بحيث تكون في النهاية شيئاً واحداً وطبيعة وجود كل من هذه العناصر يساهم مساهمة فعالة في تحقيق العمل النهائي الناتج فوحدة العمل الفني تعني تناغم وتكامل مكونات ذلك العمل في خصوصياتها كالخطوط والحركة واللون والمسافة ) .
تبدأ هذه الملحمة السردية برمز الحصان كرمز عربي يشير إلى الجموح والقوة فهو بدون فارس وإذا كان الحصان يعج بالحركة والنفور فإن جسده مغطى بأجسام بشرية تقرن الثورة بالإنسان وعندما نصل إلى الجزء الأوسط وهو الجزء الأهم في النصب حيث يُشير إلى نقطة التحوّل ويتألف من ثلاثة تماثيل على اليمين يُطالعنا تمثال السجين السياسي الذي تبدو الزنزانة فيه على وشك الانهيار تحت تأثير رجل مزَّقت ظهره السياط ولكن القضبان لا تنفصل في النهاية إلا بإصرار وقوة وجهد الجندي الذي يظهر في الوسط وذلك اعترافاً بأهمية دور الجيش في ثورة 14 تموز.
لهذا النصب أثره على المجتمع العراقي في مختلف الثورات والعصور فلم يتوحد العراقيون برمز يوماً كما توحدوا باتفاقهم بأن هذا النصب هو رمز للتخلص من العبودية والظلم وبرغم أن النصب لا يحتوي على اتجاهات سياسية غير كونه رمزاً للتحرر إلا أنه أصبح رمزاً لثورة 14 تموز ثم تأتي النخلة والمرأة الحبلى رمزاً للخصب والخيرات التي تحملها بنت صغيرة في لقاء نهرين دجلة والفرات وتبرز ايضاً معجزة الزارع الجديد بالمسحاة ( أداة الزراعة التقليدية في ريف العراق) مع ثبات وقوة أرجل الفلاحين ثم العامل الصانع واقفاً بشموخ وبيده أداة (ورمز) العمل أي المعول وبينهما أي الزارع والعامل ثمة ثور ضخم يطالع المشاهد وكأنه يكمل صورة الحصان في أول النصب وهو استدعاء للمؤثر الأشوري لطاقة الثور رمزياً وفنياً .
لقد أستنزف هذا العمل الخلاق الجزء الأكبر من طاقة وجهد جواد سليم حيث تعرض خلال عمله فيه إلى ثلاث نوبات قلبية كل واحدة كادت أم تؤدي بحياته وأصابه بحالة من الأرتباك المرضي النفسي حيث كان يتخيل وكما تقول زوجته لورنا خلال العمل بأنه يتعرض إلى المطاردة والقتل وكانت تنتابه نوبات من الهلوسة والأضطراب القريب من الجنون وعندما تم الأنتهاء من صب المنحوتات وجيء بها إلى العراق وبوشر في تنفيذها وبأشراف جواد سليم ومشاركته في وضع وحدات النصب في كانون الثاني 1961 تعرض جواد إلى آخر أنتكاساته المميتة كما يصفها الدكتور خالد القصاب الذي كان قريباً منه وقتها ونقل إلى المستشفى الجمهوري في بغداد ليفارق الحياة يوم 23 كانون الثاني 1961 وكانت الى جواره زوجته لورنا حيث قال لها آخر كلماته (تصوري اني اراك الان ملاكا .. تصوري انت لورنا ملاك ... ) .
لقد رحل جواد سليم الشخصية الأستثنائية والخالدة في الفن التشكيلي العراقي بعد أن ترك بصمة خالدة لاتمحى في حياة العراقيين وهي ( نصب الحرية ) وكما يعلق أحد أصدقاء جواد سليم ( هناك ملحمتان مهمتان في العراق أولاهما ملحمة كلكامش والأخرى ملحمة الحرية لجواد سليم ) أن الكتابة عن جواد سليم وفنه لايمكن لبضعة أوراق أن تحتويها أو تفي بحقها فلقد كانت حياته ومنجزاته مسيرة أبداع وحراك وتأسيس لم يوقفها إلا الموت المبكر الذي توج به ملحمته الكبرى نصب الحرية .