ادب وفن

خيانات عبثية في فضاءات مؤنسة

عصام الياسريكانت زوجتي التي أحبتني وأحببتها وتزوجتها وهي في سن الثانية والعشرين تنشغل في ترتيب شنطة سفري بدقة فائقة حريصة أن يكون عليَّ سهلاً انتقاء ما أحتاجه منها. زوجتي طيبة القلب لم تكن طبعا تعرف وجهة سفري الحقيقية، فأنا أخبرتها بأنني سأستقبل مجموعة من رجال الأعمال من المطار وأسافر بصحبتهم في بعض دول مجاورة لانجاز أعمالهم. ولم يخطر ببالها وهي الحميدة الأخلاق بأن رحلتي هي رحلة رذيلة واني لسبب ما نظمت هذه الرحلة بدافع غريزة ذكورية مفاجئة حلت بيّ وأنا في العقد السادس، وأن هدف رحلتي أن أقضي الوقت بصحبة امرأة أخرى!.
حزمت أمتعتي أخيرا وانا اودعها بينما كانت عيناها تعبران عن شعور بالخوف والقلق رغم انها لا تعرف حقيقة سفري!.
كانت رسالة ريتا الانكليزية الجميلة ابنة الثلاثين عاماً وهي من أصول سينغالية تقول: لم أعد أستطيع الأنتظار. اريد أن أراك اخيرا. سأتي مهما كلف الأمر. وهكذا رتبت كل شيء يتعلق بإنزوائنا بعيداً عن الأنظار منفردين لنتمتع بنعم الله على الأرض قبل الرحيل الى فردوس الآخرة. لم أشغل نفسي بماذا سيأتي وماذا سيحدث؟، كل ما كان يدور في ذهني من أفكار، وانا اخضع الى مراهقة مثيرة وينتابني في الوقت نفسه أحساس غريب لا أعرف كنهه، ولا أعرف كيف ولا إلى أين سيأخذني؟، لكني كنت أتساءل: أفليس جُل الرجال عندما يصلون إلى هذا السن يصبحون سادة النزوات، أو أليس جميعهم لا يتركون فرصة للخيانة تمر بينما هم يتحدثون عن البراءة ويعلنون تمسكهم بمباديء حميدة تبعدهم عن نزوات الرذائل الجميلة؟، أو لا أغلبهم وعلى سجاياهم وإدعاءاتهم، فاسقون. صبراً عليّ سأعلن عن آثامي واكشف عن كل خطيئة سببتها غرائزي لكِ، أنتِ ذلك الجنس الذي ليس أفضل مني عندما تسنح له فرصة مثيلة يجيء بها القدر لحظة لا جدال فيها للممانعة أو التسامح مع الأخلاق.
قبل ذلك كنت قد ركنت إلى زاويتي في ذلك المطعم المعتاد الواقع في ركن لا يتعنى اليه إلا من يعرفه من زوار اعتادوا عليه. أنتظر ماريا وهي زميلة قديمة طيبة في الثانية والأربعين، لكنها ما تزال تبدو شابة جميلة، لاطلب منها نصيحة تساعدني على التخلص من هواجس تعكر صفو حياتي!
جلستنا استمرت ساعات طويلة ونحن ندخن ونحتسي النبيذ وأنا أكرر ذات القصص وهي تعيد عليّ ذات النصائح، تارة بود ولطف وتارة بعصبية مؤلمة. تردد فيها العبارات ذاتها: أنس الامر، أنت لا تستطيع أن تقاوم نزواتك لأنك ضعيف أمام المرأة!، انتهى اللقاء وأنا أعدها بالكف عن دوافع نزواتي الجنسية، بعد أن اعترفت لها بأن نوعاً من تأنيب الضمير بات يقلقني بلا رحمة.
في الصباح كان الطقس بارداَ وممطراً عندما كلمتني بلقيس التي كانت عائدة تواً من سفر لتقول لي بأنها اشتاقت لي كثيراً، وتطلب أن نلتقي في المكان ذاته الذي نلتقي فيه عادة. اجتمعنا، بلقيس وأنا، والأشواق كانت تبعث فينا دفئاً ملكوتيأ والود ينتشر في رحاب ذلك المكان، نهمس ونضحك، نتبادل الأحاديث بمودة. وفي وقتٍ متأخر من تلك الأمسية قلت لبلقيس بأنني سأسافر لبضعة أسابيع، وحينما سألتني هل سأسافر وحدي أجبت طبعا. لكنها قالت انها لا تصدق أبداً؟ قلت لماذا لا تصدقين؟ قالت عيناك تقول غير ذلك، أنتَ لست مراهقاً متمرداً وحسب، انما شقي وأحيانا طفلاً غير بريء.. قلت، طالما تعتقدين ذلك دعيني أعرفك على المرأة الأخرى التي سأسافر معها في أمسية نقضيها سوية. احتدت وركنت بوجهها جانباً حيث بدأ شعاع الشمعة ينعكس على وجنتيها اللتين بدتا قرمزيتين كالزمرد وخيط الدخان ينبعث من بين شفتيها الناعمتين الحمراويين.
مضت الأيام وريتا تتصل وتكتب كل يوم تحدثني عن اقتراب مجيئها وتذكرني بأن لا أنسى موعد قدوم الطائرة، وصرت أعاني كثيراً من الاتصالات وأعبث محاولاً أن أجد منفذاً ينقذني من الموقف، دون جدوى؟. ولم أجد تفسيراً واحداً يجعلني أميّز الفرق بين الفضيلة والرذيلة؟، كان ثمة احساس باطني يقودني بقوة للمغامرة. يقال أن الرجل قوي والمرأة ذكية، أنا أرى الامر على عكس ذلك، ربما لأن كلاهما يمتلك من هذا وذاك، أو بمعنى آخر، كلاهما مغرور ومخادع وكلاهما لا يستطيع إلا أن يساوم ويلعب بعواطف الآخر لاشباع غرائزه وملء شهواته. استقريت على أن أترك الأمور تسير نحو طريقها وأترك مصابي للقدر واضعاً بالحسبان الوعد الذي قطعته على نفسي أمام ماريا التي كانت تتفهم عواطفي وتشاركني الاحساس في الكثير مما أعاني منه.
عادت بلقيس من السفر من جديد والتقينا لنحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين قبل مغادرتي مدينتي لالتقي ريتا في مكان بعيداً عن الانظار، كانت سهرة مصارحة وعتاب طويلة. طرحت عليّ أسئلة كثيرة تتعلق بسفري ومصير علاقتنا. أخبرتها من جديد بأنني سأسافر لوحدي وبإمكانها أن تأتي معي لكنها رفضت. قلت لها كوني جريئة وقولي ماذا يدور بخلدك. ثقي انني لا أرغب في أن أفرض ما لا ترتضينه ولا أود القيام بما لا تريدينه. لكنني لا أستطيع أن أخضع رغباتي ومشاعري لاعتبارات مجازية لا مكان لها في أي قاموس، أرجوكِ لا تبالغي في صنع أوهامك!، قالت إنها ليست جريئة ولا تريد أن أتبعثر بين خواطرها وأفكارها. أخيرا قالت: كلماتك الرقيقة تفقدني جرأتي، أنا ليس بمقدوري أن أعبر لك علناً عما هو دفين في قلبي، لا أقدر إلا أن أصمت امام كلماتك الجميلة الرقيقة والشقية في بعض الأوقات، أو أستمع الى كلماتك الحلوة الناعمة، وقلبي يرتجف وانا أحلق في فضاء مؤنس أحيك أبجديات كل كلمة في ذاكرتي.
بقينا الى وقت متأخر ونحن ننتقل من مكان لآخر تقودني إليه بلقيس فاقد السيطرة وهي تقول: هذه ليلتي والفضاء فضائي، وأنت تصمت هذه الليلة، قاطعتها، لكن بلقيس، يا روح بلقيس، أنا لا أعتقد بأنك غير جريئة، ولم تقضي حقا ليلة حمراء مع أحد. فانتِ لم تعودي عذراء وخلفكِ مغامرة زواج فاشل من رجل أذاقكِ الويل ولا زلتِ لا تعترفين بالحقيقة وتوصدين باب ذكريات زواج كان مبنياً بالاساس على مصالح ليس إلا؟، لا تخدعي نفسكِ؟ اخلعي عنكِ ذاك الوشاح الممجوج وتمردي على ماضٍ لا معنى له. كوني وفية لكل عهد قطعته وحرف بريء دفنته في أزقة قلبكِ نحوي. بعد صمت عميق قالت بمرارة وحزن؛ لماذا لا تدعنا نحتفل ونودع بعضنا دون احزان وعتاب، أنت ستسافر برفقة امرأة تتمتع معها بأيام جميلة وتريد مني أن اكون متسامحة!
رهاني كان خاسراً منذ البداية. قررت أن أسافر دون أي امرأة متمرداً شقيا. يا لويلي كم أنا ساذج أؤمن بالوصايا العشر زوراً؟ كم من مرة سخرت منيّ الحياة بسبب برائتي وكم من مرة خادعت نفسي لاتعامل بلطف مع هذا المخلوق الفاتن البديع المغري دون حدود، هذا الجنس الموسوم، الذي يقف الرجل عاجزاً خاشعا أمامه! هل انا حقا بوهيمي حتى النخاع؟ ربما سأندم يوما ما على كل أفعالي، الجميلة والقبيحة، وستعاقبني الحياة على خياناتي الجنسية البريئة؟.
رغم أنني لا أفهم معنى الحب ولا أعرف كيف أصفه أو أتعامل معه، لكنني أحببت النساء دون حدود.. ربما أنا شقي يعشق النساء، أو كما تقول بلقيس طفلٌ مراهق ووووو، لكنني لست رذيلاً بعد؟. النساء يتحدثن عن الحب كثيراً ولا يجدن تفسيراً له في أغلب الأحيان، والرجال يفسرون الشبق بأنه الحب وأنه ليس سوى عملية جنسية متبادلة ينتهي بانتهائها!، أما أنت حبيبتي التي من ايقظ مشاعري الجميلة وجعل أحزاني تتوارى خلف الأطلال، وهواجسي تنام في قصيدة لم تكتب كاملة. سأهمس إذن في أذنك عواطفي، وأكشف عن طقوس شغفي حيثما أشحن غضبي حتى يملأ طيفك الفراغ وتنامي على كتفي ونحن نفترش الارض ونلتحف السماء، نلعب ونثور ونتمرد. أطوي ذراعي حولكِ وأشدكِ برفق نحوي لاحس بدفئكِ، أعانقكِ، وأترك يدي تسافر بين هضاب جسدكِ تمسد كل واحة فيه بهدن، أداعب بأطراف شفتيّ الناعمتين نهديكِ الملتهبين وأمتص ببطء من ينابيعكِ نبيذ الخلود وأبحر فيكِ أستنشق عطر انوثتك.
يومان قبل أن تتجه ريتا، أتصلت بها أخبرها عدم المجيء وأن تنسى كل الذي حدث بيننا، وبأنني سأدفع لها أجور التذكرة، كما أعلمتها بأنني سأغادر إلى مكان بعيد أقضي فيه وقتاً للتفكير في نفسي ورغبتي في عبث النساء، أضع حداً لذلك الشعور بالذنب تجاه زوجتي، بلقيس، ريتا وووو. لم تقتنع ريتا بالأمر وأخذت تصرخ وتبكي عندئذ اضطررت لغلق التلفون. في اليوم الذي يفترض أن تأتي ذهبت إلى المطار لأتأكد من عدم مجيئها، انتظرت ولم تأت.. لأنهي شكوك بلقيس بأنني سألتقي امرأة أخرى كان عليّ أن ألعب لعبة تبدو منطقية، اتصلت بها من المطار سائلاً، كم تحتاجين من الوقت لتنضيد حقيبتك وتأتين معي. كنت أعرف أنها لن تقبل بسبب التزاماتها. قالت لي مندهشة محرجة وبصوت أجش: أنس، تتصل بيّ الآن وتطلب المجيء معك هكذا على عجالة، هذا غير ممكن، أرجوك.. عدت للدار ووجدت كماً من الرسائل الوافدة من ريتا تعاتبني وتقول الكثير الكثيرـ ما هذه القساوة، أنت انتزعت حُلماً جميلاً وفرحة لقاء كنت أنتظره لحظة بلحظة، لماذا، لماذا؟ رميتني في وادي الكآبة. منذ أول لقاءٍ لنا وعبير جسمك يحيط بيّ، أشمه، كلما أتنفس يملأ أعماقي. حب، أي حب هذا؟ أنا حزينة ولا أعرف متى سينتهي هذا الحزن الذي سببه تمردك تجاه مشاعري وحبي لك. كتبت وكتبت لريتا لكنها لم ترد ولم تجب عن التلفون أبداً.
كانت شرفة شقة السيدة يولونا تطل على جنينة جميلة واسعة، فيها كل أصناف الورد، وسط مزرعة مليئة بأشجار الزيزفون والزان والبلوط والبتولا وتنتشر فيها الدواجن والطيور. واصبح هدفي بعد كل ما حصل أن أقضي هنا بضعة أيام لأجل الراحة وقراءة امور حياتي وعلاقاتي قراءة مستفيضة لا تخلو من محاسبة ذاتية.
كنت جالسا بعد يومين من وصولي في المزرعة أتمتع بدفء الشمس المشرقة، حينما أطلت السيدة يولونا وهي امرأة طيبة ومهذبة، سائلة ماذا بودي أن أشرب، قهوة أم شاي؟ جلست إلى جانبي فيما كان زوجها الودود يغرس بذور الزهور ربيعاً. قالت، أراك حزيناً ضائعاً تفكر، ماذا حل بكَ؟ قلت لها أنني أفكر في مصيري وكيفية الخلاص من هموم النساء وشعوذة الحب وكيف لي أن أبتعد عن نزوات المراهقة العشوائية. أفرغ ما في قلبك من همٍ، قالت، لم تنطق السيدة يولونا إلا بجملة ذات مغزى: النساء ذكيات مخادعات متمردات قويات، يشربن من ثقب القِرْبَة دون أن تحس، غرائزهن لا حدود لها، إذا ما قررن أمراً يحصلن عليه دون ثمن. لكن هل، وأنت الضعيف المتيم بعشق النساء والهوى، هل فكرت ماذا بعد؟
تركت المنتجع عائداً إلى بيتي وأنا أبحث عن جواب للسؤال المهم الذي همست به في أذني السيدة يولونا بصدق.