ادب وفن

مفاصل التناص مع القرآن في قصيدة «شاعرة أنا» للشاعرة زينب الخفاجي

قراءة: داود سلمان الشويلي

القصيدة:
قصيدتي جميلةٌ ..
وجميلةٌ جداً لأنكَ فيها
لكونها
تسميكَ ... كما يحلو لها روحاً
تسميك .. أيضاً ميلاد حياة
تسميك ... ماءً واخضراراً
تسميك ... مئذنةً .. ومحرابَ صلاةْ
شاعرة أنا ...
لا أحتاج إلى حروف
لأنك أنت حروفي التي أراك فيها
والعين شفاهاً تصير
تلثم كل ما فيك
جبينك ... شفاهك .... مآقيك
لاشيء بعدك احتاج إليه
لا يغريني قميص
إن اقبل أو أدبر
ولا أبواب تغلق أو لا تغلق
فالضوء الممتد إلى الضوء ..حبيبي
شاعرة أنا ..
ولكن ليست محنة كبيرة
أن لا أجيد كتابة الشعر يوما
لأني معك أكبر
من الشعر كله
ومن أبحره وقوافيه
واكبر من كل القصائد المنثورة بين حنايا الورق
أعطيتهم بالأمس متكئاً وسكيناً
فلما رأوك
قالوا حاشا لله ما هذا وطناً
هذا هو الألقْ ..
* * *
"وادم فقط هو الوحيد الذي كان يستطيع ان يتجنب عادة التوجيه المتبادلة هذه فيما يخص خطاب الآخر الذي يقع في الطريق إلى موضوعه، لأن آدم كان يقارب عالما يتسم بالعذرية ولم يكن قد تُكُلّم فيه وانتُهك بوساطة الخطاب الأول"
- باختين - "1/84"
سلك الشعراء منذ الجاهلية إلى يومنا هذا، طرقاً وأساليب عديدة ومتنوعة كي يقدموا شعرا مقبولا من المتلقين، يسمو بذائقتهم إلى مديات عالية، ويغادروا الواقع المعيش في أي زمان ومكان.
فقد ذكر شعراء ذلك العصر في قصائدهم بعض قصص الأنبياء، بعدها جاء "القران الكريم" على ذكرها بالتفصيل، مثل الشاعر السمؤل، والشاعر بشر بن حازم، والشاعر زبار بن سيار الفزاري، والشاعر عدي بن زيد، و الشاعر عمرو بن كلثوم، والشاعر عنترة بن شداد، والشاعر النابغة الذبياني، وغيرهم الكثير.
ومن هذه الطرق والأساليب هو ما سمي منذ ستينيات القرن الماضي بـ "التناص" الذي اجترحته الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا وقدمته بين عامي 1966- 1967، اذ بلورت فيه مفهوم "التناص"، ان كان ذلك أثناء إنشاء النص الأدبي، أو كألية نقدية يراد منها فحص هذا النص أو ذاك.
و"لم يكن مفهوم "التناص" بعيدا عن الدراسات النقدية التي سبقت ظهوره في النقد العراقي خاصة، والعربي عامة.. اذ ان مفاهيم كـ "التأثر، التضمين" على سبيل المثال قد أخذت مجالها الواسع في تلك الدراسات، مما جعل من "السرقة" بأنواعها، تأخذ هي الأخرى مداها الواسع ايضا في تلك الدراسات.
لقد قلل "التناص" كثيراّ من وطأة تهمة "السرقة" وراح بعض نقادنا - جرياّ على عادة الغربيين - يعدون "السرقة" - بكافة أنواعها - من باب "التناص" دون ان يفرقوا بين نوع وآخر من أنواعها، والتي سبقنا في التفريق بينها نقادنا قبل أكثر من ألف عام، وكتبوا حولها المجلدات.
ان "التناص" كآلية ومقترب نقدي، أفادت كثيرا النص الإبداعي ومؤلفه على السواء، إذ برأ المبدع من تهمة "السرقة" او "بعض أنواعها" وفي الوقت نفسه خدم النص عند اخراجه من "خانات" السرقة "...".
واخيراً، فإن التناص، عند الإنتاج هو: قراءةٌ لنصوص سابقة، وتأويل لهذه النصوص، وإعادة كتابتها ومحاورتها بطرائق عدة على ان يتضمن النص الجديد زيادة في المعنى على كل النصوص السابقة التي يتكون منها.
ان مفهوم "التناص" على المستوى "المعملي / الاجرائي" يعد الاداة الخاصة بالكشف عن نفسه في النص المدروس، أي الكشف عن آليات التناص نفسها التي اشتغل فيها / او بها النص عند الانتاج ، وهنا يتحول هذا المفهوم من مفهوم انتاجي " خاص بانتاج النص" الى مفهوم اجرائي - معتمداً على حصافة القارئ "الدارس، الناقد" ومرجعياته ومصادره السابقة على القراءة ، وكذلك وعيه لكي يصل الى دلالاته - ويتم كل ذلك قبل ان يتخذ الدارس موقف المفسر او الشارح او المؤول له".
في هذه الدراسة سنقدم قراءة لمفاصل التناص مع القران ومقولة للشاعر ابي العتاهية لقصيدة للشاعرة زينب الخفاجي بعنوان "شاعرة أنا" التي تتحدث فيها الشاعرة عن مشاعرها وهي تكتب قصيدتها الجميلة، وجمال القصيدة ياتي من كون الوطن ماثلا فيها .
تتناص القصيدة مع القران وقول الشاعر (ابو العتاهية) في ثلاثة مواضع ، وليس التطابق بين القصيدة ومصادرها في القران وقول (ابو العتاهية) جاء كاملا، وانما يأخذ الفكرة العامة للنص ويتناص معها، وهذا مما يحسب للشاعرة ، اذ يبعد قصيدتها من ان تكون قد تعدت على النص القراني والمقولة وسرقتهما.
يذكر النص القراني:
"وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ". " يوسف: 23 - 28 "
في هذا الموضع تناصت القصيدة مع سورة يوسف في القران الكريم، تقول القصيدة:
* "لاشيء بعدك احتاج إليه
لا يغريني قميص
إن اقبل أو أدبر
ولا أبواب تغلق أو لا تغلق
فالضوء الممتد إلى الضوء .. حبيبي".
بقد القميص وتغليق الأبواب تناصت القصيدة مع سورة يوسف، حيث القميص الذي " قد من دبر " فان القصيدة لا تهتم بتمزيقه ان كان من قبل او من دبر، لأنها تهيم حبا بالوطن، كما انها لا تنظر للأبواب ان أغلقت ام لا ، لان الضوء يبقى هو الضوء في وطنها كجمال قصيدتها .
التناص الثاني في ابيات القصيدة مع القران هو قولها:
* "أعطيتهم بالأمس متكئاً وسكيناً
فلما رأوك
قالوا حاشا لله ما هذا وطناً
هذا هو الألقْ ..".
ويذكر في القران الكريم:
"فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشا لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًن مِّنَ الصَّاغِرِينَ". "يوسف: 31 - 32".
تتناص هذه الابيات مع القصة نفسها " قصة يوسف" في المقطع الذي تدعو فيه امرأة العزيز نساء المدينة اللاتي لمنها على حبها لفتاها ، فتعد لهن متكأ " مجلسا " وتوزع عليهن فاكهة - يختلف المفسرون بنوعيتها - وتعطيهن سكاكين لتقشير الفاكهة قبل اكلها، ثم تأمر يوسف ان يخرج عليهن، فيعجبن بجمالهه ويقطعن أصابعهن.
القصيدة تؤكد على جمال الوطن وألقه، وحب الشاعرة لجماله وألقه.
* * *
سال مرة الشاعر العباسي "ابو العتاهية" " 747 - 825م". ان كان له معرفته بعروض الشعر ،فاجاب سائله قائلا:"أنا اكبر من العروض" كما يذكر ذلك صاحب الاغاني اذ يقول:
" حدثنا الصولي ، قال: حدثنا العنزي ، قال: حدثنا أبو عكرمة ، قال: " قال مُحَمَّد بن أبي العتاهية: سئل أبي: هل تعرف العروض ؟ فَقال: أنا أكبر من العروض ، وله أوزان لا تدخل في العروض ". " الاغاني ابو الفرج الاصفهاني"
تتناص القصيدة مع هذه الحكاية المنقولة عن ابي العتاهية، فالشاعرة تؤكد انها شاعرة، وعلى الرغم من ذلك فإنها تذكر ان عدم إجادتها الشعر أمام حب الوطن ليس سبة او تهمة تلسق بها، لأنها مع حبها للوطن لا تشعر بذلك، وانما تشعر بانها اكبر من الشعر وبحوره وقوافيه، بل اكبر من كل القصائد التي تملأ الأوراق:
* "شاعرة أنا ..
ولكن ليست محنة كبيرة
أن لا أجيد كتابة الشعر يوما
لأني معك اكبر
من الشعر كله
ومن أبحره وقوافيه
واكبر من كل القصائد المنثورة بين حنايا الورق".
ان شعراء قصيدة النثر وجدوا ما يسد النقص الحاصل من فقدان الوزن والايقاع الخارجي والقافية وغير ذلك في القصيدة وعوضوه باساليب وطرق عديدة ومختلفة منها هذه الطريق التي استفادت منه القصيدة على مر تاريخها الطويل، وهو " التناص " ولكن من خلال تناول جديد يفضي الى ان تكون القصيدة ذات قيمة اعتبارية في ذائقة المتلقي العربي الذي تعودت اذنه على الوزن والإيقاع والقافية.
ثم بعد ذلك جاء التناص كآلية لفحص النصوص لاظهار مفاصل التناص في النص الأدبي، فكانت هذه الدراسة لتؤشر على مفاصل التناص بين النصوص.