ادب وفن

جدار إسماعيل الخياط.. رموز وتخطيطات " / جاسم عاصي

الأزمنة المتحولة

نعني بالأزمنة المتحوّلة، تلك الحُقب التي تحوّلت بحكم بنياتها المعقدة ونشاط عقل الإنسان ومخرجاته الإبداعية إلى أزمنة أسطورية. بمعنى تتغيّر النظرة بتغيّر الصورة، وتتفاعل بدافع طبيعة المنتِج المتعامل معها.

فليس ثمة ثبات في الرؤى، مازال
هنالك متغيّر دائم يطرأ على الواقع بإرادة الإنسان أو بدونه، أي أن كل زمان أسطوري اكتفى بنفسه ليمنح الشكل معنى مركّزاً، أو منقسماً على نفسه لاغتناء المعنى العام. ولعل في هذا تأكيد على وظيفة الأسطورة في النص أو الشكل الفني. أي تصبح لها وظائف متنوعة ومحرّكة لكل ساكن، بما تختزنه من بنية ذاتية متحركة قابلة لمستويات القراءة البصرية. فالشكل الفني تتخلله فنياً مجموعة رموز قارّة ودالّة على رؤى واسعة. من هذا تظهر علاقة الفنان بالواقع عبر التخاطر الحر والتعامل مع المفردة اليومية وتمثلها. ويجري ذلك من خلال المعرفي الذي يحدد المنحى والخطوات والتوجهات،وبالتالي يطلق الإمكانيات الذاتية التي هي البديل المُحدِد للرؤية، أي رؤية الزمان والمكان. ذلك لأن العلاقة تقام على أساس تشكيل وحدة من أرحام وحدات متعددة. هذه الوحدات مشروطة باللون والضوء والظِل والخطوط، ثم الأبيض والأسوّد، والشكل المثير للسؤال والجدل دائماً هو الكيفية. وبالتالي رؤية الأشياء ببصيرة الفنان الحاملة والمستندة إلى ذاكرة غائرة في حراك الأزمنة المتراكمة. هذه الرؤية نجدها قد اصطفَتْ الفضاء الأسطوري كمنحى في التعبير، أو لعكس المعرفة بالأشياء والنزوع الفكري. فجمالية مفردات اللوحة تتأتى من سردها القابل لطرح وجهات النظر، والمحمول على مدار التأويل، بسبب ما تعكسه الموضوعة المرتبطة بالرمز الأسطوري، في كونه حاملاً للمعاني، ومحمولاً على مستويات للقراءة البصرية. فإعادة صياغة الواقع في اللوحة غير مشروط بحرفيته ، بقدر ما مشروط بحرية الرؤى واتساع إمكانياتها الذاتية وممكناتها المعرفية الخاصة والعامّة. إن المعرفة تعمل كضاغط ابتداءً من الحراك الذهني ــــ الذاتي ـــ وصولا ً إلى زمن تنفيذ الأفكار والرؤى على سطح اللوحة. لذا نرى أن تعامل الفنان "إسماعيل الخياط" يتشكل من ممكنات متعددة ، وتعامله بآليات متباينة. غير أنها جميعا ً تعطينا ً خاصية الفنان في تعامله مع الظواهر والأشكال في الطبيعة، وضمن العلاقات اليومية التي يتداول معها كوجود مكاني وزماني. فهو لا يخضعها لمنظور ضيّق ومحدود الرؤى، بل يوسّع من مساحة تطبيقاته . وهو ما نقصد به ـــ التحوّلات ـــ بشكلها العام والجامع. وبالتالي تحوّلات الأزمنة. ونؤكد على اختيار زمان الأسطورة وفعاليته، بما تحتويه الأسطورة من حيوية معرفية، ومختزن من البلاغة في الأسلوب والمعنى. فالنسق الأسطوري مثلاً مكتفٍ بذاته لغة وشكلاً ورمزاً. كذلك إمكانيته في التحوّل والتجاوز للنمط والتقليدية. و"الخيّاط" أمسك بهذه الخاصيّة وعمل على تنشيط مفاصلها نحو الاختيار الحر. فمثلاً نراه قد تعامل مع المرأة، من خلال النظرة الفاحصة والمبدئية الفكرية ـــ الجمالية التي يتحكم فيها مفهوم الثنائية التي تعاملت مع الحضارات القديمة والوجود الإنساني. فهي تارة علاقة تضاد، وفي أخرى علاقة تقارب وتآلف. غير أن خلاصة التعامل تتم من خلال بناء العلاقة الرومانسية مع هذا الكيان. الرومانسية بمفهومها الجمالي، أي بما يضفي على الشكل ومحتوياته رونقاً وبهاءً. إذ يجد في الألوان خير معبّـر عن تلون هذا العالم وبهرجته وبهجته التي تنصّب أساسا ً على الجمال وسمو الطبيعة البشرية الأنثوية، خاصة اقتران الأنوثة برمز الطير في لوحاته. فتحقيق الثنائية يترتب عبر النظرة الإنسانية التي تنعكس في طبيعة الآلية الفنية التي تـُجسد الألوان والخطوط على شكل زخرفي. حيث تصل العلاقة بين الألوان والخطوط والأشكال الهندسية إلى مستوى التناغم الموسيقي الذي يدفعنا إلى تمثل الشكل؛ على أنه تعبير عن هرمونية موسيقية بصرية. خالصة حين نلحظ اختلاط بهرجة الطبيعة المسبغة على طبيعة الأزياء الشعبية في كردستان. وهو محاولة إضفاء مسحة أسطورية على كيان المرأة عبر هذا الشكل من احتفاء الألوان التي تتمثل طقسية خاصة مثيرة وداعية للاندهاش. إن القدسية التي اكتسبتها الأسطورة كونها تعاملت مع الحيوات برؤية تجاوزت النمط الذي هي عليه باتجاه ما يبتكره الخيال، وخلق مكانة خاصة للحيوات، ارتقت بها أفقياً وعمودياً. هذا المنحى في التعبير يؤشر مسألة أساسية في الخلق الفني؛ وهو التعامل الشعري مع اللون والخط بكل أشكاله وهيأته، وبالتالي يكون أمامنا نوع من التخاطر الحلمي ـــ إن جاز التعبير ـــ فالشكل المنعكس على اللوحة هو عبارة عن حلم متدفق يستلم مفرداته من المخيـّال. حيث ينتظم في سردية لونية وخطية متنامية. فالحلم هو الأساس الذي تنبني عليه وبموجبه الرؤية الفنية للواقع وعلاقاتها الخفية والمُعلَنة. فالفنان معنيّ بما هو غير مرئي عبر المرئي أثناء التعامل مع المشهد. لذا نرى ثمة انزياح في ما يرى الفنان، وما تراه عيّنه الفنية، وما نراه نحن كمتلقين. وهو مركز التفاعل، أو الذي يُطلق عليه المعادل الفني. ذلك لأن اللوّحة تعتمد مجموعة رؤى منها أولا ً: رؤية الفنان، وثانيا ً: رؤية المُبصِر لها. فالسطح أيضا ً محدد برؤيتيهما المتباينتين أو المتفقتين والمتقاربتين. ففي هذا يلعب المعرفي دورا ً أساسيا ً في تشكيل الرؤى. فالنص هو واحد سواء وجد في الطبيعة أو ضمن حركة الواقع الإنساني أو هو من محددات رؤية الفنان أو المتلقي البصري. وفي هذا يلعب الحلم ــــ الذي توحي فيه اللوّحة كمحرك ــــ دورا ًمبهجاً عند المتلقي وفي الضفة الأخرى للتوصيل الإبداعي. هذه الحلمية تبرز من خلال تشكـّل بعض الرموز على سطح اللوّحة. ولعل ما يميّز لوحة الفنان "الخيّاط" بروز الحمامة كرمز أسطوري له من العطاء الكثير من خلال دلالاتها في المثيولوجيا كدلالة الطمأنينة والسلام واستشراف الوجود المادي كما في حكاية "نوح" والتوسل بها لمعرفة المستقر المادي الذي ينزع لصياغة عالم جديد، فهي تحتفل ببهجة الحياة، بعد شدّة تداعياتها وتناقضاتها، مما دفع أسطورياً إلى تشكيل نمط من بؤرة التغيير. ونعني به "الطوفان" فهو حاصل تحصيل للذهن المتوقد، الذي يرجّح التغيير وليس سيادة النمط، ونعني به الحياة الجديدة التي نزع إليها نوح مع الجماعة. فرمز الحمامة يقف مضادا ً موضوعياً لكل ما هو قامع للحياة والقاتل لجمالها. وهو هنا لا يستخدمه بقصدية لا تثير التقليدية في الاستعمال، بقدر ما يضعه في الصورة بدوافع العفوية الفنية التي تشير إلى رديف الظاهرة، بتحقيق نوع من التوازن بين المعرفة والخَلْق. يضاف إلى ذلك الحالة التي عليها الألوان وهي تنسكب على القماش. فهي تستقبل بعضها وتتآخى بتلقائية شعرية خالصة، لما للعلاقة الجارية بين تقاطعها وتلاقيها من بناءات دالة على هرمونيتها وانسيابها وتشكيلها للكُتل والامتداد طولا ً وعرضا ً، وبتداخل رشيق دال على تناغم مستوى التلقي عند الفنان لمفردات الطبيعة والأشكال والهيأت. وهذا ينعكس من خلال تمثلها في اللوحة. فهي أقرب إلى المنمنمات والزخرفات الدالة على تناغم لوني معني بطبيعة اللون في علاقته مع الألوان الأخرى المجسّدة لشعرية اللون كما هي شعرية الخطوط. ولعل المخيـّال هو العنصر الأساس الذي يؤدي إلى مثل هذا الخلق الفني. فهو المفجـّر للإمكانيات الذاتية التي تجد لها حيّزا ً للظهور وإبراز ذاتيتها البانية لشكل الحياة من خلال التعبير الأكثر إمكانية في تحقق وتمثل الظواهر المنظورة وإحالتها إلى ظواهر غير منظورة ومستترة في آن واحد. فمثلا ً في تعامله مع الطيور وتواجدها في اللوّحة، فأنه يعتمد على طبيعتها التلقائية في الواقع. ويراعي في ذلك تعاملها مع الفضاء، لذا يكون تواجدها في اللوحة , بمثابة إضفاء جديد مؤثر لحركة الحيوات الأخرى. بمعنى تغدو مركزا ً أساسيا ً لما هو داخل اللوّحة. فالسباحة الفضائية التي عليها الطيور دليل على مثل هذا الإضفاء الحيوي. وبالتالي تشير حركتها هذه إلى ما يؤشر الصراع الدائر في الحياة بين القوى المتضادة التي تترفع اللوحة عن عكسها بشكل مباشر. وما يرفد هذه القراءة، توفر اللوّحة على الأبواب والشبابيك التي هي أيضا ً من مفردات الرموز الدالة على الظواهر, والمؤشرة إلى الانفراج والانفتاح على المستقبل. فهي رموز على الرغم من حيادية دلالتها، إلا ّ أنها تصّب في عمق الظواهر كتعبير فني خارجي مقابل الداخل المليء بالرؤى السحرية التي يسببها الغموض أو الرؤية العميقة أو غير التقليدية.
إن الفنان "إسماعيل الخيّاط" يمزج بين الواقع والخيال، بمعنى أدق، يُدخل الواقع في حقل ومختبر الخيال. وهذا يتجسّد أكثر في هيأت البيوت والمرتفعات الطبيعية ، فهي مزيجة بين الواقع والخيال. تلعب فيها الرؤية الهندسية للأشكال دورا ً في تجسيد معمارها بما يراه الفنان عبر خياله، وبما قرّبه من الرؤية الأسطورية من خلال مكوّناتها. لذا فالطبيعة تبدو أكثر جمالا ً في اللوحة، ذلك لأن الفنان أضاف إلى جمالها جمالا ً آخر وهو يحاول إنشاء عمارته الفنية.

الرؤى المتحوّلة

نرى ومن خلال استعمالات الفنان للآلية الفنية ؛ أنه ينحو إلى لملمة إفرازات الأزمنة ،والاتخاذ من تراكمها، مساحة من اختيار أسس التعبير المتعلقة بتجربته الفنية الواسعة نوعاً وتاريخاً . فـ "الخيّاط" ينتمي إلى مجاميع رائدة في حراك التشكيل العراقي. وله في رصد التجارب الحياتية، وحصراً ما مر بكردستان من أحداث مهولة، دفعه إلى مثل هذا التكثيف في رؤية المشهد. فنحن نجده يحتفي بالألوان وزخرفتها تارة، وزيادة كثافة ألوانها تارة أخرى، ثم نحا إلى إضفاء الجمال على الطبيعة من خلال تجميل سفوح المرتفعات بما تنتجه الرؤى الفنية بالتضامن مع الفنان "صالح النجار" ومحاولة كسر نمط السكون باستنطاق الحجر نجده أيضاً ينحو لأرخنة الوقائع. ولكن السؤال الموجب هنا: لماذا يكون مثل هذا الفعل الآن؟ لا يجد جواباً، سوى في الملَكة الذاتية. وحسبي أن المبدع يعيش بين ظهراني الواقع والتاريخ وحصراً لا يستطيع التخلص من تأثير التاريخ على ملَكته، لأنه المتحكم لا شعورياً بالواقع الحاضر. لكنه لا ينقاد إليه عشوائياً. بمعنى التبصّر في مجرياته، والاحتكام إلى معارفه. كل هذا يشكّل مختبراً لصياغة مسار جديد ترتضيه ذائقة وملَكة الفنان بطبيعة الحال.
أما في مجال البناء الفني، فأنه من خلال مجموعة المعاني المضمرة، التي تتسابق في أخذ حيّزها في الشكل المفترض، نراه يعتني بالمكوّنات الفنية للوّحة. و"الخيّاط" ممن يستحضر تلك المفردات ، لأنه يتعامل مع ذاكرة لابد لها من النشاط في مجالات عدّة. وهذا ما نطلق عليه؛ جدلية الإبداع، في كوّنه يستخدم كل الوسائل والرؤى لغرض تحقيق ممكنات واضحة ومعبّرة. ولعل اللوّحة عنده ، مستكمل أكيد لوضع التجربة قيد الحراك في التعبير. فهو ــ ومن خلال ما وجدنا ــ يعمل على استقلال اللوّحة الواحدة ، باعتبارها وحدة فنية غير أنه لا يُبعدها في مجال حراكها الداخلي عن ما سبقها أو لحقها. ونقصد فيه استعمالات الرموز، بل يبقيها على اتصال دائم وجدلي، تتحكم فيه الرؤى المتعددة التي تنتج إبداعاً. فهو باستعماله لهذه الرموز وعلى هيأت مختلفة، يُحقق عنصر الإبداع على سطحها. فالرمز عنده حالة متحوّلة في النسق والمعنى.
ما نريد أن نقوله بشأن التحوّلات في لوّحة الفنان ؛ هو المتحقق الأسلوبي. ونعني به أيضاً طريقة التعامل مع المفردة، سواء كانت تاريخية أو أسطورية. فهو بتحويله الواقعي إلى أسطوري، إنما يستعين بالممكن من المعارف من جهة، وبالمتوفر المسبغ على رموز بيئية من جهة أخرى. ورموزه تخضع لرؤى قارّة، كذلك إلى ما هو متحوّل لنسقها ضمن رؤى الفنان ورؤى الآخر. وذلك في علاقتها الأسلوبية داخل النص التشكيلي. من هذا نرى أن الفنان يجنح إلى وضع مجموعة في كتلة واحدة. تؤدي كل مجموعة وظائفها تارة وتندمج ضمن الرؤى العامة للتعبير عن الكل الفكري تارة أخرى. بمعنى يكون الفنان على مستوى التعبير قد دمج الجزء بالكل، وقرّب الرموز من أجل كشف الظواهر. وتعبيره موصول بمجموع الخطوط ذات الصلة المعبّرة والمشكّلة للنماذج التي تقودنا إلى الكيفية التي يستثمر من خلالها الخيال باعتباره العنصر الأهم والدافع لفتح آفاق جديدة أولاً ضمن حقله التشكيلي، ثم تعميق بنية المعنى في اللوحة ثانياً. وفي هذا أيضاً يستفيد الفنان من التاريخ لسرد حراكه. ولكن ــ وكما أكدنا ــ عبر استعمال أساليبه في تشكيل تاريخية اللوّحة عبر معانيها.

 البنى المشكِّلة للوّحة

يعتمد الفنان في تشكيل بناه الموضوعية على ما يتداعى في الذهن من صوّر وأشكال دالّة على ظواهر. وهذا ما تكشفه الإشارات والعلامات ذات الصلة بالبنية التاريخية، التي هي حاصل تحصيل للرؤى المتعددة والتراكم الكمي النابع من التجربة وتاريخ البيئة. فـ "الخيّاط" عاش أزمنة متعددة، ومناخاً تختلف فيه الإيقاعات الاجتماعية والسياسية.

ولأنه ينتمي إلى الفن، ومن الفن وحده يبدأ التعبير عن المعاش، لذا كانت رؤاه نابعة من توظيف الرموز والإشارات، أو ما يُطلق عليه العلامات القارّة، أو التي اصطلح على دلالاتها الاجتماعية والسياسية والفلسفية. وغيرها مما أنتجته المنظومات التي تتحكم بمثل هذه الرموز القارّة. ذلك لأن الاختلاف بين منتِج وآخر هو في الكيفية التي يتعامل فيها مع ثباتها الدلالي. بمعنى التعامل مع الرمز ــ وهذا يخص التحوّل في بنيته ــ من خلال تجديد العلاقات القائمة، سواء على وجود الرمز لوحده، أو وجوده مع غيره. وهي نوع من البلاغة، كما هي بلاغة الأبيض والأسوّد، كذلك الضوء والظِل وعمقهما الدلالي. و"الخيّاط" يتجاوز دلالتها الثابتة من خلال رؤيته إليها تارة ورؤيته للواقع والتاريخ تارة أخرى، مما يدفعه لخلق علاقات جديدة تنتج منظومات جديدة توظف الرمز لصالح المعنى المراد التعبير عنه. وهذا متوفر في تخطيطات الفنان المحتشدة بالرموز، والزاخرة بالعلاقات والابتكارات الرؤيوية، بما يحقق استدعاء للتاريخ باعتباره المركز الدافع لحضور مثل هذه الرموز وهذه العلاقات وبالتالي المنظومات متعددة المستويات. وهي في معظمها علاقات صراع وتضاد. وهذا ما أسفرت عنه صفحات التاريخ العراقي، وتاريخ بيئة كردستان.
إن العلاقات البنيوية المتحكمة في سطح اللوحة، تؤكد طبيعة الصراع من خلال تداخل هذه الرموز وإنتاجها للعلاقات الجديدة. فإذا كانت في معظمها علاقات تضاد، فأن بعضها الآخر يوحي بالألفة والتقارب. أي ثمة مستويين من الصراع، تؤشر إليه أقطاب تتشكل من خلال اصطفاف الجنس أو النوع. فهي تؤكد تواؤماً دائماً كمفردات وجماعات كالطيور مثلاً. وفي المقابل ثمة تكتل آخر لمنظومات مضادة، لكنها وحسب وجودها على السطح تشكل تضاداً مع ذاتها ومع الأخر من الرموز. وهنالك إشارات بنيوية لتحوّلات بشرية، مقتربة من منظومات متوحشة أو مسوخ وتشوّهات، وهي إشارة إلى الشكل الذي تنتجه المجموعات البشرية إزاء الصراع الدائر في التاريخ. إن الحركة التي تظهر عليها الأشكال دالة على غنى تاريخي من خلال استقبالها لمثل هذه المنظومات التي حفلت فيها الحُقب المعاصرة، وسط بيئة معقدة مثل كردستان. لذا نجد الفنان يستل من هذا التعقيد جل مؤشراته، معتمداً على تراكم الرؤى في ذاكرته. إن الذاكرة تعمل بنشاط داخل محتوى اللوّحة، مما يضعنا وسط كون ضاج يتطلب التأمل في مثل هذا المحتوى المعيشي المعرفي. ولعل الحياد منتف في طبيعة ما يدور في مضمون اللوحات. الحياد فقط مؤكَد بين أطراف المنظومة الواحدة. وطبيعي هو حياد بان ومشيّد. بينما نجده في المنظومات الأخرى حياداً مهدِّماً ومصادِراً.
الرموز و الرؤى الأسطورية

يبدو لي إن الفنان "الخيّاط" يجد ضالته في الرموز التي أشرنا إليها ، والتي شكّلت بتواؤمها وتضادها منظومات ذات دلالات فكرية . وكما أشرنا أيضاً الى أن هذه الرموز القارّة اتخذت لها دلالات وابتكار وجودها من خلال ما خلقه ذهن المنتِج . والذي اعتمد على المخيّال الفني. فهو قادر على صياغة مستجدات الرمز حسب موقعه وعلاقاته مع الرموز الأخرى. وفي لوحاته يوظف رمز الطير والسمكة . وهما رمزان أسطوريان دالين على النماء والخصب. فالأول يرتبط بالفضاء والعُلّيات وبالتالي بفضاء الحرية والدلالة المثيولوجية ، وحصراً الدينية منها . والثاني يرتبط بالماء ، فهو أيضاً يستمد حيويته من حيوية الحاضنة ، سواء في جريانه أوتبدّله، أو من أصوله الأولى للنشء ــ كما هو في قصة الخليقة البابلية / أنو ماليش من هذا نجده يتعامل مع هذين الرمزين من خلال الاشتقاق . أي تكييف الرمز للظاهرة عبر خلق مجالات حيوية أخرى نستدل عليها من بين العلاقات البنيوية كما أشرنا. كما وأنه يتخذ من رمز الحيوان المفترس رمزاً لتأشير الظواهر السلبية والمضادة لقوى الخير عبر التاريخ كالذئاب وصوّر الحيوانات المتوحشة التي ابتكر أشكالها وركّبها وفق منظوره لمثل ذلك الصراع الدائر في التاريخ. كذلك رمز آخر من خلال تركيب هجين بشري حيواني ــ مسخ ــ . وقد أراد من خلاله الإشارة إلى ظاهرة اجتماعية سياسية في التاريخ ، خلقتها الظروف آنذاك . كل هذا حصل بطرح معادلة بنيوية استطاع من خلالها أن يستبدل مواقع الرمز ليمنحه دلالة جديدة . وكما قلنا بصدد الرمز الأسطوري ، كونه يتجدد إذا ما توفر له مستدع ومستعمل له قابلية التصرف ، بما يمتلكه من رؤى دافعة لاستدعاء الرمز في الوقت المناسب ، والتصرف فيه بذات الوقت المناسب أيضاً. فالحيوية للرمز لا تتوفر إلا من خلال خلق مجاله الحيوي. ولا يتوفر الفنان على هذا المجال ، إلا إذا كان ذا معرفة وثقافة أسطورية . فالأساطير تتطلب ذهناً مشبعاً وعقلاً منتجاً ، ومخيالاً مرتوياً بدقائق المعرفة ؛ المعرفة المنتجة غير التقليدية . فلو نظرنا بدقة إلى ما توفرت عليه تخطيطاته لتوقفنا على الكيفية المعالِجة فيها . بمعنى العلاقات المنشأة بينها ، وليس في ذاتها كرموز. تعددت الرموز في تخطيطات الفنان، لكنها بتوفرها على علاقات متغيّرة اكتسبت حيويتها وعمق دلالاتها . والرموز هي "الطير، السمكة ، الأقنعة ، الشكل المركب ، الأشكال الهندسية" ولعل لكل من هذه الرموز منظومته ودلالاته الأسطورية أو المثيولوجية بشكل عام . وقد استعان بها الفنان ليؤكد ما يدور في ذاته من تصورات للواقع والتاريخ الذي صاغ وجود الإنسان على مناح عديدة . لكن الأساس فيها والبارز ، هو القهر والطرد والملاحقة. ولأنه يصوغ رؤاه عبر مجسّات فنية ، ارتأى أن يكون حراكها الذاتي كرموز مكتفية بذاته، ثم ما تتوفر عليه من علاقات تضاد وتوافق قد حقق رؤى جديدة . فالرمز في لوحاته لا يكتفي بذاته من حيث الدلالة . بمعنى لا يبقى ساكنا ً معنى ودلالة ، وإنما يقابل رموزاً أخرى ، قد تخالفه في المعنى والدلالة ، لكنه يُقيم معها مثل هذه العلاقة من أجل إضفاء حراك جديد ، ينّم في كل الحالات عن صراع متضادات . إن مجرد اختلاف في حركة الرمز في اللوحة ، مقابل حركة الرمز الآخر ، تنبثق علامات جديدة . فالتعبير هنا قد تم من خلال مثل هذا الانضمام والتواجد على السطح من جهة ، ومن قوة ذاتية الرمز في مقابلة الرمز الآخر من جهة أخرى . ولعل رمز الطير أكثر جذباً لبنية التصالح مع العالم ، وأوفر قدرة على تحقيق معنى التوالد والنماء كما هو رمز السمكة . فحين يكون ثمة توقف في حراك المعنى ، بمعنى سيادة رمز الوحشية والقسوة ، يكون رمز الإخصاب أكثر وجوداً وفعالية بسبب موقعه على سطح اللوّحة ، الذي يشكّل وجوداً فاعلاً. ولعل سردية اللوحة دليل على مثل هذه الرؤية في تنفيذ عوالمها . فالمسرود عبر الخطوط ، والبياض ومساحات الفراغات ، هي مجالات تعبير واضحة في كشف البنية الفكرية التي تنّم عن سرد واضح في حياديته مع رموز الخصب ، وغير محايد مع الرموز الأخرى . وهو دليل على موقف فكري خالص.