ادب وفن

الاغتراب والهوية الثقافية / سعدون هليل

الاغتراب مفهوم فلسفي يمكنه أن يتضمن معاني مختلفة، كما يمكن أن يتم استخدامه استخدامات عديدة قد يبدو بعضها مناقضا للبعض الآخر. ولكن هذه الاختلافات في معاني المفهوم ودلالاته قد تنبع من طبيعة الجماعات الاجتماعية التي يستخدم ذلك المفهوم حيالها. وعلى حد تعبير ايزابيل الليندي:" حين بدأت كتابة الرواية لم أكن أفكر بشيء سوى ان أقوم بفعل ما، لأجلي، لأنني حينما غادرت وطني تركت كل شيء، أصدقائي، بيتي، وعملي كصحفية. وعبر سنوات كثيرة كنت شجرة مقطوعة الجذور، كنت اشبه بالمشلولة، يتملكني إحساس أنني وحيدة، ولابد لي ان اعثر على جذور ثانية، وكان السبيل الى ذلك هو ان اكتب كل شي".
المثقف المغترب يتم تبرير وضعه غالبا على أنه رافض لمجتمعه. وليس تمحلا القول ان كبار المثقفين مغتربون عن مجتمعاتهم وقوانينها. ورغم التناقض والقلق فان الابداع الثقافي هو قدرة العقل على تكوين علاقات جديدة من اجل تغيير الواقع، وبما ان اغتراب المنظومة الاجتماعية عن تاريخها وصيرورتها لا يتوفر على هذا المعنى، ففي هذا الأخير معنى للاندحار والتخلف. وعندئذ تبرز الهوية كأزمة من صميم الوجود المتخلف ذاته وليست عرضا طارئا يمثل مرحلة انتقالية كما هو الحال في المجتمعات المتمدنة الصاعدة، أن هذا التصور الزائف لمعنى الهوية، عنوانا لازمة أعمق وجدت فيها ميدانا او مجالا حيويا لفحص أو إعادة فحص مكونات الوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي، او بحثا عن البدائل او حتى لاعتبارات حماية الذات الجماعية من خطر ما. وبتعبير الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر: ان "التغييرات الجذرية لها ضرورة تاريخية، وهي تحدث بإحدى الكليتين، أما عن من الأسفل الى الأعلى ثوريا، وإما من الأعلى الى الأسفل بتأثير أفعال مستبدة تقوم بها المؤسسات والنظم القائمة ورجال الدولة ".
لكن المأزق يتجلى بالمنهج والنموذج، كلا المجالين متكاملان ومترابطان وخاصة في البحث الجاري الآن لإيجاد مخرج لازمات الوجود الآخذة بخناق الناس والمجتمعات والدولة، ونعتقد وفق هذا السياق أن اعتبار ازمة الهوية كما تعبر عنها السجاليات الاعلامية والثقافية عنوانا لإعلان فشل مشروع الدولة الوطنية، وبهذا الصدد نتفق مع اطروحة المفكر الماركسي د. سمير امين القائلة " ان البحث عن الهوية هو إشارة دالة على أزمة مجتمع فاشلة في مواجهة التحديات الحقيقية، فالتاريخ يثبت ان المجتمعات التي نجحت فعلا في التطور، تكيفت وغيرت هويتها ومن غير تساؤل احيانا عن هويتها الاصلية، فالتساؤل عن الهوية عرض من أعراض الازمة والتأزم والمأزق، فقد فشلت تلك الدولة مثلا في ترجمة الاستقلال السياسي الى نوع من الوجود القانوني في ادارة المجتمعات فضلا عن انتقاص هذا المفهوم ،الذي استخدم لصالح شرعيات لازمة قبلية وطائفية وفئوية لم تستطع ولن تستطيع انشاء العقد الاجتماعي الضروري وأجازت لنفسها عوضا عن ذلك الاستفراد بشعوبها وافتراسهم تحت مسميات السيادة والاستقلال، لكن لابد لورقة التوت ان تسقط وحالما سقطت ، ظهر المخبوء بأكثر مما كان يعتقد من الانحطاط والفساد والتشوه، ك?ا ان البحث عن الهوية او ازمة الهوية يرتبط الان بدلالة رمزية آخذة بالتخلق الواقعي والصيرورة الاجتماعية متمثلة في ارتخاء قبضة الاستبداد السياسي والذي تحكم بمسيرة الحياة والعمل العام والحراك الاجتماعي طيلة قرون طويلة في الزمان، بتعبير ماركس في" المخطوطات قائلا "اغتراب موضوع العمل يلخص فحسب الاغتراب والتسليم في نشاط العمل نفسه"، ويتساءل ماركس قائلا:" ان هذا العامل لا يحقق ذاته في عمله وانما ينفيها، لا يشعر بالارتياح. بل بالتعاسة، لا ينمي طاقاته البدنية والذهنية بحرية، وانما يقتل جسده ويدمر ذهنه"، تلك الكتابات ?لكثيرة في تعريف الاغتراب والثقافة في حدودها وعلاقتها بالمدينة والحضارة، وليس ذلك ناتجا عرضيا لأزمة البحث عن الهوية قدر ارتباطه بنفس الازمة. والمثقف قبل كل شيء هو المبدع وهو الذي يعمل داخل طبقات المجتمع، كما قلنا بالنموذج والمنهج المادي للتاريخ، والتي تؤول مسؤولة التفريغ فيها والتفكيك واعادة الترتيب للنخب الثقافية المحترفة باتجاه محصلة عامة في بلورة المفاهيم والمصطلحات، ويجب الحذر من الصياغات النظرية والمفاهيمية معبرة عنها ومتجاوزة لها بنفس الوقت، وقد تبدو هذه الفكرة شديدة المعيارية أمام أفكار تحكمت، في زمن ما بمسيرة النوع الإنساني وبخاصة في البناءات العميقة للنظم السياسية وصراعات الأمم النيتشوية والنازية والفاشية والبعثية.
على سبيل المثال، كان هايدجر من كبار مفكري القرن العشرين، وكان في الوقت نفسه نازيا. ان المثقفين بإجمالهم ـ هم الأكثر قدرة على استبصار المستقبل، وهم الذين يمتلكون أدوات الفكر التنويري والمعرفي وبإمكانهم أن يوجهوا هذه الأدوات باتجاه منفعة المجتمع أن انتهجوا منهجا مغايرا للنهج الذي لا يولد غير الانحطاط والظلام او حمامات الدم. والتغيير يحتاج الى ثقافة وفلسفة ورؤية وتجرد من العاطفية والطائفية. وعلى العكس من هذا الفرض فان معالجة الثقافة العقلانية لهذا الانتهاك ينهض مرة اخرى دليلا على قدرة العقل الصانع، في محاصرة الافكار والممارسات المخالفة للمنطق الداخلي للصيرورة الحداثية.
اما الخطاب العراقي الجديد فأرى ان يكون المثقف فيه عقلانيا وتنويريا او لا يكون. هذا هو السؤال، لكن المشكلة على الجانب الآخر مختلفة تماما والملحوظ الايجابي الوحيد انه لا يمكن للوجود العربي الانساني والمفاهيمي، ان يتكيف بعد الان مع هذه الكمية المخيفة من القوانين العشوائية والمجانية الظاهرة.
المشكلة الان هي البحث عن مخرج لهذا المازق واعتقد ان الازمة هنا على العموم باستثناء مشكلة التعريف هي مشكلة الحداثة ويكفي لوصفها مشكلة أن تعريفها ذاته ما زال الى الآن لم يصل السقف الضروري لأي اجماع نسبي يمكن أن تنطلق بعده طاقات النخب السياسية والثقافية نحو بناء مجالات التنمية والحرية بيد ان ما يدور الان يستعير في كثير من الاحيان قوانين الوجود الناقص الذي يحاول هو ذاته تجاوزها، عندما تتشظى بشكل غير منهجي المفاهيم التي يفترض اتساقها وجمالياتها نحو منحدرات مثل سؤال الاصلاح من الداخل ام من الخارج؟، اعتقد أن قوانين الابداع الثقافي والفكري والسياسي المؤمنة في اعماقها بضرورة بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي يؤمن بالتنوير وبناء الدولة العلمانية. وبهذا المعنى يقول المفكر الشهير غرامشي:"الوعي الذاتي للناقد يعني تاريخيا وسياسيا، خلق نخبة من المثقفين، فالكتلة البشرية لن تتميز، ولن تصبح مستقلة بفعل ذاتها من غير تنظيم بالمعنى الشامل، وليس هنالك تنظيم بلا مثقفين، "فدور المثقف في صياغة ضمير الفرد والمجتمع في بناء مجتمع ديمقراطي، ضد التخلف والطائفية في مرحلة البحث عن البدائل الان غالبا ما تواجه النخب الثقافية مشكلة اختراق النظم ا?استبدادية في احتكار الثروة والسلطة والدين. وتجدر الاشارة الى ان الديمقرطية هي مطلب اساسي من اجل التنمية ومن اجل نظام يحمي كرامة الإنسان.
أخيرا: ان المستقبل رهين بالارادة الديمقراطية والقوة المدنية والعمل بمصالح المجتمع دون التضحية بالفرد مبتعدا عن أستار اللغة ومتاهة التأويل تمهيدا لانسنة المجتمع.