ادب وفن

التكثيف.. واصطفاف المعاني / جاسم عاصي

في النص القصصي, تلعب المفردة كشفرة لغوية دورا ً في إظهار المعاني وإخفاء وتأجيل بعضها. فهي تضمر أكثر ما تبوح به مباشرة من معان, مكتفية بما تبثه من خلال متوالية التراكم, مؤجلة حالة ربط المعاني التي يكفلها اصطفاف المفردات والجمل بتداخل سردي, و التي سيكشفها سياق النص. ولعل هذه المفردة أو تلك, هي جزء من شفرة الجملة القصصية, التي تتواصل في كشف مفاصل القصة, عبر النسق اللغوي, حيث يلعب الزمان والمكان دورا ً في الحبكة القصصية, بما يؤشر انه من مشاهد تساعد على عكس البنية التي شـُيّد عليها النص. وبذلك نكون أمام واقع لنص تتحرك بنياته على كل المستويات, من أجل لملمة الأجزاء في خط سردي يساعد على بناء الشكل العام للنص, وبالتالي يشكل البنية الفنية له. فالتصرف بالزمن, سمة فنية تتعلق باللغة أساسا ً ,لأنها تحتاج إلى دقة في الاختيار للأسلوب والصور والتراكيب, لكي تكون هذه الآليات خير معين للنص في بلوغ تشكيلاته. وما المعنى العام سوى حاصل تحصيل للتراكم الكمي وإن اختلفت مفردات بنياته. غير أنه بالنتيجة, متحقق, تشير إليه كل البنيات مجتمعة.
في نص القاص «سيامند هادي» الموسوم «رحيل الأم الكبيرة في الثلاثاء»؛ يبدو للوهلــــــة الأولى نص يكشف عن محتواه من خلال العنوان الدال على رحيل الأم. في كونه سيحكي حدث موت الجدة. وهو حدث محفوف بالطقسية الأ ُسرية والاجتماعية الصغيرة, وبالمراسيم العاكسة للحزن. غير أن ما نلحظه, هو غير هذا تماماًً. فالذي حصل في كل مسار النص, هو الكيفية التي تعامل السارد في حدث كهذا. وكيف وضعه موضع الدلالة, وذلك بربطه بمجمل الأحداث السابقة واللاحقة, ثم كيفية المعالجة، وهل يمكن من خلال خبر الوفاة أن يفتح أبوابا ً لنفاذ الأشياء التي تعتمل في ذهن وذاكرة النموذج «الحفيد»..؟ فالنموذج تعامل مع حدث موت الجدة تماما ً كما فعل «ميرسو» في رواية «الغريب» لـ «البير كامو». فهو قد وظـّف الحدث وأشتغل عليه من مبدأ فتح المنافذ. وذلك بفتح الآفاق أكثر كي تستقبل فضاءات جديدة لتطوير نواة النص, ومحاولة النسج حول حدث كهذا, بما لا يلغي البنية العامة له. تبدأ القصة بجملة قصيرة مفادها:
«فجأة وفي تلك اللحظة التي أخبروه فيها النبأ» وكما هو متوقع, كون السرد يعمل على كشف محتوى النبأ.
غير أن ما هو حاصل أن تكون هذه الجملة قد انفتحت على عوالم شغلت ذهن النموذج, مسرودة من خلال ذهن السارد المراقب, والذي يحاكي الحركة الذهنية للنموذج ويتماثل معها سردا ً ووصفا ً. وهنا لابد من الإمساك بمفردة «النبأ», لأنها اشتغلت داخل النص بحيوية واضحة، فالتورية المرافقة لبث الخبر غير المعروفة معالمه, والذي أشتغل السرد على إضماره؛ شكـّل نواة القصة. وبذلك كانت مراقبتنا في القراءات اللاحقة للقصة, رصدا ً لتأثير هذه المفردة وما تختزنه من صور, على مجمل بنية النص, لأنها ارتبطت بإشارات أخرى من هذا النوع, حاولت أن تكشف وتخفي في نفس الوقت وبحرص شديد على أن لا يتكشف الأثر والتأثير بسذاجة سردية ووصفية, مما يفسد العلاقة القائمة داخل منظومة النص نسقا ً ومعنى. كذلك في تحجيم إمكانية حصر الدلالة, في دلالة مكشوفة وميسورة.
في النص نحن أمام مواجهات عديدة، نحاول الإمساك بها, كي تسوقنا إلى مانرمي إليه من كشف لدور المفردة باعتبارها شفرة لغوية تفتح آفاقا ً فيما لو وضعت في المكان المناسب أولا ً, وبتوفر ألإمكانيات في اللعب بعلاقاتها مع غيرها . ولنأخذ مفردة «النبأ» هذه وتوفرها في النص, والنظر إلى ما وفرته من إمكانيات في توسيع الأفق داخله. فإذا كان النبأ الأول قد خبأ حدثا ً وفتح أفقا ًواسعا ً كي نتمرآى بسطحه, نلحظ أن المفردة قد كشفت لنا مشهدا ً آخر غير الذي نتوقعه كالآتي:»كأنه عابر سبيل يتخطى خطواته مشغولا ً بتنظيف الشباك الذي يطل على الزقاق»، كما وأن المفردة المشحونة بالخواطر قد أحالته إلى مشاهد أخرى تضاف إلى مشغولياته في تنظيف زجاج النافذة، الذي هو بدوره فتح آفاقا ً جديدة للعالم من الخارج عبر التطلع من خلاله. وهي عادة يمارسها, ومارسها أثناء تلقيه نبئي الوفاة للجدة والابن, ولنفس المـُخبر.
إن النموذج كان قد عرف فحوى النبأ, لكن السارد كان قد أخفاه عنا, لتأكيد بلاغــــــــة السرد, فـ «ميرسو» وهو يتلقى خبر موت ألأم، عمل على أن لا يفعل شيئا ً خارج دائرة مراسيم الحزن على الفقيدة «اليوم ماتت أ ُمي, هذا ما قرأته». بمعنى فتح آفاقا ً جديدة أستنهض من خلالها ما هو خارج وداخل الذات. وكذا فعل سارد «سيامند», فقد فتح أبواب الذاكرة لمشهد أوسع, أحتوى مجمل العلاقة مع الجدة. لكن النموذج انتابته حالة إنسانية واحدة, وهي ضياعه في الوجود لدى سماعه النبأين, نبأ موت الابن ونبأ موت الجدة, بالرغم من تباعد حدوثهما. وكون الثاني كان سببا ً لتذكر الأول:
«وفي لحظة سماعه النبأ أحس بذلك الضياع ثانية» أي نبأ موت الابن وموت الجدة, لما لهذه الثنائية من تأثير عليه. ومن خلال مستويين من العلاقة؛ الأول: علاقة الجدة بالحفيد والثانية: بعلاقتها مع الحفيد الثاني. وهذه العلاقة انبتت وافترقت من خلال الحكاية وتأثير بنيتها على الاثنين, لأن مشغولية الجدة روي الحكايات.
المسألة الثانية التي أثارها النص؛ هي وصية الجدة بخصوص المحافظة على الممتلكات. وهذه الوصية قد تبدو دلاليا ً تشتغل على السطح في عكس المفهوم السياسي والاجتماعي, غير أني أرى غير هذا، بدليل انفتاح هذه الوصية على آليات وممارسات متقابلة مع طبيعة ما تعنيه الجدة بالممتلكات, خاصة ما كان يـًظهره الحفيد الثاني أمام حكاياتها. فالأب الذي هو الحفيد الأول, نراه لا يعير أهمية لمثل هذه الوصية, لكنه يسقط تحت تأثير عقاب الضمير في ما فعل:»كانت ذكرياتها تلاحقه لحظة بلحظة, كان يتحسر دوما ً, لأنه لم يتمكن من الحفاظ على الممتلكات, ولم يعرف كيف وفي طرفة عين ضاعت تلك الممتلكات؟!!».
وفي ذات الوقت يـُسقط الخطأ على أفعال أبنه التي ضيعت ــ باعتقاده ــ ممتلكات الجدة, وهو نوع من الشعور بالذنب, إسقاط العقاب عن الذات التي تعاني من تصدع وقعه وضغطه. حيث تجسدت الصورة بكثافة في نظرة الحفيد وهو يماثل صورة الجدة بصورة الابن, محاولا ً أكساء صورته بالبراءة. فالتذكر للجدة لم يتم إلا ّ بربطه بصورة الابن, تخلصا ً من عقدة الذنب. فصورة الابن أكثر عذرية وبراءة من صورته. فالصورة أو الإطار المكاني يشكله على أساس حركة الابن:»كان ينظر إلى الغرفة كل يوم، وكأنها أجزاء من صورة وجسد جدته بعد موتها».
ولعل الأفق يتسع في مشهد ما يراه الحفيد, لاسيمّا من ظلال المخلفات للجدة. فهو يربط كل الأشياء والمشاهد بوجودها, كذلك يحاول أن يماثل صورتها مع الابن:»بعد موت جدته لم يكن يتوقع, بأنه كلما دخل أبنه رأى خيال جدته, وهي تخرج من الغرفة. وحينما يقف في الغرفة، كان يرى أشياء وحاجات جدته مبعثرة كما كانت جدته قبل موتها. لم يدرك لـِم َ كلما تأمل فـــــــي إبنه يرى صورة جدته في ملامح وجهه ..؟!».
من هذا نرى أن وصية المحافظة على الممتلكات, دالة على البـُعـد المعرفي للموروث, الذي ترى الجدة حاجة الأجيال له لتخصيب ثقافتها وهو تجسيد لصراع الأجيال السلمي، والمنبني على المعارف والثقافات, لاسيّما إذا عرفنا أن الجدة حكـّاءة من الطراز الجيد, بما كانت تبثه من حكايات للأب والابن وهو دال على تعلقها بموروثها, التي حاولت أن توصله لمن حولها, باستخدام سلطة الحكي. وبالتالي اتخاذها موقع الناصح المنبه إلى تفادي الوقوع في الخطأ جـرّاء الابتعاد عن الإرث المعرفي المجسد بالحكاية. لذا فإن أمر المحافظة عليه, يعني في مجمله المحافظة على الوجود, في عدم قطع الجذور. وبذلك كانت معاناة الحفيد بسبب ضياع الممتلكات التي تشكل موروث الجدة, وبالتالي موروث الجماعة ولأسباب يجدها قائمة في ذاته ممثلا ً لجيل أبتعد عن حالة ربط الحاضر بالماضي.
ومن المسائل التي أشرتها القصة؛ هي دلالة الأيام «الاثنين والثلاثاء» التي وردت في النص لتأشير يوم الوفاة والمساءات. فالاثنين إشارة إلى ثنائية العلاقة بين الجدة والحفيد فبعد سماعه النبأ الذي لم يفصح عنه السرد أخذت إنثيالاته تتخذ لها مجرى يخص علاقته السلبية والإيجابية مع الجدة. وهي نوع من محاسبة الذات على ما فات, أسوة بضياع ممتلكات الجدة. فعـُقدة الذنب تلاحق ذات الحفيد وهو في أشد حالات حزنه على ولده الذي مات بسبب الإهمال المتعلق بالجدة أيضا ً، هذه المتابعة النفسية للنموذج, هي السمة الواضحة في النص. فهو يؤكد على جملة هموم سبّبها سلوكه العاكس للعلاقة غير الإنسانية مع الجدة:»في سماعه لأول كلمة, أستذكر ظهر ذلك اليوم الاثنين, عندما تاه عن جدته بين حشد الناس فـــي سوق المدينة, وعندما أدرك بأنه أمسك بعباءة إمرأة أخرى تخيـّل بأنه في صحراء جرداء أنسته كل الدنيا. وفــي لحظة سماعه النبأ أحس بذلك الضياع ثانية».
وبصدد معاناته بفقدان الجدّة جرّاء الإهمال يؤكد:»وفي ذلك اليوم الذي ودعتهم الجّدة إلى الأبد, وبعد كل ذلك الإهمال, شعر بذنب كبير, وأدرك حقيقة إنهم لم يستطيعوا أن يهتموا بها, ويصغوا إليها وبعد موت الجدة, كانت ذكرياتها تلاحقه لحظة بلحظة.
أما «الثلاثاء» فإنه يوم يؤشر العلاقة بين الثلاثة «الجدة والحفيد والابن للحفيد», وكان الحفيد وأبنه قد ارتبطا بالجدة عبر سرد الحكاية فهي المؤشر الذي يدل على قوة العلاقة بين الأطراف الثلاثة. فالحفيد تربى على حكاية الجدة:
«لم تستطع الجدة أن تعيش بدونه, وكانت تحب أن تروي له حكاياتها»، بينما نجد الحفيد الأصغر يقابل حكايات الجدة بما كان يمتلكه من معرفة جديدة, يعتبرها تختلف عما تضمره وتبشر به الجدة عبر حكاياتها. وهذا يفسر مظهر الصراع بين الأجيال فمنها المحافظة على القيـّم الموروثة, الأخرى التي ترفضها, أما ثالث الأجيال الذي يمثله الحفيد الأب, فإنه متأرجح ولم يتخذ قرارا ً. إن ما يهم هنا هو الحفيد الثاني الذي يقابل الجدة بما يمتلكه. إذ نراه لحظة سرد الحكاية له يقول للجدة:»وحين تروي الجدة الحكايات لحفيدها, تقف هادئة على أحداث الحكايات, لكــن حفيدها يكـــون منشغلا ً باللعب بـ «الميكانو» ويصنع أشياء كثيرة.
ولم يكن ليهتم بحكايات الجدة».
وفي موضع آخر, نجده يوضح موقفه علنا ً أمامها, أو أزاء الحكاية التي انتهت من روايتها قائلا ً:»في هذه الأثناء رفع «حفيدها» بضع قطع من الـ «الميكانو», وقال لجدته:»جدتي أتعجبك هذه الطائرة التي صنعتها»؟!.
وفي هذا إشارة الى مبدأ الاختلاف بين الجدة والحفيد الصغير, باعتبارهما يمثلان جيلين. فإذا كانت الحكاية ترمم النفس الإنسانية, فإن صناعة الموت عند الطفل دالة على صنع آلة للفجيعة. وهي إشارة إلى الحرب.
ناهيك عن المفارقة التي تـُحدثها الأيام الاثنين والثلاثاء, من إثارة واستنهاض الكامن عند كل الأطراف لأنهما يرتبطان بالموت حصرا ً. فكلا الميتتين للجدة والابن كانتا يوم الاثنين, وأمسية الثلاثاء تلقـّى الخبر وممارسة تنظيف زجاج النافذة, وفي يوم الاثنين ضاع الحفيد عن الجدة في زحمة السوق. كل هذه الإشارات لم يكن وجودها عفويا ً داخل النص, بقدر ما تضمـّن دلالات خاصة.
تبقى طبيعة الحكايات وأنساقها التي هيمنت على النص, فإنها اغتنت بالدروس والعـِبـَر, وكان محتواها يشكل نوعا ً من صراع الأجيال. فقد عمل النص فنيا ً على أداء متمكن في الشكل والأسلوب, أغنى به البنية العامة. لاسيّما ما عمد إليه في الاعتماد على الحكاية التي شكلت بنيته الأساسية, وتحويلها من حكاية للحفيد الأول، نحو حكاية للحفيد الأصغر, وهذا دليل على انتقالها بين الأجيال, ودالتها هي الحفاظ على الموروث والصراع الدائر بين البنى المختلفة غير المتقاطعة. كما وأن نعت الأم بالكبيرة دال على سلطة الأم الكبرى في الأسطورة, بما تمتلكه من معرفة. وهو انحياز إلى سلطة الأم في التأريخ من باب الحكمة والبلاغة في الدرس الأسطوري.
أعتقد أن نص «رحيل الأم الكبيرة في الثلاثاء» شكـّل نموذجا ً نوعيا ً في السرد العراقي, لما أمتلكه من طاقة في إنشائه, ومداولة أفكاره, مجسدا ً في كثافة لغته القصصية.