ادب وفن

ذاكرة جدار السلمان.. مشاهدات وانثيلات / جاسم عاصي

قطار الجنوب

وبنا تهمي عجلات الموت/ أو عربات ينحشر داخلها العُريانين/ تخترق نار الصحراء/ وبهجة تموز القائظ/ فالأجساد تتراصف كالسردين / وأنين العجلات الطاغي/ يدور .. / والوهج مثل التنور/ الموت خلاص / وفيافي الصحراء طريق/ فلماذا تضجر هذي الأجساد؟/ أمن وجع تشعر؟ / والجري سريع/ يتناغم فينا صرير العجلات/ لا الموت يأخذنا/ ولا الطرقات/ لا الألم الثابت فينا/ ولا الصبوات/ كتلٌ من لحم مفروم/ ومصير محتوم/ والثقب قاب قوسين منا/ ولا أخوة ليوسف في مدننا/ فالكل من نسل يعقوب/ ويوسف مرآة الكلِ/ هي لحظة/ إن فاتت/ ماتت فيها الأشذاء/ كلٌ يأخذ شهادته ويدور/ في تلك ميسور/ ولحم يتآخى في وهج/ دارت فينا الدنيا/ وصداها يذبح لهفتنا/ تراخت من فرط محبتنا الأجساد/ مثل مرايا مصقولة /مغسولة/ تدور/ نحن في الحلبة الأبطال/ ونحن الجمهور/ سقط اللحم على اللحم/ لم يبق على القارعة/ سوى العجلات/ وأنين القاطرة الثكلى/ والزمن المفروم/ لن ينبس أو يسأل أحد ٌ/ من أين؟/ وإلى أين نروم؟/ وإلام ستؤول فينا البريّة هذي؟!/ وماذا يجري في الفلوات؟/ موت يتربص فينا والنزوات/ أشرعة تأتي إلينا كي نرحل/ فإلام يدوم رحيل الأجساد/ على أرض الأجداد؟/ وإلام يشتد القيظ؟/ وإلام الجري حثيث هذا اليوم؟/ ساح النهر من تحت الأقدام/ وتعثرت الأجساد بالأجساد/ وانكفأ سريان الأحلام/ باحثة في ثقب الجدران/ حديد هذي الجدران/ خدر ودبيب نملٍ وضباب وهوام/ ظمأ سحق الإنسان!/ على مرأى من مرأى الإنسان/ وعيون ظمأى/ للموت العريان/ سارت فينا العربات/ وسرنا في ركب الفلوات/ فاختلط الزمن فينا/ وتهاوت من بعد الطرقات/ أين صرير الريح/ فالموت طريق؟/ يا عربات الموت هزي/ كي نتساقط رطبا/ للمجروحين/ هزي.. هزي.. وهزي/ فمن أين يجيء الموت/ ونحن قيام/ فلا ثقب في الجدران/ نتساقط/ من نخل هذبه الإنسان/ يموت الإنسان/ وقلب الله كبير/ هيهات.. هيهات../ يموت الإنسان.

المُشاهـدة

كان صامتاً على طول الزمن، بينما الحافلة تخترق بعجلاتها المسافات الصحراوية باتجاه سجن نقرة السلمان مخلّفة رنيناً وصريراً جرّاء احتكاك الإطارات بوجه الإسفلت الساخن. ربما كان يستجمع بذلك قواه كي لا يقع فريسة ضعفه الذي لازمه منذ شروعه في الدخول إلى عمر الشيخوخة، فقد يفاجئه وهو يقف وجهاً لوجه أمام الحصن الذي زُرعت صورته في ذاكرته. صورة هي نتاج سنين ليست قليلة منفياً في جب الصحراء، يقضي لحظاته كما لو أنه في مقلاة كبيرة. تذكر الطريق والفيافي أيام زمان، حيث الفضاء يلمع في الأفق على شكل هوام وسراب. كانت البريّة تمتد طويلاً فارشة حرارتها وهوامها الذي امتد واحتوى كل شيء. ربما قال في نفسه؛ من ضيّق إلى آخر تتناوب علينا الأيام والشهور والسنين، يا لها من شاقّة تلك الحياة. هكذا بدا، وبمثل هذا اخترق جدار الزمن المرّ حتى هذه اللحظة، التي هي بمثابة استرجاع لا يدري طبيعته وهو يجتاز المسافات من مدينته مع الآخرين، الذين دوّنوا لهم تاريخاً على أديم رمل السلمان، وجدران حصنها المنيع. صورة ما زال يحتفظ بها، كأنها لم تفارقه كل تلك السنين، صورة لقلعة عتيدة، مقفلة على قاطنيها. بوابة تعلو، وقاماتهم تصغر بين جبروت الأزمنة وقسوتها. لم يبح بشيء، ولم يستذكر مع الآخرين ما كانوا يعانون منه، وما هي المتغيرات الحادثة. لم يكن يستهويه هذا، بقدر ما يركز في نقطة يجدها أكثر معنى ومنطقية. صحيح أنه رافق الجميع إلى تاريخ يجمعهم في مدوّنة واحدة، لكنه واجد نفسه مشغولاً بشيء خارج دائرتهم. ربما كان هذا بسبب انتظاره مثل هذه الفرصة التي طالما راودته في أزمنة متباعدة. كان يجد صعوبة في تنفيذ ما يرغب فيه لزيارة القلعة التي أكلت نصف عمره منطوياً مع الحجارة والرمل والصحراء والشمس، فهي في ذاكرته ما زالت بعيدة ونائية، وأمر العودة إليها فعل فيه شيء من البطر. هل يصح أن يزور المرء مكان عانى منه الكثير، إنه كمن يرغب في العودة إلى منفاه ومكان قتل رغباته وطموحاته. غير أن حصول هذه الزيارة وبشكلها الجماعي أثلج صدره، وفتح بوابة رغباته المكبوتة. لكنه لم يُحدد ما هو راغب فيه. فقط لابد أن يكون في المكان الذي يكون فيه الجميع، يشاركوه مثل هذا الكرنفال الذي يجمع بين الوجع والسمو الذي انتصرت الذات على كل ما كان يحاول أن يعوّق الإرادات الجامحة.
انتبه بعد أن شعر بقلبه ينبض بقوة ربما سيخذله هذا القلب الذي داهمه العطب، راح يحدّق في ما هو أمامه بضع بيوت متراصفه جنب بعضها، انفتحت على سوق ودكاكين موزعة على أضلاعها، درابين وأزقة ضيّقة تتلوى وتنفتح، بينما الباص يتداخل بسيره بينها، فجأة تسارعت دقات قلبه أكثر وبعنف وهو يرى تلك الأعمدة من الطابوق مثلومة كأنها قطع شوكولاته صغيرة. هكذا بدت له للوهلة الأولى. أخذت تقترب. وكلما دنت أصبح لها قوام متعامد، وجدار منصوب. توقفت الحافلة على مقرّبة من البوابة. هبط الجلّاس واحداً إثر الآخر، كان لنزولهم البطيء وقع الأزمنة التي وسمت أجسادهم بالضعف والهزال جرّاء أمراض المفاصل، ومداهمة الشيخوخة. لكنهم بدوا على نظام.. واحد يترك للآخر مجاله دون مزاحمة. كيف لا وهم من كان خلف هذه البوابة يعيشون تحت نظام ابتكروه لحياة أزلية. تشبث بقوس الألمنيوم وسحبه باتجاهه لكي يُعين جسده على الوقوف. استطاع بصعوبة أن يقف ويغادر جوف الحافلة، بعد محاولا عديدة في السحب حتى استقام جسده، معتمداً على شعوره بما سوف يواجهه. لقد اختزل كل تاريخه في هذه اللحظات التي ستفتح له الغامض من الاحتمالات. لذا كان صموده هذا تجاوز ما يمكن أن يراه الآخرون على هيئته، أو الامات وجهه. نزل ببطء واندمج مع الجميع مستذكراً كل خطوة يخطوها، مسترجعاً بشيء من الضبابية تلك الصوّر. غير أنه ضاع في لغط الكثيرين الذي يرومون الدخول بلهفة، لا تفارق عيونهم ما حدث من تخريب على واجهة القلعة.. هدم وإزالة للشواهد والجدران والأسيجة . لم يبق من معالم المدخل الذي كم كان يرعبهم وهم يدخلون بعد أن يملئون الصفائح بالماء من البئر الذي يتوسط المساحة من بوابة القلعة، دون رقيب من الحرّاس. ذلك لأنهم على يقين أن الذي يهرب لا يواجه إلا الموت في البرية، أو يكون طعماً لأضراس الذئاب التائهة في جوف الصحراء. سار حتى لوّى قامته الممر، أو الذي كان ممراً أيام زمان. انفتحت الساحة أمامه. وفجأة توزع الجميع إلى جوانب القلعة، ووسطها حيث شواهد القواويش وبقايا جدرانها المتعامدة. توقف وهو يتفحص بهدوء ووجيف قلب ما يراه أمامه. ربما توقف للحظة وهو يراقب، لكنه سرعان ما تضاعفت سرعته وهو يسير على عجالة متعثرة باتجاه ما توسط إلى الجانب الأيسر، حيث تربض قواويش ببوابات مخلوعة، وسقوف مهدمة. راح يسرع ويردد.. إنه هناك، القاووش الذي كنت فيه.. هو لا غيره ، ها أني أتذكر بابه بالرغم من عدمها الآن. ركض وتعثر.. تعثر واستقام وركض حتى كان بمواجهة الباب تماماً. وقف وراح يُبصر ما حوله من ضجيج واختلاط وشبه فوضى منظمة. ولج الباب فكانت قامته تتوسط قاورش لا سقف له، وأرض تراب تتجمع على سطحها الحجارة. ومن فوره خطى حتى استقر في مكان قائلاً مع نفسه.. إنه مكاني، حيّز فراشي ومنزلي الصغير الذي كنت أعيش فيه سنين طويلة ، آه .. كيف انقضت ، وكيف تبعثر كل شيء. توسط المكان أعطى ظهره للجدار جلس على كثبان الرمل، مدد ساقيه، وأرخى ظهره على الجدار. ارتخى أكثر مبتسماً، بدا فرحاً، متيماً بالسرير الذي أرخى جسده عليه. إنه سرير أعاد إليه كينونته التي فارقته في سنيه الأخيرة.وراح يتأمل ويحلم، يحلم ويتلذذ بما يبدو في مخيلته من صوّر.. كان الجدار من بعث فيه الحيوية.

أحلام الجدار المتداعي

الجدار أكثر صلابة الآن في تحمّل ضغط ظهره، بل تركيز ثقل جسده على إصراره على تحمله في ساعة عصيبة كهذه. كان الجدار يتزيّن بكارتون لوّن صفحاته بالورق الملوّن، احتوى بعض الكُتب وأدوات الحلاقة ومشط تصفيف الشعر، وبعض الأدوية الخاصّة. كانت صورة أبنائه تعلو الكارتون، بينما فَرَش الجدار بشرشف يتوسطه رسم طاووس زاهي الأوان. لا يدري لِمَ يحب هذا الطائر، هل لجماله، أو لزهوه بمكوّنات جسده المخروطي. كان يتبختر مثله في الزقاق والمقهى والمدرسة، وهو يعلم أنه من حَمَلة أفكار وأفعال. لذا فهو طاووس في هيـأة بشر. كان الجدار صاحبه طيلة وجوده في القلعة، والجدران الأخرى يرقبها، شامخة، خشنة جرّاء قسوة حجرها وطليها بالجص المفصص. لم يترك لحظة أثناء وجوده ذاك، إلا وكانت عيناها تراقبان الجدران، معتقداً؛ أن لاشيء يهدمها. فهي أزلية البقاء، لذا لم يكن في ذهنه وهو يتوسط الجميع ضمن قطار الموت صورة القلعة، بل لم يكن في حسابه لكل ما كان يجري. فقط حين لفظتهم القاطرة، كان يلاحظ أشباح من أجساد ضبابية. لم يستطع التمييز بينها. هل أجساد أم جدران تتحرك؟، هل هي حالة من الاحتضار ثم استقبال الموت؟ كان فرن الفاركَون أكثر اتقاداً لطبخ أجساهم، وقد أدرك سرعة ?لك الخيول التي تسحب عرباتهم. كانت فوق التصوّر، إنه ضمن قصة خيالية، لكن وجعها كان يوسم جسده، فهو ليس خيالاً سوى في اختيار ميتة مفارقة لا تشبه غيرها في الوجود. فجدار القاطرة ساخن، ولكن ليس بمثل سخونة جدار القاووش في القلعة، فقد أِلفَ دفئه. كذلك قسوة وحرارة ما كان يحيط بهم في القلعة لاسيّما ذرات الرمل الساخن والخشن كالجمر يلسع وجوههم وأذرعهم. كان جداره على أية حال. ذلك الذي دوّن عليه تاريخه. وها هو يسترخي عليه، ممتداً على أرض متربة. ما ألذ هذا الزمن الذي وضعه ضمن هذه المفارقة. بقاؤه حياً معلولاً يُشير إلى عدالة الزمن من بعد جوره الطويل . امتد أمامه تاريخ طويل من العذاب والنفي والمصادرة. ولم يستطع الإمساك بحسرة تكورت في صدره، أطلقها على كل هذا الخراب الذي يراه ماثلاً كخراب القلعة هذا الذي يعني خراب التاريخ ، من بعد محو الذاكرة.