ادب وفن

تجليات الواقع في رواية "فرانكشتاين في بغداد" / د.فالح الحمراني

حينما تختم قراءة رواية "فرانكشتين في بغداد" الحاصلة على "البوكر العالمي للرواية العربية" لهذا العام، يداهمك الشعور بالاحباط والمرارة لمصائر تلك المجموعة من الشخصيات التي عايشتها وعانيت همومها ومحنها وربما وجدت من تعرفهم وسطها طيلة فترة القراءة. انها مجموعة من الشخصيات التي طحنتها الاحداث المروعة في العراق منذ وقوعه تحت الاحتلال الامريكي، فخلقت أجواء تقترب في حالات منها الى الى صور الرعب والطريق المسدود في بحث الانسان العادي عن حقه بالعيش بأمن وسلام بحياة كريمة. انها شاهدة ادبية على واقع تخطى حدود الواقع ويشع العراق فيها على كافة مستوياتها اللغوية ونمطية الشخصيات وتلاوين الطعام والمك?ن.
يستعير احمد السعدواي الاسطورة الخيالية الشهيرة التي خلقت شخصية "فرانكشين" بكل تنوعاتها وتأويلاتها النصية والسينمائية ليسحبها على العراق في احلك مراحل تاريخه الحديث، ويفجر من خلالها ما خفي وراء ذلك الواقع والواجهات النفسية للشخصيات التي تتكيف له باحثة عن موطئ للوقوف عليه للتنفس والاستمرار في الحياة. ولكن يالخيبة الجميع. ان التجربة القصصية للجوء الى ما وراء الواقع كشكل فني، لتجسيده بكل فداحته لها جذور عميقة في الاداب العالمية، بما في ذلك في الادب الروسي ونتلمسها بسطوع كلاسيكيا في اعمال نيقولاي جوجول لاسيما?في قصصه "الأنف" و"المعطف" وحديثا في قصص الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف " الماستر ومرغريتا" و " وقلب كلب" وانتشرت أكثر في أدب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما بعد الحداثة وتجلت باعمال فيكتور بليفين وفلاديمير سوروكين ويوري مماليف...
ان رواية العراقي احمد سعداوي باسلوبها وحبكتها، يمكن ان تنتسب الى ما يسمى ب "الواقعية الميتافيزيقية"، بقدرتها على الكشف عن مكامن الواقع كحالة مأساوية تعمل ضد الانسان/ المواطن وارادته وتتجاهل خياراته وتجعله بيدقة شطرنج لا حول ولا قوة لها في مواجهة الاعصار الذي حركته "قوى غاشمة" لياخذ بطريقه بكل ما هو، ويطفئ وهج النفوس وتطلعاتها ويختطف لحظات السعادة والفرح ويجعل الانسان من دون أمل ولا طموح ويحوله الى هارب بما في ذلك من نفسه. يعيش حالة اختناق. الانسان كحالة، ككائن عاجز عن مواجهة القدر والمصير. ان الوظيفة الاسا?ية للاسطوري في العمل الادبي تنحى الى البلوغ بهذه او تلك من المظاهر حتى نهياتها المنطقية.
يوزع احمد سعدواي شخصياته على مجموعات صغيرة تكون كل منها انعكاسا ورؤية للمرحلة التاريخية/ الاجتماعية التي تشكلت في 2006، حيث تصاعد العنف اللا عقلاني وغابت القيم وظهر في الافق نموذج مشوه للانسان في العراق، تتداخل في مصائرها التي تكون متناقضة احيانا لكنه يخرج بها بمصير واحد. ويكون شبيه صنيعة "فيكتور فرانكشتين " الاسطوري الذي سيطلق عليه اسما عراقيا " الشِسمة" او الذي لا اسم له، هو السند الذي تتأسس عليه اركان الرواية وباعث تطور احداثها وشخصياتها.
ان " الشٍسمة " الذي لا اسم له هو نتاج تجميع اعضاء من فارقوا الحياة نتيجة االتفجيرات الارهابية، وينهض بروح احد ضحايا الارهاب للانتقام، لكنه يتحول بالنهاية الى اداة قتل عشوائية "القتل من اجل القتل"، انه ايضا صورة للقوى القديمة في المجتمع العراقي التي جُمعت اجزاؤها التي تهشمت بعد الاطاحة بالنظام الدكتاتوري، لإستعادة الماضي والانتقام من العملية السياسية ومن برأيها وقف وراءها، ولكن باستعمال الوسائل القديمة وبدون طرح بديل اكثر واقعية يستجيب لروح الحاضر، ولا قدرة لها على الحياة وبقيت عاجزة، وتحولت بعض تياراتها ال? ممارسة القتل المجاني، والتدمير اللا مبرر. ان "هادي العتاك" الذي يمتهن شراء الادوات العتقية لتجديدها وبيعها بسعر أكبر، هو نسخة فرانكشتين الذي يجمع اشلاء "الذي لا اسم له" بدوافع انسانية محضة، ولكنه جمعه من "اشلاء" عتيقة كما هي بضاعته فلم يحقق مشروعه الانساني بل راح ضحيته، ليكون هو الجاني. ولم يحقق المسخ الذي لا اسم له عدالة الشارع بعد ان تبدد الامل باحقاق عدالة السماء والقانون.
ان المثقف العراقي في "فرانكشتين في بغداد " يلوح مغلوباً على امره. فجمهرة الصحفيين والمصورين والكتاب ينخرطون في الوضع الاجتماعي ـ التاريخي، لتاكيد الذات وتحقيق الطموحات الشخصية والاغتراف من ملذات المال والجنس والمظاهر، انهم لا يطرحون مشروع التغيير ورسم البديل في الواقع الكالح الذي يرسمونه يوميا في صحفهم ومجلاتهم ويظهرون على شاشات التلفزيون لتقديم تجليات عنه.
المرأة في الواقع العراقي الذي يرسمه احمد سعداوي هي الضحية الأكبر في مجتمع بلغ به جنون الرجال الى مستويات لا تقدر. وتتوزع نساءه الى معسكرين كبيرين، تنضوي في الأول الأمهات العجائز اللواتي كن دائما عماد العائلة، واللواتي من المعسكر الثاني وجدن أنفسهم على هامش المجتمع فرحن يمارسن بيع الجسد او الروح لمواصلة الحياة ولو في اطار النخبة. وتظهر العجوز "اليشو" الآثورية التي تنتظر ابنها الذي غيبته الحرب مع ايران قبل عشرين سنة ليبث النظارة في حياتها ويعيد مجد الدار، وتعتصم في بيتها القديم العريق، بيت الاجداد الذي يوحي ?متحف الأثريات.
ان المرأة تنتسب الى أقدم شعب سكن العراق "الاشوريين" وبيتها هو بالذات صورة العراق الذي تحاول صيانته، ولكن المضاربين والمحتالين يحومون حولها لبيعه لهم، للاستيلاء عليه كغنيمة، ضمن التطور المنطقي للاحداث فالمسيحية "الاثورية " تترك بيتها ليس عن ارادة ولا رغبة، وسرعان ما يعصف به انفجار ارهابي ليدمره نهائيا، ويجد فرج الدلال الذي اشتراه من العجوز انه ارتكب غلطة بعقد الامال التجارية عليه، لانه كان منخورا وهشا من الداخل ولاح في واجهته عامرا وقوي الاركان.انه العراق الحديث.
لم تجد حتى الشرائح الاجتماعية الطفيلية التي راحت تعتاش على مخلفات الوضع الذي خلقته حالة الاحتلال والاقتتال الطائفي، مكانا لها في الوضع التاريخي الاجتماعي الجديد. فيترك صاحب فندق العروبة وفرج الدلال ايضا بغداد ويعودون الى مواطنهم القديمة وكذلك الصحفي محمود السودادي ويختفي السعيدي، وتنهار احلام رئيس لجنة سرور.
ان الوضع الي يتشكل يعصف بكل الشرائح والقوى وبالانسان وقيمه وثوابته.ان نور التضامن الانساني والعناية بالاخر يلوح فقط في علاقة الشماس يوشيا بالعجوز اليشو حيث يحنو عليها ويقدم لها ما يسهل عليها العيش وسط تلك الاجواء المأساوية.ان النظام السياسي في رواية احمد سعدواوي يرتسم كاصداء على جسد الواقع الممسوخ وتظهر شخصيات من دون اسماء بوجوه متجهمة تثير الرعب يتوجس منها الانسان شرا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث مقيم في روسيا الاتحادية