ادب وفن

تزييف الواقع في الخطاب الروائي الخليجي / عبدالعزيز سعد المطيري *

أيمكننا القول انّ الخطاب في مجتمعٍ، أي خطاب، ما هو إلا امتداد للسلطة السائدة في ذلك المجتمع؟ حسناً، هذا التساؤل قد أفنى المفكر الفرنسي ميشال فوكو قرابة ربع قرن من عمره في البحث فيه عبر مؤلفاته العديدة التي تبحث في العلاقة ما بين السلطة والمعرفة داخل الخطاب في المجتمع. وبالرغم من أنّ مفهوم السلطة وبنيتها لديه كانا مبهمين بعض الشيء، إلا أنّ أثر السلطة عموماً على المعرفة والخطاب داخل المجتمع كان واضحاً على امتداد تلك المؤلفات؛ إذ كان يرى دائماً أنّ الحقيقة داخل الخطاب "مربوطة في علاقة دائرية بأنظمة السلطة تُنتجها وتستبقيها، وبآثار السلطة التي تُحدثها وتمدها".
على ضوء ذلك، فإن للحقيقة داخل الخطاب نمطاً أحادياً، أي، لها زاوية واحدة تُنتجها السلطة وتُحدثها للبشر. وكلما كانت هنالك حقيقة أخرى في الخطاب، كان هنالك صراع بين السلطة وأتباع تلك الحقيقة الأخرى، بمعنى آخر تصبح الحقيقة نمطاً جدلياً، لا يموت، حتى ينتصر أحد المعسكرين، ويقيم سلطته النهائية على المجتمع، خالقاً جموداً مؤسسياً للخطاب والأفكار التي تحتويه. وفي ذلك يكون الخطاب كما يقول فوكو "هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها".
عندما ننظر للخطاب الروائي في الخليج، لا أعتقد أنه يمكننا تجاهل ذلك الجمود المؤسسي في القضايا والأفكار التي يعيد إنتاجها بتكرار ممل في الخطاب، جمود يخلقه جسم الرقابة الفضفاض المتمثل في الأجهزة الأمنية والسياسية للدولة؛ فارضةً أدوات العقاب من المنظور الفوكوي، المجتمع بمؤسساته ووشائجه وعاداته التي تحكمه؛ والذي يحدد اللائق وغير اللائق، وأخيراً مؤسسات الإعلام ودور النشر؛ والتي تحدد الرائج وغير الرائج. هذا الجسم الفضفاض الذي يشكل الخطاب الروائي وجموده، هو أيضاً الذي يشكل الوعي والإدراك عند العامة في حياتهم اليومية. هو لا يريد جدلاً يؤرقه، لذا هو يخنق الأدب بمجمله أكثر فأكثر، مستثنياً الأدب الشعبوي والأدب الواقعي الاجتماعي، النمطان الطاغيان على هذا الخطاب، كمتنفسيْن للعامة الذين يتوقون للهرب من واقعهم عبر تلك النصوص، بدل أنْ يتفكّروا في واقعهم، ويتأمّلوا فيه جيداً.
ذلك التضييق والخناق يصعّب من مهمة الرواية كما أراها؛ أنْ تمثل واقع المجتمع بصدق. فتمثيل الواقع ليس أمراً سهلاً، بالأخص في بلدان يطغى فيها جسم الرقابة الفضفاض على الخطاب الروائي. لذا، يتخذ بعض الكتّاب من التاريخ والفنتازيا ملجأً لهم؛ فبهما يمكن نقد الواقع وتحليله، متخذين من الرمزية درعاً يحتمون به من طغيان الرقابة. يمكننا تسمية هذا التمثيل بـ"ترميز الواقع"، إذ يتم تمثيل الواقع عبر رموز وصور داخل النص تصعب ملاحقة الكتّاب قانونياً بسببها، أو نبذهم من قبل المجتمع أو حتى رفض دور النشر لها؛ على سبيل المثال، رواية "طنين" للكاتب سيف الإسلام بن سعود، والتي تقدم تأملات سياسية حالية ونقداً للواقع السياسي السعودي، قد تم ترميزها في حقبة الرواية الواقعة في منتصف القرن الثامن عشر في الحجاز. إلا أن أبرز سلبيات هذا التمثيل يكمن في أن رسالة النقد التي يحاول الكتّاب إيصالها للقراء العامة يصعب فهمها بسبب رمزيتها، وتكون غير واضحة إلا للنخبة الثقافية قليلة العدد.
بسبب ذلك التضييق، بسبب سهولة الكتابة فيه والرغبة في الانتشار، وربما لحبهم ببساطة هذا النمط الأدبي، فإن غالبية الكتّاب في الخليج العربي يجنحون عن التاريخ والفانتازيا ويتجهون نحو النمط الواقعي من الأدب. إذ يتحدثون عن الواقع مركزين عبرها على قضايا اجتماعية بديهية وراسخة "مثل مشكلات الزواج والطلاق، العلاقات الانسانية، والفوارق الاجتماعية"، متحاشين الحديث عن المحظور الوحيد الذي تجدر عدم مناقشته؛ "السلطة السياسية" وجميع المؤسسات الاجتماعية المرتبطة بها، بعد أن كانت المحظورات فيما مضى ترتبط بإحدى هذه القضايا: الجنس، الدين، والسياسة. هنا ينتقل دور الكاتب من هؤلاء من وظيفة الناقد إلى وظيفة السياسي المداهن، أحياناً دون أن يدري بذلك؛ فبحسب الكاتب الإنجليزي جورج أورويل فإنّ "جميع الفنون هي دعايات سياسية"، لذا، فهو بعدم نقده ومناقشة واقعه بصدق، يسهم في عملية تزييف الواقع الذي يعيشه مجتمعه؛ إذ أنّ تركيزه على الأسرة الصغيرة في نقاشاته وتهميشه للمؤسسات الاجتماعية الأبرز في تشكيل الواقع مثل العائلة الممتدة، النخبة التجارية، المؤسسة الدينية، القبيلة وغيرها من المؤسسات الأخرى، إلى جانب تهميشه للمؤسسات السياسية، اللاعب الفعّال في تشكيل ذلك الواقع، يسهم أكثر فأكثر في عملية تزييف الواقع تلك، وبالتالي يبيّن المؤلف أنه راضٍ عن الوضع السياسي القائم، وإنْ لم يكن ذلك صحيحاً بالضرورة.
كذلك، فإنّ نقاشاته للواقع السياسي والمؤسسات الاجتماعية المرتبطة به تتسم بالسطحية والركاكة، والأهم، أنه يبين للمتلقي أن القضايا الاجتماعية البديهية هي "القضايا المصيرية"، وبالتالي فإنها تعزز طبيعيّة عجز المتلقي عن فعل شيء، كما تعزز الإيمان بقدرية الحياة ودوره الراسخ كمتلق لا كفاعل في محيطه؛ ذلك لأنها قضايا مرتبطة بقواعد وعادات اجتماعية راسخة لا يقدر المتلقي على فعل شيء لمعالجتها، وبالتالي عليه تقبّل موقعه السلبي في الحياة. ليس هذا فقط، بل إنّ عملية التزييف هذه تغْفِل عن مواضيع عديدة في المجتمع "لا يُسمح" في الحديث عنها، وبذلك يكون غير الموجود في الخطاب الروائي يمثّل الواقع أكثر من الموجود ذاته. والأمثلة على الروايات التي ترتكز في مواضيعها على العلاقات الإنسانية في الحياة الاجتماعية تزخر بها المكتبة الخليجية.
هذا لا يعني عدم وجود روايات تنتقد الجو السياسي المحلي مثل ثلاثية تركي الحمد، أو "شقة الحرية" لغازي القصيبي، ولكن هذه، في نظري، استثناءات محدودة جداً. وكذلك، لا يعني عدم وجود خط جديد بدأ يخرج عن الخطاب الروائي السائد في الخليج؛ ففي الكويت مثلاً هنالك روايات حديثة تهتم بقضايا المهمّشين، تحديداً قضية "البدون"، جلّ كتّابها من الشباب، مثل "إرتطام لم يسمع له دوي" لبثينة العيسى، و"ساق البامبو" لسعود السنعوسي. وفي الساحة السعودية تتسم الروايات الحديثة بالتركيز على المرأة، المهمّشة في المجتمع، جلّ كتّابها من النساء مع ذلك، هذا الخط الجديد لا يسير مبتعداً عن النمط الواقعي الاجتماعي.
هنالك نظرية في علم الإعلام يطلق عليها "تحديد الأولويات أو الأجندة"، وتعنى أنّ وسائل الإتصال الجماهيري هي من تحدد أهمية الأفكار والخيارات وحتى أسلوب الحياة للجمهور المتلقي، وذلك عن طريق التأثير بالوعي والإدراك. هذا الأمر لا يختلف عن النصوص التي تشكل الخطاب الروائي الخليجي بتحديد أولوياتها للقضايا الاجتماعية، إلا أنّ عذر المدافعين عن هذا الخطاب هو أنّ هذه النصوص لا تنظر للسياسة إلا على أنها شيء خارجي، متذرّعين بتمجيدهم للنصوص ذات الطابع "الكوني"؛ تلك التي تخاطب العالم كما يرونها، لتخرج عبرها من الإطار "المحلي" الضيق إلى فضاء "العالمية". إنّ هؤلاء المدافعين يتناسون أنّ ثقافة المجتمع "المحلية" المستحوذَة من قبل السلطة السياسية تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من تكوين الإنسان الفكري وممارساته، بل هي أحياناً السلطة الفعلية التي تؤثر على أفكاره وممارساته؛ بمعنى آخر أنّ السمات العالمية للإنسان والتي يناقشونها في نصوصهم لا يمكنها أنْ توجد إلا بمعزل عن تلك الثقافة، أي أنها لا توجد إلا في نصوصهم المثالية. إنّ تلك النصوص "الكونية" تخوض في مثاليات منفصلة عن الواقع، بمعنى آخر تعزز مبدأ "الهروب من الواقع"، أي أنها نصوص للمتعة، و?لمتعة فقط، لا لنقد الواقع. لقد أصبح الأدب الواقعي الاجتماعي أقرب إلى الأدب الشعبوي، ذلك للتشابه الكبير في القضايا موضع النقاش في تلك النصوص وفي كيفية طرحها ومعالجتها، مع اختلاف اللغة والقيم الفنية فقط. لذلك، لا نستغرب سماح أو لنقل عدم نبذ جسم الرقابة الفضفاض لهذين النمطين من الأدب في مجتمعاتنا.
أعتقد بأن جسم الرقابة الفضفاض وأدوات المنع والإقصاء التي يستخدمها على النصوص والكتّاب داخل هذا الخطاب ليست الاشكالية، ولا العامة والذوق الذي يختارونه. إنّ الإشكالية تكمن في منبع الإبداع هنا الكتّاب أنفسهم ورضوخ البعض لأدوات الرقابة، واعتياد الآخرين الذين أتوا من بعدهم على ذلك النهج من الكتابة، إلى جانب انفصالهم عن المجتمع الذي من المفترض أنْ يكتبوا من أجله؛ سواء في نصوصهم أو نقاشاتهم.
ــــــــــــ
* كاتب كويتي