ادب وفن

المكان غير الموطوء (3-3) / جاسم عاصي

فصل المـــاء

إذا كان الماء قد وضعته الكُتب المقدسة في مصافي أولوية التكوين، والتي أوجزها الإسلام في "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ"، فأن الرائي يحاول أن يستنبت من جديد هذه القيمة التي تؤكد العلاقة بين الوجود البشري والآخر المادي . فنظريات النشء االميثيولوجية أعطت للماء أيضاً موضع البدء والنشأة، وبالتالي مبدأ التكوين الأول في إتحاد "الآبسو وتيميات" في نظرية الخليقة البابلية "آنوماليش".
من هذا نجد أن الرائي يتعامل مع الماء من مبدأ القيمة في الوجود. وما ترجيحه في كل حيوات الصحراء إلا دليل على المعنى المضمر، وهو السبب الذي ذكرناه كأساس في طرح وجهة النظر الجمالية في جمال البيئة، من نداوة ودفق المياه في البادية المرهونة لوجود الماء، فجدلية الحياة في الصحراء قائمة على جدلية وجود بئر الماء وليس غيره. لذا كانت حياة البدوي مرهونة أيضاً لهذا السبب إلى الارتحال الدائم طلباً للماء والكلأ. وفي الحقيقة طلباً لتحقيق الوجود المادي والمعنوي من الوجهة الانثروبولوجية. فالبدو يمتلكون نزوع البقاء في البيئة التي تتلوّن فيها الحياة، وتتدرج من القسوة إلى الرحمة وبالعكس. لكن وجوده ككائن لا يبرح المكان. وهذا ما يحيل إليه مصدر الماء لتأسيس صفحات للمكان حيث ما حلَّ البدوي. فكتاب الصحراء متعدد الصفحات، بتعدد صورة الحياة وتغيرها من السلبي إلى الإيجابي وبالعكس.
ففي فصل "لويحظ" يبتدئ من نسق الأسطورة الذي يدرك الأشياء والمكوّنات وفق رؤى صافية ونادرة بعبارة استهلالية "رفعت السماء نقاب السحاب، أسفرت عن وجهها الصافي المشع بضياء شامتها الشقراء، لحظة سمعت الأمر الإلهة بانتهاء الطوفان" ولنقارن بين هذا التنضيد الاستهلالي، وبين مدخل قصة الخليقة البابلية، وبينه وبين نهاية قصة الطوفان. إذ نجد أننا بإزاء استهلال يتخذ من المصدرين ابتكاراً لمستهّل حكايته، كي يؤسس رؤى جديدة للمكانية التي ينوي تدوين صفحات عنها. وتتواصل الحكاية لتجد لها مستقراً من خلال إزاحات عن متون الحكايات الأخرى، بحيث لا تبتعد عنها كثيراً، بل تواكبها بمستجدات تعبيرية مخلِقة للتسميات والإشارات والعلامات البنيوية التي رافقت الحكايات الأم، وذلك بابتكار نسق جديد لحكاية جديدة ما بعد طوفان جديد داهم البيداء ، وذلك بعبارات من مثل "ابتدأت الأرض بشرب الماء الذي أغرق/ البشر/ الشجر/ الحيوان/ واكتست بثوب من الطين" أو "تترجل سفينة الحيوان عن صهوة الطوفان" هذه العبارات بالإضافة إلى تبديل النسق، إلا أنها أضفت صفة موضوعية لحكاية الطوفان الخامس، وكأنها تضعه موضع التكوين الأول. فالرائي يوقفنا أمام تشكّل جديد بعبارات جديدة تنّم عن معان مستحدثة عن القصة المتن. وهذا ما أكسب حكاية الرائي الجديد ــ ابن البادية ــ قدرته وإمكانيته في تنضيد حكاية تحمل رؤى مستحدثة. هذا النسق يلازم مرائي "حامد فاضل" لكنه كراء يؤسس للتنوع وهو يخوض مثل هذه التجربة عن المكان وساكنيه الذين يُحددون بصفة انثروبولوجية، لكنهم ذوو تعدد في الرؤى. وهذا مكتسب من طبيعة البيئة والتنقل بين فيافيها، التي تكسب المرء معاني جديدة من تجارب جديدة.
وبعد هذا الاستهلال الطويل، يتخذ من وادي "لويحظ" مكانه الذي سوف يُسهب في تفاصيل حياته، التي هي حياة قاطنيه، أو الذين اتخذوا منه مقترباً بسبب طبيعة حياتهم المعتمدة على الماء والكلأ. كما وأنه يؤاخي في التعبير والإنشاء اللغوي بين ما يرى وما يتصوّر. لذا نجد مرائيه تتلوّن وتتجدد وتغتني بالرؤى. كذلك تُمسك بالممكن، بحيث لا يفلت منها المحتمل أو المرتقب. فللرائي يد تمسك، وعين ترى وتراقب، وحس يُدرك المتغيّرات. لذا فعلاقته البنيوية بالمكان هي علاقة وجود أو لا وجود. أي مصيرية. مستلهماً العِبرة مما يرى ويحس به، لا من منتحضرات خارج تشكّله البنيوي فهو يؤكد على "لا أفهم بالتضاريس التي على الخارطة، كفهمي لها وأنا بين أحضان أمي الأرض. كلما هزني الوجد نحو البراري، نحو صحرائي التي في القرار نحو تلك البساطة، تلك البراءة، ذاك النقاء... هفت الروح قبلي نحو القفار" ولنلحظ مفردة القفار هنا. وهي مفردة لا تدل فقط على السعة، بل إلى الفقر. إذ نقول مكان مقفّر أي قليلة مستلزمات الحياة فيه . وهي مشتقة من مفردة الفقر. لكن الرائي يشتغل على مزدوج معانيها لأن المهم هو هيام الروح إزاء مشهدها. والفصل يُضفي عليه الرائي تلوّناً، عبر استدعاء حكايات ?كّاء الصحراء "أبو الأشقر" حيث يصفه بإسهاب، ويتخذ من حكاياته باعتبارها تُعبّر عن بلاغة الصحراء تلك.

مرائي الماء ولظى القصور

هذا الفصل ينقسم إلى قسمين؛ الأول: يتناول الماء، والثاني: عن القصور. وكلاهما يعالج المؤثر والأثر للأمكنة. فالماء مكان حيوي فيه متغيّر دائم، لأنه يرتبط بمكان المصدر هنا مع "البئر" والقصر واضح ارتباطه بالحياة البشرية، أي أنه يُحكي عن البنية الاجتماعية والعلاقات البشرية. لذا فالفصلان متلازمان من حيث المعنى العام الذي ترتئي المرئية تناوله عن الصحراء كمكان مفتوح، والقصر مكان محدود ومغلق. إن العلاقة بين المغلق والمفتوح تترتب عليها الكثير من السمات لأنها ترتبط كما ذكرنا بالمتغيّر أصلاً. وهو الرئة التي تتنفس من خلالها وجود البيئة كحاضنة لحيوية وجود الإنسان. فالصحراء بما توفره للإنسان من انفتاح وحرية، غير أنها بالمقابل تضيق جوانبها في حالة تحوّلها إلى جب فيه قسوة الجدب وشيوع التصحر، ثم تحوّلها ــ كما ورد في فصل نقرة السلمان ــ إلى بيئة قامعة لاحتوائها على أعتا سجن عرفه التاريخ السياسي العراقي ، وهو سجن "نقرة السلمان". وبهذا استطاع الرائي أن يوازن ويستأثر بهذا على حساب ذاك. غير أنه في المحصلة النهائية يضعنا أمام الوجه الأكثر واقعية في البيئة.
في "ماء العيون" يطالعنا العنوان بنوع من البلاغة في صياغته. فالرائي لم يذكر "عيون الماء" وهي مصادر متح الماء في الصحراء. لكنه أكد على الماء وأعطاه الأولوية في صياغة العنوان. لأنه في الأساس يرمي من خلال مرائيه هذه تأكيد ثنائية، الظَمِأ والمرتوي مقابل الممتلئ والفارغ. أي أنه يحقق نوعاً من توازن جدلية خاصة بالبيئة . وهي الأساس في تشكّلها كبيئة. أما الحيوات الأخرى فهي تحصيل حاصل لوجود الماء. والفصل كما ابتدأ الذي قبله، باستهلال ذي نسق أسطوري واضح. إذ يبدو أن الرائي يمتلك نظرة محددة إلى البيئة، وهي النظرة الأسطوطية ذات الجدلية المرتبطة بالمكان حصراً، لذا فكل ما يؤتى من تداعياتها محض حقيقة ساطعة لما يجري فيها. فالمستهل الأسطوري يرتبط بالمكان المروي عنه على أسس ذات علاقة بمعنى وجوده. فالصحراء أفق تنفتح عليه الأساطير عموما ً، وله كمكان أساطيره، كما هي مروياته العميقة وهو أيضاً يراقب حالة الجُدب الذي رافق الوجود ما قبل النشأة الأولى كما أكدت قصة الخلق البابلي. فالجفاف مقابل الرواء. لذا فقد كانت اللغة التي صاغ من خلالها توصيفاته، أكثر قدرة على تأكيد النسق الأسطوري:" خرج البدوي يبحث عن كل يابس أرض انحسر الماء عنها، فبان لعين الطير المعلّق بين الغبراء والزرقاء. المستكشف الأول الذي أبصر الجزر وهي تفلق البحار"، هذا النسق قاده إلى أن يفتح باب المخيّال السردي، ليدلي بمحتوى حافظته الأسطورية بالمشاهِد الثرة "إني وجدت أميرة الجزر الفارعة، وجدتها مستلقية على محفة الماء، مطروحة تحت قبة السماء، تستر مفاتنها بغلالة نهار دافئ" وهي استعارة من الرائي لخيال البدوي. ولكي لا يترك الصورة التي عليها البيئة دون استكمال، لذا فأنه يعرّج على التاريخ والجغرافية. ففي الأول يستعير من الأنثوبولوجيا ديدنها الذي يُدقق في التفاصيل ذات العلاقة بالمكوّن?البشري، وفي الثانية يُحقق وجود المكان الذي ينتظم وفق جدلية أزلية وهو الصحراء. هذه الاستعارات عمّقت النص وأثرته بالمعاني. بمعنى لم تبق لهيكل الحكاية التي يرويها البدوي المتمرس بالصوّر الكثيرة ، إلا وأن يكسي هذه الصوّر باللحاء الذي يليق بها تاريخاً وطوبغرافية. ويسحبنا الرائي الذي استعار مخيّال البدوي كما ذكرنا، ليدخل بنا مدخلاً مثيولوجياً. وذلك باستحضار تاريخ مهم وذي حيوية تراجيدية. ومن أجل هذا يُطلق لخياله العنان بانثيالات شعرية خالصة:" أحملني يا فرس المخيّال الرهوان، خذني إلى زمان الحكاية. فلعلي أصل هالة نور حفيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، القاصد أرض "الطف" بقافلة الإيمان، أراه ينزل قدّام بيت شعر لرجل نصراني، تخرج لاستقباله امرأة من "شك" البيت، يبهرها نور الرجل الفائض من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله" ويستمر كل هذا الوصف ليعمّق المرأى "كأنما قد رأت ال رهبان أديرة أرض الرحاب يحجوّن نحو خيمتها، وكأن المسيح تراه ثانية يُصلب قدّامها" وتساق العبارات بين الإمام الحسين "ع" والمرأة المسيحية، فنعرف إنها أم وهب النصراني الذي استشهد في واقعة الطف، فقد صدقت الرؤيا التي راودته في المنام .
في "نار القصور" ثمة مفارقة بين المكان كمأوى آمن، وبين مركز المرأى وهو النار. إذاً هنالك قصد في العنوان يؤكد أن المعالجة تستهدف ما يحدث في داخل المكان كما سنرى ووجود النار هنا إيجابي، فهي الدالّة على وجود المكان "القصر" الذي يرحب بوجوده كل من قطع كبد الصحراء وبحث عن ملاذ يأويه. فالنار دالّة، والقصور علامات مبثوثة في الصحراء: ومن القبيلة جاء الشعب/ ومن الشعب جاء الأمير/ ونما الأمير فصار ملكاً/ وللملك عرش/ وللعرش قصر / وللقصر سارية من لهب/ توقد حين تُداهَمُ أسواره بالخيول/ وحين تبصر راية النار باقي القصور/ ي?عل كل قصر على سطحه ناره/ من رسائل النار/ يعرف أهل تلك القصور/ إن ثمة خطر قادم/ يخبر عنه بريد اللهب"!.
هكذا تكون الدالّة، وتبقى التوصيفات الأخرى تتوسل وتستعين بالتاريخ الخاص بالصحراء. والروي لحكايات ومرويات القصور ما يدعمها بالمواقف المتميّزة لرجالها وقت الشدائد، وللرواية ما يسندها من قول الشعر الذي ألهم شعراء البادية ملَكتهم الشعرية، فراحوا يدوّنون تاريخ صحرائهم ومواقفهم شعراً. إنها حكاية الصحراء، وحصراً مرويات قصورها التي لاقت الكثير من الحيف وجور الزمان. إن ما قدمه الرائي في هذا الموقع هو انثيالات ابن البادية وهو يدلق محتوى إحساسه إزاء ما يرى ويعيش.

تاريخ المُدن والحواضر

في فصل "الوركاء دويلة الملوك والمعابد والآلهة" تجسّدت حياة المُدن السومرية من خلال توصيف رؤى الرائي حول نشأتها وانتشارها، زهوها وأفولها. من هذا نجده يتوسل بالتاريخ، متواصلاً مع البنية الفكرية التي واكبت مسيرة تلم الدويلات. أي أنه مزج بين أسس نشأتها، وما أنتجته من ضروب البنى الثقافية والمعرفية كالقوانين وأسس العبادة والعلاقات الانثروبولوجية.
استهلها بنسق أسطوري أيضاً "قبل التاريخ، وقبل الأسماء بين النهرين، وبين الصحراء. كانت أرضاً عذراء، وكانوا سبعة حكماء، الكون يُدين لهم بالولاء" هذا الاستهلال جمع بين النسق الأسطوري كما ذكرنا، وبين طبيعة البنية الفكرية المتمثلة في عبارة "الحكماء السبعة" ومن هذا المستّهل يحاول الرائي أن يُجدد حكاياته، معتمداً على ذاكرة الآخرين الذين استلهم منهم مروياتهم. ولعل حارس الوركاء أهمهم. لكنه يُضفي على مرويته حقائق يرصّنها بمصادر من الرواة، وعلى نحو متسلسل، استمالة لمشاعرنا ، وطبيعة إصغائنا فهو يتخذ لنفسه راوياً شفاهي?، مستلهماً هذا الشكل من الروايات من طبيعة تشكّل الصحراء من مجموعة شفاهيات. وما الكاتب الذي تلبس شكل المركز في النص "البدوي أو الحارس" إلاّ كناية يمرر تلك المرويات تدويناً في كتاب أطلق عليه "كتاب المرائي".