ادب وفن

تعايش المكونات العراقية المختلفة في البصرة / علي ابو عراق

الرجل التسعيني المهيب الذي لم يزل يحتفظ ببقايا قوة ونظارة وعقل يقظ ..يرشحه ان يكون شاهدا وذاكرة للبصرة، ربما ان سر احتفاظه بكل هذه الحيوية والنشاط كونه رياضيا بل من شيوخ الرياضة فيها.. سرح الرجل وهو يجلس في ركن يشرف على محلته العريقة ممتطيا ذاكرته المحتشدة بالذكريات البعيدة. بعد ان سمع بعائلة سريانية مكونة من شابة وزوجها واطفالهما الثلاثة جاءت هاربة الى اهلها ومسقط رأسها خوفا من القتل من مدينة القوش من سهل نينوى الى حيث منزلها القديم الذي ولدت فيه في محلة البجاري وسط مدينة البصرة بعد ان صودر منزلها وكل ماتملك هاربة باطفالها وزوجها لتنجوا?وعائلتها باعجوبة من سيوف ذوي الرايات السوداء التي صبغ سوادها سماء شمال الوطن وغربه، عادت الى حيث مكان ولادتها وطفولتها وشبابها حيث لا بديل لها عن ذلك وهي تشرق بغصتها على بيتها واثاثها وذهبها وكل اشيائها الصغيرة والكبيرة.. تناهى الى سمعه الثقيل الذي هو نقطة ضعفه الوحيدة الذي يذكر الاخرين بعمره بعد ان ينسوه امام وضعه الصحي الممتاز، سمع تفاصيل هذه القصة التي اخذت كل اهتمامه وحرضته الى الرجوع لاكثر من 75 عاما الى الوراء.. وايقظت كل ما رسخ في ذاكرته من صور بعيدة مشرفة ومضيئة... جعلت عيونه تلمع وتدمع في ذات الوقت... قال لنفسه وهو يمسح فيضها الذي لم يسيطر عليه... ماذا حدث للعراقين..؟ هل زلزت اخلاقهم... هل هو سونامي اسود اغرق كل فضائلهم التي كنت شريكا وشاهدا عليها... حيث كانت الالفة والمحبة والاحترام والروح الوطنية تحكم الجميع... اشار لي.. هل ترى هذه المحلة الخربة الان؟.. كانت من اجمل مناطق البصرة.. راقية ونظيفة ترتفع فيها الشناشيل المزججة لتمنح الشمس فرصة للعب والانكسار البهي ونشر الالوان... وتنفتح فيها الشرفات عن فضاءات تضوع بالعطر والبخور والبهجة العائلية والود العميم.. يسكنها تجار البصرة وكبار موظفيها العاملين في الحكومة او المهن الحرة كالمحاماة والتدريس والرياضة وغيرها من المهن المحترمة... البيوت متلاصقة بحميمية بالغة على الرغم من التباين الديني والمذهبي والقومي غير المحسوس ظاهرا او باطنا ..وتوقف قليلا ليجذب انفاسه.. واشار لي ثانية... انظر.. انظر هذا بيت باكوس.. وعلى مقربة منه بيت سليم يلدا يليه بيت اكبر مرجع شيعي بالبصرة عبد المهدي المظفر ويقابله بيت مناحيم وبيت ام ميسون المسيحية.. وسدد النظر الى بيت بعينه طويلا وقال انظر انظر ذاك بيتنا الى جانبه بيت جارتنا الطيبة جدا ام حياة اليهودية... التي كنت اذهب لهم كل سب? لاضيء النور واشعل النار واقوم بكل الاعمال التي لا يماروسها يوم السبت باعتبارها من المحظورات الدينية... كنت حينها صغيرا وكان اللعب يحرضني على النسيان احيانا ولكن امي التي كانت تربطها علاقة حميمة وجميلة بام حياة.. تدعوني في الوقت المناسب وانا العب مع اقراني بصوتها المجلل (ولك يمه خو ما نسيت بيت ام حياة) ورغم الطيش الطفولي.. واغراءات اللعب على روحي الدافقة بالطفولة. حينما اسمع صوت امي ارمي كل مفردات وحاجات اللعب من يدي .سواء كان خرزا او غيره.. واركض بهمة الى بيت ام حياة جارتنا اليهودية.. فاقوم بكل اعمال يوم السبت عوضا عنهم.. وهم بدورهم يغرقوني بالمحبة والجكليت والكيك والقبل... كانت هذه المحلة تضم المسلمين شيعة وسنة والمسيحيين واليهود والمندائين تضم البصريين الاقحاح واهل الناصرية وميسان والموصل وسامراء والرمادي والكثير من الكرد. دون فرق او تمييز .المعيار الوحيد كان هو الاخلاق فقط وليس الدين او المذهب او الطائفة ...سكت قليلا ليغور في اعماق ذاكرته.. واسترسل كما قلت لك كان عبد المهدي المظفر المرجع الشيعي في البصرة قريب جدا من بيت يهودي يعشق الغناء والطرب .وكان يجتمع في بيته الكثير من اصدقائه المسلمين والمسيحيين واليهود طبعا ليلة السبت..ويعقدون جلسات السمر... خمر وغناء وموسيقى.. وتظل المقامات العراقية تصدح وربما يصل صداها الى بيت الشيخ المظفر.. وربما تمتزج نغماتها بقراءة الشيخ للدعاء او القرآن.. ولكن لم يحدث في أي يوم من الايام ان وجه الشيخ انتقادا او ملاحظة حول هذا الوضع... بل انا على يقين لو تطوع احد من ابناء المحلة ليقول ما لم يقله الشيخ حول جلسات السمر هذه لزعل المظفر وغضب ولما قبل بهذا قطعا... كانت المحلة مزدهرة بالتسامح والالفة ومعشوشبة بالاحترام والطيب والتعايش... ففي ايام محرم او عاشور يوزع المسلمون الهريس والطعام على الجميع دون استثناء وفي اعياد المسيح واليهود والصابئة يوزعون الحلوى والعرازيل والرمان.. وغيره.
وكان المسيحيون هم واليهود الطبقة الوسطى والقلب النابض للمدينة يشاركون بفعالية تامة في جميع الانشطة كالرياضة والتدريس والسياسة.. ففي الرياضة اتذكر يعقوب منشي والكثير غيره وفي الدراسة كان اغلب المعلمين والمدرسين من اليهود والمسيحيين ،اتذكر منهم ناجي ايليا واخيه، وفي السياسية اتذكر جميل نوري الذي كان كادرا متقدما في الحزب الشيوعي العراقي.. وفي وثبة كانون تبين ان اغلب المثقفين والمعلمين اليهود هم من اليساريين حيث ساندوا ودعموا الوثبة بقوة.. وتوقف قليلا ليزفر بقوة قائلا: كانت علاقاتنا قوية ولم نكن نلمس فرقا ابدا فالمسيحين واليهود في البصرة كانوا هادئين ومؤدبين ويشاركونا كل ما نهتم به.. وقد تزوج اصدقائنا بمسيحيات ويهوديات دون مشاكل ،فضلا عن ذلك كان التجار اليهود في البصرة من احسن التجار واكثرهم تفاعلا ودعما للمجتمع وكانوا متسامحين في البيع والتسهيلات.. فانا شخصيا كنت اشتري كل ملابسي من تاجر يهودي في العشار اسمه مناحيم.. لجودة بضاعته ورخصها وتسامحه في عمليات الاستبدال اذا غير الزبون رايه بعد ايام او حتى اسبوع واغلب اهل البصرة يتبضعون منه.. ولم ارى بائعا مثله تستطيع ان ترجع البضاعة او تستبدلها بعد ايام او اسبوع دون مشاكل... ولعلي اشعر بالاسى الكبير لحد الان على اعدام الشخصية البصرية التي كانت محبوبة جدا من قبل اهالي البصرة التاجر المعروف عدس.. الذي كان يملك ترخيص شركة فورد بالبصرة وورشة لتصليحها والتي يقع مكانها حاليا في المجمع التسويقي بالعشار.. اذا كان معرضه يزدحم بسيارات الفورد. وكان شباب البصرة من الموسورين يذهبون له بمجرد وجود كفيل يستطيعون الحصول على سيارة بالاقصاد... ولقد عم الحزن الكثير من اهالي البصرة صبيحة اعدامه في مكان سينما الوطني الصيفي بمركز مدينة العشار عام 1948 بعد تفجير كنيس في بغداد وترويع اليهود وتلفيق تهمة راح ضحيتها اذا اشترى هو وعبد الهادي الجلبي والد احمد الجلبي السياسي المعروف حاليا مخلفات الجيش البريطاني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وكانت التهمة الموجهة له انه كان يرسل مبالغ بيع المخلفات الحربية الى اسرائيل وفي الحقيقة حسب ما سمعت من مسؤول امني لاحقا ان التهمة ملفقة من الموساد الاسرائيلي لزرع الخوف والرعب في قلوب اليهود العراقيين للهجرة الى اسرائيل... لاقى اعدام عدس موجه من الاستنكار الخفي.. والضحك على هذه التهمة التي الصقت به وهو ارسال المال الى اسرائيل.. كما لا ننسى الشخصيات البصرية اليهودية البارزة داود جوري وبيت الريحاني والحاج جيتا الذي اعلن اسلامه باكرا لكنه اعدم في السبعينات بتهمة الجاسوسية... وعلى الرغم من الاواصر القوية في مجتمع البصرة بين جميع مكوناته بما فيهم اليهود والمسيحيين ، لكن مؤامرات الموساد والسلطات العميلة سعت الى تفريغ البصرة من اليهود فقامت بالتهجير القسري والقوة والملاحقة. ولقد قاوم يهود البصرة عمليات التهجير هذه بل كانت اشبه بالاعدام لهم .. ومنهم من هاجر الى ايران والكويت والبحرين ومنهم من اختفى عن انظار الحكومة.. إذ بعد سنين قابلت معلمي اليهودي في المرحلة الابتدائية وكان قد غدا طاعنا في السن.. وبادرته بالسؤال والسؤال.. تصورتك قد هاجرت يا استاذ فرد علي بقناعة مطلقة انا عراقي ولدت هنا وساموت هنا.. كان شيخنا المهيب ذو الذاكرة القوية.. يحتفظ بالكثير من الذكريات عن البصرة في تلك الايام التي كان فيها الوطن يحتضن الجميع ولا يفرق بين ابنائه.. وكان الابناء كلهم وعلى مختلف مشاربهم يقرون بهذا الحق والجميع يحترم الجميع ويتشاركون في السراء والضراء.. واقسم الشيخ بانه لم يشهد في تلك الايام أي صراع او تكريس أو تنابذ طائفي او تنافر ديني ومذهبي بل كنا على الاغلب لا نفكر في هذا على الاطلاق لم اكن اعرف اصدقائي الى اي دين او مذهب او منطقة ينتمون الا في الاعياد او الاحزان.. كانت البصرة عامرة بالكنائس فعلى ضفة واحدة من جسر الخندق كانت هناك ثلاث كنائس.. وكان الكنيس اليهودي وسط مدينة العشار واخر في البصرة القديمة ومحلة نظران الشاخصة لحد الان كانت تضم مئات العوائل اليهودية وطراز البناء فيها (الشناشيل) ينم عن ذلك، ولم يقتل مسيحي او يهودي او مندائي بسبب طائفته او دينه... قطعا لم تسمع البصرة بمثل هذا ابدا.. وكانت محلتنا هذه نموذج رائع للتعايش والمحبة والوئام ..اتمنى لهذه الشابة المهاجرة من سهل نينوى ان تجد ملاذا في قلوب اهل محلتها كما كان في سابق عهدها. بعد ان روعها هؤلاء الظلاميون وسلبوا طمأنينتها وبيتها..وسكت وسرح في افكاره ثانية وهو ينظر الى بيتهم القديم كأنه يتمثل صوت امه الذي كانت تناديه.. كي لا ينسى القيام بخدمة جارتهم اليهودية فيهمس لنفسه (وليدي مو تنسه بيت ام حياة).. وتسقط دموعه دون حرج وبعاطفة جياشة لا تتناسب مع عمره الذي عاصر وسمع وعرف الكثير من المآسي.