ادب وفن

رحيم الغالبي وجسره الطيني / محمد علي محيي الدين

عن مجلة «الشرارة» التي تصدرها محلية النجف للحزب الشيوعي العراقي صدر ضمن مطبوعاتها ديوان الفقيد الشاعر والأديب الأستاذ رحيم الغالبي الذي اختار له عنوانا مميزا يوحي بما حوت دفتاه فهو (جسر من طين) ربما أعده ألغالبي من طين العراق الحري الذي تميز بأريجه الخاص وصلابته المعروفة... جسراً لعبور الجميع إلى شواطئ المحبة والسلام بعيدا عن الأقانيم الإرهابية المؤدلجة بلعلعة الرصاص وأزيز المفخخات ،وبحار الدم التي أغرقت البلد وأحالته إلى ركام.
والفقيد ألغالبي ليس بعيدا عن الهم الوطني ،فقد خاض معترك السياسة وناء كاهله بأعبائها ،وناله كثير من رذاذها ،فكان إلى جانب آخرين نأوا بأنفسهم عن الانغمار في ما غرق به كثير من الشعراء الشعبيين. فلم تنغمس أقلامهم في حبر العهر الصدامي ،وكانوا يعيشون على هامش الأحداث،بعيدا عن الوسط الثقافي الملوث بقيح الفكر ألبعثي الهجين،وكان صمته تعبيرا صارخا عن الاستهجان والرفض للانحطاط الذي وصل إليه الأدب الشعبي عندما أصبح عواء للقادسية خوارا لأم المهالك،ومزامير للقتل والدمار والفناء. فانصرف لمناجاة من يحب سالكا الطرق الضي?ة والدروب المتعرجة، ليحوم حول الهدف دون الوصول إليه في رمزية كانت معلما من معالم الشعر الشعبي يوم كان سيف الجلاد مشهرا على الرؤوس.
وما أن آن لدولة البعث أن تدول حتى انطلق الغالبي من جديد ليسهم في ما أسهم فيه غيره من الشعراء لتأخذ القصيدة مكانها في مسيرة الوطن وإعادة البناء. فكان له حضوره في المهرجانات الوطنية ،ومكانه في الصحافة العراقية ،وما كان لشعره أن يكون مباخر للحاكمين،أو جسورا للمتسلطين. فكان الرفض معلما لشعره بعد أن سارت الأمور في طريق آخر بعيدا عن الطموح لبناء الوطن الحر والشعب السعيد. فقد كان للتغيير أجندته الغريبة ،وتوجهاته البعيدة عن المصالح الوطنية،فكان للفسحة الجديدة من الحرية أن تأخذ الغالبي ليكون صوتا من أصوات الرفض لم? حدث أو يحدث من مفارقات.
والديوان على صغره فيه ملامح من تجربته الشعرية فهو يمثل فترات متباعدة من حياته ويرسم صورة لرؤيته الفنية ونزعته في التجديد والعبور بالقصيدة عن السطحية والتقريرية ، فهو نتاج المدرسة الحديثة للشعر الشعبي التي نأت بالشعر عن عفويته ومباشرته وانتقلت به إلى الصور الجديدة التي استلهمت التراث العالمي صورا للتعبير عما تريد ،وهذا الشعر ربما لا يجد رواجا للذائقة الجديدة لشعراء ما بعد الحصار ،فقد أستلهم هؤلاء صورا لا تتعدى الأطر الفكرية لشعب ناء بآلام الجوع والحصار والموت المؤجل فلجأ لسماء رأى فيها خلاصا مما هو فيه ?كان أن غرق في متاهات عادت بفكره لعصور الظلام والتخبط ،واستمد التصورات التي تجاوزها الزمن لتكون صورا باهته في أخيلة الشعر الشعبي لينكفئ بعيدا عن الحداثة وما وصل إليه العالم في تجاوز لها وعبور لمضامينها فكانت الصور الشعرية لا تتجاوز التفكير الشعبي الساذج لأحداث ما عادت تشكل شيئا في المنظور الفكري لطلائع القرن الجديد.
ولو تجولنا في «جسور الطين» لوجدنا أن الشاعر لم ينسلخ عن مدرسته القديمة التي تمثل النضج الفكري للشعراء الشعبيين فهو لا زال يسعى لتأصيل المدرسة وبيان ملامحها من خلال صوره التي تمثل رؤية فنية كاملة يستطيع القارئ تلمسها في الصور المجترة من واقع الحياة:
گال أعمى:
ارسم لي صورة... أتعجبت
من رسمت الصورة گلي فتشت!!
گتله ليش؟ أشلون؟ گلي:
الخير أجاك ... بس غشيم وفلشت

وهو شاعر الومضة بلا منازع،فقد أستطاع بمخيلته المكتنزة بالكثير من الصور اجترار صور من واقع الحياة فيمنحها لمساته الفنية ويخرجها بإطار جديد،والومضة قصيدة قصيرة تعبر عن واقع كبير لا يستطيع التجويد بها إلا القلة من الشعراء ،والغالبي منهم دون منازع،وومضاته حافلة بالمدهش من الصور الواقعية التي أستطاع توظيفها ليخرجها بإطار فني جذاب:
حبّيب حلو ومر
مثل الحقيقة
ضحكته اعله الگاع طاحت....
خضّرت كلها حديقة
أو قوله في أخرى:
هلگد حباب انته بروحي
حباب اتظل
حتى أغلاطك
تانيت و ممليه محاطك...!!
حسبالي أتورث بالدنية
مدريت :
مبلل شخاطك
أو قوله:
مسحت وبعيني الحلم
من مرت اسنينك مغيره
تگول طيرة ..!!
يبني بيت
ويسلب بحيطان غيره!!

وفي ورد النرجس يطوف بنا في عوالم من الروعة والجمالية ،فهو يستلهم رؤاه وهواجسه من محيطه المليء بالكثير مما يثير كامن نفسه ويجعله طائفا بين سواقي الروح وجسور الطين التي ما عادت كما كانت قادرة على المطاولة في مواجهة أعباء الحياة وما تفرزه الأيام في دورتها:
مثل ما يثلم الخبزة ..ثلم گلبي
صلاة الصبح حسبالك..
وأگابل بيها بس ربي
مسح بعيونه من يخزر
نبض گلبي
عذاب العمر گضيته
وعتاب الگاه بنص كتبي
رسم عالحايط من أبعيد
هواجس روحي نور وضي
مشه الحايط وظل ألفي!!!
عبرت شگد شواطي وياك
عافتي الجروح وثبت بس ألمي
مشت ليش الشوارع
ظلت الخطوات تتعثر بغربه وهم
صرت اطشر وألتم

وللتاريخ أود التنويه هنا بالوقفة الكريمة للأستاذ الكاتب صادق اطيمش السياسي العراقي المعروف، الذي اتصل بي عندما سمع بالحادث الأليم الذي تعرض له الشاعر ورقوده في المستشفى، فقد تبرع مشكورا بمبلغ من المال إسهاما منه في علاج الشاعر الى جانب أصدقاء أوفياء ولكن يد الموت كانت أسبق من يدهم الكريمة حيث توفي نتيجة الحروق الشديدة واخذ المال طريقه لعائلته الكريمة.
وقد كان لرحيله المفاجئ رنة حزن وأسى في نفوس أصدقائه وعارفيه ومحبيه، وأقيم له بمناسبة اربعينيته حفل تأبين شارك فيه عدد من شعراء العراق في مدينته ألشطرة، وبذلك خسر الشعر الشعبي شاعرا مجيدا كانت له بصمته في الذاكرة الشعرية.