ادب وفن

الموت عشقا / علي ابو عراق

على غير عادته التي الفتها عائلته واخوته على وجه التحديد.. كان حسين ابن حصموت الشاعر الجميل الذي انتشر اسمه كأريج ربيعي، يرجع من عمله في سوق المجر جنوب ميسان حيث يعمل بزازا يعود مثقلا مهموما وقد فارقت الابتسامات محياه الوسيم واكتست ملامحه بالضيق والضجر وعدم الرغبة في الكلام. وبعد ان كان يقضي الليل مع اخوته بالقفشات والدعابات الجميلة وقراءة اخر ما كتبه من شعر، حيث ابتدع ضربا من الشعر هو داخل حوزة الميمر من حيث الوزن، لكنه افترق عنه باضافة لازمة لكل بيت يقولها، وهي (البونخيلة) للحد الذي راح يسمى هذا النوع باسم البونخيلة وقد عرف باسمه.
اصبح شاعرنا يميل للصمت والعزلة والانطواء على نفسه والانصراف عن اخوته والتجافي عن امه وابيه، اللذين كانا يميزانه عن باقي اخوته بسبب حسن اخلاقه وسلوكه وطاعته لهما، فضلا عن كونه شاعرا ومتعلما وموضع احترام وتقدير وسطه الاجتماعي في السوق الريفي الصغير او في قريته التي لا تبعد كثيرا عن السوق. وتملك القلق عائلته وراح ابوه وامه يستعطفانه من اجل توضيح اسباب عزلته وضنكه بل مرضه الذي بدأ يأكل جسده ويقعده حتى عن الذهاب الى العمل. وكان الاب المسكين يسرف في محاولة استنطاقه لمعرفة اسباب كل هذا ولكن الشاعر كان يكتفي بقول ابيات من الشعر دون توضيح مكنوناته او دواعيه.. فكان يردد:
البو نخيله على المتن وتلالي
وهم العله كلبي جبل وتلالي
نكطة نده بورْكة شهف وتلالي
وفيروزة الكبل الفجر ما تِنْطر
وحينما يسمع والده هذه الشكوى يتفصد الما وخوفا على ولده، فهو يعرف صدق مشاعر ابنه واخلاصه..فيلح بالسؤال: وليدي، سايم عليك جدك رسول الله، آنه ابوك إحچيلي شبيك!)
ولا يجيب حسين ابن سيد حصموت بل يكتفي بقول بيت آخر من شعره
البو نخيلة اعلى المتن يا ربي
وسطر على الكذله ذهب يا ربي
لا كون تقسمها الي يا ربي
ثويب كتان وعلي مكدر
فتزداد حيرة والده السيد حصموت... فيلح عليه بالسؤال وهو يستشعر خطورة الموقف. فولده في نزول مستمر والمرض يغزوه بسرعة ويفتك به بصمت.. ويصرخ به سيد حسين حذراً وليس غضبا: يا هي هاي السوت بيك هالشكل وليدي.. فيحدق حسين في وجه والده مليا.. وتطفر الدموع من عينيه ويقول:
البونخيله على المتن ورد إلْها
اتدوس على الصبخة ونبت ورد الها
يا ريتني بطرف الخشم وردة الها
تمصني بشفايفها واحب المكشر
ويستمر في قراءة بيت آخر
البو نخيله اعلى المتن شامه الها
ولعـبت بـراسي لعـبـة الشامـلهـا
حصـموت بـويه چي شفت شامه الها
حـدر الجفن بيـه ثـلث اصابع وأكـثر
واردف ببيت اخر... وابوه يتمزق رعبا وخوفا عليه وينشج من الانفعال
البو انخيله اعـلى المتـن لاويـتـه
وجلدي اعلى عظمي يـاخـلگ لاويـته
عـمدا زلـفـهـا للغـوى لاويتـه
چالريش بـرهـان بـنـِدا ومسـطـر
واصيب والده بالجزع فصرخ فيه وهو يبكي بصوت عال: ايه بويه كلي منين هاي الماخذه عكلك ومرضتك...امشي عليك جدك محمد. قال حسين بصوت متهدج تحت الحاح وتوسلات ابيه التي تجاوزت الحد: بويه آنه حبيت وحده من السلف وهي فلانه بت فلان اليهودي، وآنا محتار يابويه، ونار البيه چانونها موجر، لو أتزوجها، لو هذا حدّي ويه الدنيا.
هذه القصة حدثت منتصف القرن العشرين..مما يشير بشكل قاطع الى ان المجتمع العراقي كان مجتمعا متنوعا يحكمه الانسجام والالفة وعدم الاستجناب.. فترى المسيحي والمندائي واليهودي يعيشيون جنبا الى جنب، ومما يزيد هذا الرأي ان هذه المنطقة هي منطقة موغلة في الريفية وتحكمها تقاليد واعراف قوية التأثير، لكننا نرى ان العيش المشترك لغالبية مكونات المجتمع العراقي هو الاساس.. او هو الذي يقود الاعراف والتقاليد.
اصيب سيد حسين بالصدمة فماذا يفعل مع هذه المشكل الكبير... فولده يتداعي يوما بعد يوم وصحته تتبخر... وهم سادة لا يتزوجون من المغايرين دينيا.. واليهود ايضا يفعلون ذات الشيء...
فكر طويلا وقال: لا بد ان انقذ ولدي وبأي ثمن..ولو على حساب الاعراف والتقاليد.. ولو على حساب أي شيء... وجمع وجوه العشيرة و(سـيّر) الى بيت اليهودي. فما كان من اليهودي وهو كأي عراقي للضيف عنده مكانة كبيرة حيث فتح مضيفه على مصراعيه ونحر الذبائح وقام بأصول الضيافة على أكمل وجه، وعندما نُصبتْ (صواني القوزي، والهبيط، والتمن العنبر بالدهن الحر)، قال السيد حصموت: (ما نضوگ الزاد إلا تنطونه اللي نريده) رد اليهودي: (أطلب يا محفوظ)، قال السيد: (ياخيـّر.. إحنا جايّين خطـّابة لبنتك فلانة لإبني حسين)، ففوجئ الرجل اليهو?ي بهذا الطلب وأطرق قليلا ثم رد قائلا: (سيـّد حصمـوت أنت زلمـه تعرف الأصول وأنت ابن رسول الله، واحـنا نـاس تعـرف ديـنـا ايحـرّم الزواج منكم، ولا دينكم يقبل بالزواج من عدنا، والعـارف ما يتعرف). فردّ عليه السيد حصموت متلمسا: (يعمي إبني يريد بتكم، والولد طريح فراش، واذا تريد مال، عندي سبع بساتين، أخذهن كلهن مهر لبنتك، وابني لو رجعتله خالي چفيلك الله يموت، وظلت انت وبختك)، فامتنع الرجل اليهودي بشكل قاطع، ورجع سيد حصموت خالي اليدين وهو بالكاد تحمله رجلاه ودخل الأب على إبنه بفراشه وقبله في جبينه وقال والعبرات تخن? صوته
البو انخيله اعلى المتن موش الـنـه
وهـذا التريـده يـاولـد موش الـنـه
اللـبن صافي ولا تظـنـا انـشـنـّه
وكـلمـن أصـيل بفعلـته يتجـذّر
وظل شاعرنا حسين ابن حصموت فارس شعر (البو نخيله) الذي ذاع صيته في الجنوب والوسط وراح الشباب والشيوخ يتبارون في حفظ اشعاره واذاعتها لما فيها من معان جديدة للعشق والغرام ولما يتخللها من جمال ووله، والتي تقترب حسبما ارى من الشعر العالمي لما فيها من رقة العاطفة وجزالة القول وجمال التعبير ورشاقة المعنى. ظل شاعرنا تحت وطأة عشقه واحاسيسه المتوهجة وقلبه المستعر. يعاني من الوجد والمرض ويذوي يوميا كنبتة شح عليها الماء.
كان يموت تدريجيا وبصمت تحت انظار عائلته دون ان تتمكن العائلة والقرية من فعل شيء، فللتقاليد والاعراف سلطتها المدمرة احيانا... وفي صبيحة زاخرة بالعتمة والمطر.. لفظ الشاعر حسين ابن سيد حصموت انفاسه... فكاد ابوه وامه ان يموتا من فرط الحزن واللوعة وقد هجرا الديار الى ديار اخرى... وقال والده بيتا كان بمثابة دعوة على اهل المجر..وقال معمرون من تلك النواحي ان دعوة سيد حسين لم تذهب سدى بل تحقق كل ما فيها وهي تقول:
يـابو انخـيله اعلى المتـن من ديـره
والـولـم لعـظـام غـيـرك ديـره
يـل ما حفـظـتي حسـين غـمـّچ ديـره
نشفنْ شـطوطـچ والشجر ما أثمر
ومن الجانب الثاني اورد معمرون ان معشوقة حسين اليهودية التي لا نعرف لها اسما ولا رسما الا من خلال اشعار حسين، انها قد توفيت هي الاخرى في اليوم الذي سمعت بوفاة حبيبها... ويؤكدون ان الاثنين دفنا بالقرب من بعضهما.. ومن يمر قريبا من تلك القرية يرى قبرين تظللهما نخلة تضم رفات العاشقين اللذين قضيا عشقا.. وحولت مقبرتهما مزارا او مكانا لمواعيد العشاق في تلك النواحي.