ادب وفن

الحبكة ومرآة النص / جاسم عاصي

أساس السرد هو الحبكة كما ذكر «بور ريكور»، ونذكر أن الأساس الأهم هو مجموعة التبئيرات التي يخلقها السارد عبر مسار نصه، أي مجموع الحبكات، حيث لا يكتفي بواحد من التبئيرات من أجل خلق الحبكة، وإنما يشكلها من هذا المجموع. وهذا ما فعله القاص «علاء مشذوب» في قصته «ذباب وبطل» المنشورة في ملحق «ثقافة وأدب في صحيفة الصباح العدد 2014 في 3/9/2014» وهي قصة تستخدم النص الآخر ، ونقصد به نص الكاتب «نجيب محفوظ/ رواية حضرة المحترم»، صورة لتماثل نموذجها مع نموذج الرواية.
صحيح أن الكاتب اعتمد التناص في كتابة نصه لكنه اجتهد في صياغة المصطلح، ووضعه موضع الفرشة الأوسع في مسار النص. بمعنى اتخذه مرآة عاكسة للنموذج في النص، وهو يراقب ذهنياً بطل «محفوظ» من هذا نرى أن فكرة التناص لم تكن لتمثيل موقف فقط، وإنما حاول الكاتب إخفاء نموذج النص وتواريه في نموذج محفوظ، مظهراً إياه من خلال التمرئي، فكل ما يحدث للنموذج في النص، يرتبط بنموذج آخر. وبهذا كانت الشخصية المركزية القريبة منّا منعكسة بتفاصيل واضحة، ما زالت تتمثل شخصية محفوظ. فما نراه على الشخصية الثانية، نجده يماثل الشخصية الأولى. وهو تناص ذكي كما أراه يكشف عن صيرورة النموذج عبر صيرورة الآخر.
إن تحقق وجوده واضمحلاله ــ كما سنرى ــ مرهون بتدهور حال الشخصية الأولى وتماثلها مع تدهور الأخرى. بمعنى ثمة ظاهر في نص الآخر، ومسكوت عنه في النص.
شخصية النص تعاني من فقدان عناصر الوجود، بعد أن تزوج بشابة وهو كبير في السن. ولأنه كما يبدو معطّلاً جنسياً، فثمة فارق بين رغبة الزوجة الخائبة في علاقتها معه، وبين خيبته التي يجدها في شخص «بيومي» الموظف الذي يعاني من نفس المشكلة. ولكي نفهم الشخصية الثانية، يعمد السارد إلى كشف ذلك عبر قراءته لرواية محفوظ، التي تنقطع بسبب تأثير الزوجة عند الشخصية الحاضرة معنا في النص. أما ردة فعله فيكون بقتل الذباب الذي يُفسد عليه خلوته مع النموذج في الرواية. مما يولّد ليس تقاطعاً، بل تصادماً بين الاثنين. وهو سلوك طبيعي حين يتوفر الفارق في كل شيء بين زوجين. تتأسف الزوجة من الاقتران به، مخفية بطبيعة الحال السبب. وهو سبب يتكشّف عبر مسار نفسي، سواء كان ذلك للشخصية القريبة منا، أو شخصية «بيومي» في النص الآخر. العقدة عند الاثنين متركزة في مستويين. في الأول محنة الزوجة مع زوجها، وظهور ذلك عبر حالة الزوج الذي يغمر في نموذج محفوظ، واجداً فيه ضالته التي تلبي له رغبته في مكاشفة ذاته، على الرغم من فوات الأوان. ومستوى الحالة الوظيفية التي يعاني منها «بيومي» منذ تعيينه الأول، وهي أن يصبح مديراً عامّاً . وهذه بطبيعة الحال رغبة نموذج النص أيضاً وهي رغبة مضمرة، وغير معلنة في أية إشارة. بل كل ما يفعله هو تركنا ننظر ونتطلع في المرآة التي وضعها السارد الأول، وهو الكاتب، لكي تكون شاهداً على حراك ذهن بطله.
في الصراع مع الذباب، نراه شأناً جانبياً ، أو لا مركزياً في النص. فبين القراءة واستمرارها كشف للمضمر، وبين تكالب الذباب يتحقق حدث المعطِل الوقتي في فعل الشخصية. لذا فهو تعطيل يمكن الخلاص منه ، بدليل طلب المنشّة البلاستيكية لضرب الذبابة لحظة تقف على أي جزء من جسده. هنا يتحول حدث الصراع هذا بما يشبه المركزية، لأنه أساساً يجمع تعطيل كشف شخصية «بيومي» المطابقة لشخصيته في الهموم وإشكالية العلاقة مع الزوجة. وقتل الذباب، هو فعل الممكن . لكنه خلق لديه ظاهرة أخرى. وهي حركة الحيوات الصغيرة «النمل» الذي يحفل بموت الصرير «الذباب» وهو صراع مستنبت من أجزاء وليس من كلّيات. ويعني الجدلية التي يحققها الصراع في الوجود. وهذا ــ برأيي ــ يؤكد جدلية الوجود، والصراع القائم على تحقيق الوجود العام من خلال صراع الصغائر التي تؤدي إلى صراع الكلّيات . فلا يقتصر النظر إلى المكوّنات الصغيرة فقط في الصراع العام في المجتمع. ولا النظر إلى المكوّنات الكبيرة بأهم. المهم هو النظر إلى حركة الواقع ، وكيفية صعود هذا ومزاحمة ذاك ، وتواري هذا، وانبثاق غيره . وهذا ما يحدث في الصراع السياسي على السلطة، غير المبني على أسس جدلية في مكوّن الوجود .
إن الكاتب أكد ذلك في مداخلة احتوتها القصة ، في مجال النشاط المدني ،أو المجتمع المدني كما وصفه . لكني أنظر إلى المكوّن الأكبر والأساسي في صراع القوى . فالخطأ يعني نتاج المركّب الخطأ، وخاصة في السياسة ، لأنه ترتبط بمصير الجماعة.
إننا إذ نراقب الشخصيتين ، ولا نفرق بينهما ، بسبب الحبكة أولاً، والمداولة والمداورة التي يعمل عليها الكاتب في التناص، الذي لا ينفك في ملاحقة النموذجين، وكأنهما نموذج واحد، بسبب ما وضعه من مرآة يتشوف فيها الأول في الثاني .ويكون مسار النص بنيوياً من لحظة بدء القصة، والتحكم في مسارها «كان الدبيب الذي يتركه الذباب، وهو يقف على إحدى ساقيه أو كليهما، يثيره» مقابل «أعاد بحثه عن السطر الذي أضاعه بعد أن شتت ذلك الدبيب تركيزه» ونجد في هذا نوع من التوازي أولاً، وعدم اليأس ثانياً . فالنموذج لا تتعطل عنده حالة البحث والتواصل مع مجرى الرواية ، لأنها ضالته التي تُبعد عنه الارتباك . وتعاود الحالة وجوده التي تعمد على إرباك قراءته ، بمعنى إرباك بحثه «وما أن أتم نهاية السطر ، حتى عاد الذباب على وجهه. هشه بيده مرة أخرى دون أن يترك السطر» وفي المقابل يقارن وبشكل خفي بينه وبين بطل محفوظ ، لكي يحوّط وجوده بالأمان مقابل عقوق الزوجة «يلاحق دناءة بطل نجيب محفوظ في رواية حضرة المحترم» ثم «وتألم كثيراً على الدونية التي يشعر بها بطل الرواية ، وكيف أنه يتجه لحتفه وهو يعلم ذلك» هذا المسار السردي الذهني في تصوّر « بيومي « يعمل على تبرئة موضع النموذج ، خاصة مع زوجته . وقد نثر السارد مجموعة أفكار عكسها على «بيومي» وهي أفكار نموذجه في النص، إضافة إلى وجهة نظره في المجتمع المدني مثل «فقد اكتشف عثمان بيومي بطل رواية حضرة المحترم ؛ أن لا قيمة له في الحياة المقدسة ، التي هو اعتقدها أنها مقدسة. كذلك مقارنة دأب النمل في جمع طعامه الذي هو طعام الآخرين من بني جنسه دون أنانية» وبين ما يراه في واقع الحال. مقابل ذلك لم يذكر نوع من المقارنة بين واقعين ، لكنه ذكر «تذكر قول محفوظ كونه الراوي العليم بكل شيء في هذه الرواية ؛ من أن المجتمع المدني فكرة حديثة ، وهي مخالفة للدين , لأن الله خلق الإنسان فرداً ، وسيعود للقبر فرداً، ويحاسب فرداً» وما إلى غير ذلك من أفكار ورؤى، عكسها نموذج القصة ، مستعيناً بنموذج محفوظ .
لقد واصل الكاتب سرديته مستعيناً بسارده في النص ، وفق حبكة قصصية، متكئاً على لغة بسيطة وبليغة. إذ يعبّر عن المشهد والفعل ورد الفعل بما يناسبه من جملة قصصية، بل مفردة .. مفردة كما لو أنه يعمل بمقياس الميزان وليس بقياس السردية ، بقياس حياكة السجادة اليدوية. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى، حافظ على مستوى تأثير التبئيرات التي سيطرت على نمط السرد في حالة حصوله، لأن السرد في هذا النص قد تعامل مع شخصيتين نمطيتين في شخصية واحدة. وآخر ما استعان بصورته، هو نهاية « بيمومي « كما لو أنها متحقق لنهاية نموذج النص وكالآتي «أضاء المصباح الخارجي نوره إعلاناً بمجيء الكهرباء، بعد انقطاع لأكثر من أربع ساعات. لكن الأسطر الأخيرة من الرواية كانت تًعلن أيضاً إزاحة الملاءة البيضاء من على صدر بيومي إلى مفرق رأسه».
هذه الضربة أتاحت لنا فرصة التأمل في نموذج النص، وسط حياة مرتبكة تماثلاً مع شخصية «بيومي» في رواية محفوظ.