ادب وفن

الولع بقراءة الرواية / أحمد خلف

من الجدير أن نسأل أنفسنا قبل غيرنا: من أين يأتي إلينا هذا التعلق بالكتب وتحديدا الروايات التي امضينا الليالي الطوال في قراءتها وهي من السخاء بحيث تمنحنا الفرصة تلو الفرصة لأقامة علاقات نادرة مع ابطالها وبطلاتها وكذلك السياحة الى تلك المدن العريقة بالحب والخير كباريس ولندن وموسكو وبراغ / مدينة الروائي المدهش فرانز كافكا , صاحب رواية المسخ التي حيرتنا في ستينيات القرن العشرين وجعلتنا ندرك ان كل شيء في الفن الروائي ممكن حدوثه , وفي الفن عموما لا يوجد مستحيل وكذلك لا يختلف اثنان على أن هذا النوع من الفن قادر الى منحنا متعة نادرة وبعضنا لجأ اليه تعويضا عن صبابات وامنيات مفقودة وما اكثر الأماني الضائعه في طفولتنا وشبابنا في السنوات العجاف تلك؟
بالطبع يوجد أكثر من رأي يخص هذا الشأن، ولعل من أبرزها التصور المعروف بين الأدباء والمثقفين؛ وهو: ــــ انعدام وسائل الترفيه والمتعة والتسلية في طفولتنا ومطلع شبابنا، لأن أغلب المثقفين العرب ينتسبون إلى الطبقات الفقيرة أوهم أبناء شغيلة. وأنا أتفق مع وجهة النظر هذه بدافع من طفولتي الخالية من وسائل الترفيه. نعم، كان الأمر كذلك إلى أن جاء الى مدرستنا سيد الشعر والجمال؛ أعني أستاذي في المرحلة المتوسطة في منطقة الكاظمية ومظفر النواب هو الذي قدم لي روايتين، هما: «وتشرق الشمس أيضا» لهمنغواي، و«أفول القمر» لجون شتاينبك، الأول علمني معنى الاهتمام والعناية باللغة القصصية، والثاني نبهني لسطوة النازيين الغزاة، وأظن إنني من هنا تعلقت في مطلع شبابي بكتب اندريه مالرو ودخوله على مفهوم الحرية والمغامرة الإنسانية، وهو الذي قادني إلى كتب سارتر، والانشغال الشديد بكل ما ترجمته بيروت والقاهرة للوجوديين الفرنسيين: سارتر، والبير كامو، وسيمون دي بوفوار، وكذلك كافكاالذي تعلقت برواياته ردحا طويلا من الزمن, القصر وامريكا اضافة الى رائعته المسخ او التحول كما في بعض الترجمات العربيه واسلوبه الغامض غموضا محببا هو ما يدفعنا الى القراءة والمتابعه، اعتقد ان كافكا سبق الكثير من الروائيين الحديثين بالاستفادة من تقنية الرواية البوليسية ومعظم ما كتب كافكا من قصص وروايات تنطوي على نوع من استثمار الثيمة الأساس للقصة البوليسية.. في تلك المرحلة المبكرة،أو روايته المعقدة جدا (سارتوريس) أخذت بمقولة سارتر حول الالتزام والحرية في الاختيار، الذي نبهني لدستويفسكي، ووليم فوكنر الذي قرأت له مقولة، شاعت بيننا في ستينيات القرن العشرين: «أنا أجدف عكس التيار لكي لا أشبه دستويفسكي». قرأت هذه العبارة الاستفزازية قبل أن أقرأ لفوكنر «الصخب والعنف»، أو رائعته القصصية وردة لإيميلي». لكن في عام 1983 حصل لي حادث مروري أقعدني لثلاثة أشهر في البيت، قرأت فيها الروايات الأربع العظمى لدستويفسكي: «الجريمة والعقاب»، وكنت قد قرأتها مع ذكريات من بيت الموتى عام 1978، ثم رواية «الأبله»، و«الأخوة كرامازوف»، و«الشياطين». لكن دهشتي تمثلت بعد أن أغلقت الصفحة الأخيرة لرواية «الأبله»، وما تركته صفحاتها الطوال من أثر في نفسي وعقلي، ظننت أن هذا سيمحى تحت تأثير تقادم الزمن، ولكن هيهات! فقد انحفرت الصورة التراجيدية للأمير ميشكين في الأعماق البعيدة من روحي ووجداني حتى الآن، وحين قرأت «الغريب» لألبير كامو تذكرت جيدا العبارة التي قفزت من فمي تلقائيا: «ها هو الابن الضال» للأمير ميشكين، وخيل إلي لفترة طويلة من الزمن، أن كامو لم يكتب رواية «الغريب» ما لم يولع بدستويفسكي ولعا استثنائيا حد الهيمنة.. ترى هل يكمن في دواخلنا ميشكين خاص بنا اي هل نحن كالمسيح عليه السلام ومن: (معذبو الارض)؟ أم هي مقدرة الروائي العظيم على خلق حوار إنساني عميق فيما بيننا وبين أبطاله المسحورين بالجدل والماورائيات؟ هذا الكاتب المأخوذ بالمسيحية، وبالسلافية، والتصدي للتناقض بين الأشياء في رواياته، ونحن إذ نعدد تلك الصفات إنما نريد أن نرسم له صورة قبل الإحاطة بصورة ميشكين الذي هو عنوان التناقض الصارخ على العذاب البشري: «وهناك الكثير مما يوحي بانقسام شخصية ميشكين، وكل ما نجده لديه من ازدواج هو برهان على بشريته وعدم كماله ومشابهته للناس المحيطين به». (موري كريفر من كتاب دستويفسكي، تأليف: رينيه ويليك) أحسب أن دستويفسكي الذي رافقني أكثر من خمسين عاما من القراءة وتعلم الدرس الأدبي، قد ترك أثرا بليغا على ما كتبته بدافع من تعلقي برواياته التي أعود إليها بين حين وآخر مثلما يحدو بي الشوق القديم إلى كتّاب وروائيين آخرين، فألتمس العذر لنفسي إذا ما تأخرت في العودة إلى ستاندال وملفل أو هرمان هسه وتوماس مان ونجيب محفوظ والأخير مع دستويفسكي لهما صورتان في صدر المكتبة، دائما تعيد عليّ الصور، كل صور الروائيين الأفذاذ تلك السنوات التي كان لها طعم خاص حيث نستند جميعا الى ظاهرة الاستعارة بيننا بلا تردد، فأنت حالما تنهي الجزء الأول من رباعية لورنس داريل، جوستين مثلا عليك ان تعيره الى اقرب صديق يمكنك استعارة احد روايات البيرتو مورافيا مثلا ذلك هو العرف الذي كان سائدا في سنوات الستينيات من القرن المنصرم ..
أعود ثانية وأقول الأجدر بنا التوجه بالسؤال الى انفسنا عن حقيقة ولعنا بالروايات، إذ كلما قرأنا رواية جديدة صارت دافعا نحو قراءة رواية اخرى، كأننا لم نقترب من الروايات من قبل أو لم نكتب بعضا منها؛ حيث أصبحنا زملاء لأساتذتنا بكل جدارة وحق، وها نحن مرة وثانية نضع ايدبنا على سر تعلقنا بفن قراءة الرواية ذلك اننا نجد انفسنا فيها او نعثر على ضالتنا من خلال مشاهدها الدرامية او حتى الرومانسية الرقيقة الملمس والشعور المتعالي ازاء حكمة تنطوي عليها صفحات الرواية التي ما زلنا نقرأ سطورها المضيئة حتى الان ..