ادب وفن

حسين مردان.. رائد الحداثة الشعرية العربية / سعد عودة

أن تكون سنة مماتكَّ هي نفسها سنة ولادتكَّ ولكن بصورة مقلوبة تدركُ ان حياتكَّ يتجاذبها ضدان "الحياة والموت وربما الماضي والمستقبل", وان هذه المسيرة بين الولادة والولادة، أو بين الموت والموت لابد أن تحمل من العمق والثراء ما يجعلها خارج إطار الزمن وتحمل كل بصمات الإبداع.
هكذا كانت حياة حسين مردان بين سنة ولادته 1927، ومقلوبها التي نسميه اعتباطا عام وفاته 1972.
حياة من الشعر إلى الشعر, حياة فيها من العمق والإثارة ما يجعلها متحركة وفاعلة وتؤسس لكل ما هو جديد ومتغير..
اليوم لا أريدُ أن أتكلم عن حياة حسين مردان لكنني أريدُ أن أعيد له حقه وأرفع عنه الظلامة التي جعلت منه هامشا وهو في حقيقته كان يتقدم الجميع.
حسين مردان الرائد الأول للحداثة الشعرية العربية، هذا هو العنوان الذي يجب ان نضعهُ أمام هذا الاسم كلما مرَ بنا, هذا الشاعر المتمرد الذي أسس لكل ما هو جديد في الشعر العربي ولكن بشكل واعي ومن دون الانزياح الكامل للتأثير الخارجي، ففي الوقت التي أنسلتْ من مقاهي بغداد قصائد السياب والبياتي في الشعر الحر عام 1947 كان هو يخطط لثورة فكرية لا تخرج عن النمط التقليدي عندما أصدر ديوانه قصائد عارية عام 1949 ليعلن ثورة عارمة على المضمون قبل ثورته على الشكل التي جاءت بعد سنتين عندما اصدر مجموعته "صور مرعبة"، وأطلق على هذا الشكل الجديد بالنثر المركز ثم توالت دواوينه على هذا الشكل الشعري الجديد.
عزيزتي فلانة 1952, الربيع والجوع 1953, نشيد الاناشيد 1955 , قبل ان يصدر له مجموعة من المقالات تحت عنوان "الازهار تورق داخل العاصفة" عام 1972، وهنا أريد ان أبثُ لكم مجموعة من آراءه التي تدور حول الشكل الجديد في الشعر.
1- يرى حسين مردان ان الشعر الحقيقي ينطلق من الأرض التي تحتوي الشاعر ويجب ان يأخذ ملامح هذه الأرض وان التأثيرات الأخرى هي لتوسيع الأفق فقط حيث يقول:
"أريد ان نعطي لشعرنا ألوانه الثابتة من حقيقتنا ومن أرضنا ومن مجتمعنا قبل أن نمد أيدينا الى أدب الشعوب الأخرى والاستفادة منه من الناحية الأدبية والفكرية".
2- ان مهمة الشاعر مهمة عالمية لا يجب ان يحتجزها برؤية ضيقة بل عليها ان تنفتح على كل الافاق والرؤى وتنطلق نحو كل المساحات المأهولة بالجمال حيث يقول:
"الشاعر المحارب في عصرنا يجب عليه ان يتغاضى عن السماء ويرتدي الدرع ليقاتل كل مستكلب يريد رش الكبريت فوق حدائق العالم".
3- حسين مردان يؤمن بأن الكلمة هي الوحدة العضوية الأولى التي يجب ان يتعامل معها الشاعر وهي وحدها التي تستطيع ان تؤسس لرؤية خارج إطار الأشكال الثابتة والتراكيب المستهلكة حيث يقول:
"الشعر الحديث يرتكز على ممارسة الولوج في نواة الكلمة ,وحدها تعلن التمرد على القديم لأنها المبضع المقدس لفصد عروق التقليد وسحب الدم الميت, لذلك فأن عدم شحن الكلمة الشعرية بنصيب من الوعي يُضعف حيويتها في الإقناع والتثبت".
4- على الشعر أن لا يسقط في خرائب الماضي بل عليه ان يحدد أوراق تجدده دائما وعليه ان يتمتع برؤية شاملة نحو الوجود حيث يقول:
"الشعر لا يعيش في الخرائب وفوق أشلاء الأطفال وفي الخيام البائسة التي يتكدس فيها أحفاد أولئك الرجال الذين ولجوا الموج المظلم لينشروا النور في كل مكان بواسطة مجذاف من خشب الصنوبر".
5- حسين مردان يرفض الموسيقى التقليدية القائمة على نظام الفراهيدي ويسميها بالموسيقى التزيينية ويطلب ان تكون الموسيقى كالنبض الحي للنص وان كل نص يجب ان يخلق موسيقاه الداخلية حيث يقول:
"ان الشعر الحديث هو شكل قبل كل شيء, أي قبل ان يصبح معنى أو مضمون وعليه فهو أذا موسيقى وهذه الموسيقى ليست بالضرورة تزيينية بل هي بمثابة النبض الحي في القصيدة وبما ان الموسيقى الداخلية غير ملموسة لأنها تتولد من التنظيم التي تستجيب له الكلمات بعد عمليات التفصيل التي يقوم بها الشاعر لذا فأن رقة الموسيقى وخشونتها ترتبط بالحالة النفسية أثناء الخلق".
6- يرى حسين مردان ان الصورة الشعرية يجب ان تمتاز بالتوسع والثبات ويجب أن تسحب المتلقي إلى أفق أكثر سعة وتضعهُ في منطقة الدهشة القائمة على المعرفة دون ان تسقطهُ في بئر اللامعنى حيث يقول:
"ان الصورة الشعرية التي لا تكتسب أصالتها من قابليتها الفذة في التوسع والثبات لن تستطيع ان تغزو الذهن او تستقر فيه مدة طويلة وخاصة عندما تأتي مسلوخة من جوها الموسيقي".
هذه بعض آراء حسين مردان في النص الشعري الحديث, ليس هذا فقط بل انه وفي كل كتاباته الشعرية كان يتمسك بهذه الرؤى ويؤسس لشكل شعري قبل سنوات من ظهور ما تسمى بقصيدة النثر او الشعر المنثور.
ففي عام 1957 اصدر انسي الحاج أولى محاولاته في مجلة "شعر" كما ان أدونيس بدأ بكتابة هذا اللون من الشعر عام 1958 ثم تبعهم يوسف الخال وآخرون, أما حسين مردان فقد اصدر عدة مجاميع في الشعر المنثور في الفترة مابين "1951- 1955" اي قبل محاولات انسي الحاج وادونيس بحوال الست سنوات ..
لقد نظم حسين مردان "صور مرعبة" على نمط لم يُعرف له اسم بعد لذلك أسماه "بالنثر المركز" ويقرر انه خلقه خلقا بمعنى انه ذهب إليه دون سابق عادة او قدوة او دعوة.
مع العلم ان مصطلح قصيدة النثر أطلقه أدونيس عام 1960 في مقال له في مجلة شعر تحت عنوان "في قصيدة النثر".
هذا يعني ان الشاعر العراقي مردان كتب مجاميع شعرية كاملة في النص النثري قبل اطلاق التسمية بتسع سنوات مما يجعله الرائد الحقيقي لهذا الشكل الشعري واعتقد ان علاقته المميزة مع عبد الوهاب البياتي والسياب رواد الشعر الحر 1947 هي من منعته من إطلاق كلمة قصيدة على ما كتبه عام 1951 اي بعد اربع سنوات من ظهور الشعر الحر.
والغريب ان عدد قليل جدا من النقاد والشعراء الذين اعترفوا بهذه الريادة لحسين مردان بل ان الأغلب الأعم اعترفوا بريادة جماعة مجلة "شعر" متجاهلين أو متناسين ما طلقه مردان قبل سنوات بمجرد أن مردان نفسه لم يطلق على ما كتبه كلمة قصيدة بالرغم انه يحمل كل مقومات النص النثري الذي أطلقه ادونيس وانسي الحاج بعد ذلك.
كانت رؤية حسين مردان قد تجاوزت الأشكال الأولى للنص النثري الذي يعتمد على التغريب والرمزية الى بساطة التراكيب رغم جديتها وتأثير الصورة المتحركة والفاعلة والمؤثرة,والذي تحيز له الشعراء التسعينيون والحقيقة ان الصورة الحاضرة لقصيدة النثر قريبة جدا مما انتجه حسين مردان في بداية الخمسينات.
إذا كانت جماعة مجلة "شعر" هي من احتلت الجزء الأوسع من التأسيس للحداثة الشعرية العربية فأن جماعة الوقت الضائع 1946 والتي قام بتأسيسها مردان مع مجموعة من الشعراء والقصاصين والرسامين والتي اتخذت في مقهى في منطقة الاعظمية اسماها مردان "مقهى الواق واق" كانت الصرخة الأولى التي أدت إلى إنتاج الحداثة ليس في الشعر بل في مجمل مجالات الأدب والفن ,والحقيقة ان قوة الإعلام العربي هو من ابرز جماعة "شعر" وسحب البساط من تحت أقدام جماعة الوقت الضائع واعتقد أيضا أن ابتعاد حسين مردان من الارتباط بأي حزب سياسي قومي أو علماني أو حتى ديني هو الذي ابعد الأضواء عنه فبالرغم من ميوله الماركسية أحيانا والسارترية أحيانا أخرى لكنه بقى طائرا حرا في سماء الإبداع والتجدد.