ادب وفن

السلطاني: قصائد عواد ناصر مسكونة بالناس وتحولاتهم / عبد جعفر

 

 

تحت عنوان مثير للدهشة (أحوال الشاعر وساعاته الشعرية، وقصيدته الضائعة بين الهور والجيل و الغربة) إحتفى زبائن المقهى الثقافي في لندن بالشاعر عواد ناصر، وذلك يوم 28- 9/ 2014 وقدمه الشاعر فاضل السلطاني. وبعد الترحيب بهما بأسم زبائن المقهى من قبل الفنان فيصل لعيبي.
أكد السلطاني في تناول طبيعة القصيدة عند عواد ناصر والمشهدية فيها:
إن مقاربة قصيدة عواد، أي طريقة القراءة، تساعدنا على فهم و تذوق وعدم التذوق قصيدة ما. فنسبة من القراء يبحث عن صورة شعرية، وأخرعن الرنين الموسيقى العالي، والبعض يبحث عن التعبير البلاغي وأخر عن الوحدة العضوية أو النمو العضوي للقصيدة. وطبعا مقاربة القصيدة الحديثة تختلف تماما عن ذلك. لكننا عموما أو بسبب تربيتنا وثقافتنا وتراثنا، مازلنا حتى دون وعي، نبحث في القصيدة عن بعض من ذلك، وأعني بذلك عموم القراء وحتى قسما من نقادنا.

القصيدة المشهد

وأوضح السلطاني : وأذا بحث القارئ عن الصورة الشعرية، كصورة شعرية أو بلاغة الجملة الشعرية أو الوحدة العضوية، قلت غير ذلك في قصيدة عواد، لأنها تعتمد شيئا مختلفا عن ذلك، ويمكن أن نطلق عليه القصيدة المشهد.
ولكن ماهي القصيدة المشهد وماهي عناصرها؟
منذ أكثر من أربعين عاما عرفت عواد، قبل أن ينشر قصيدته الأولى في (الفكر الجديد)، والإنطباع الجوهري الذي تكون عندي في ذلك الوقت، أن العناصر الاساسية التي ميزت قصيدة عواد ماتزال هي، هي بمعنى لايمكن أن تتحدث عن مراحل وقفزات.
فمن يقرأ القصائد الأولى والأخيرة يستطيع في إعتقادي أن يتعرف بسهولة على صاحبها، ما أريد ان أقوله ان القصيدة نمت وتطورت بالتاكيد لديه، لكن مادتها ماتزال كما هي مسكونة بالناس، في مشهدية متحركة ليس فيها لقطات سكونهم، ولكن في تحولاتهم من حال الى حال، بمعنى أخر أنهم عابرون ما يمكن تسميته بجمالية العبور، كملمح أساسي، في قصيدة عواد وهي عنصر مهم في تشكيل المشهد الشعري عنده. كل شيء عابر: المارة يعبرون، والقصيدة ضائعة ربما تكن مرمية على قارعة الطريق وربما أقرب الى الشاعر من أصابعه، لكنها مع ذلك ليست هناك، أو لا يراها الشاعر، من شدة قربها اليه.
أنه سر اللعبة الأبدية، شيء ما، دائما، يمضي في قصيدة عواد، وأكثر ما يمضي هم الناس.
وأشار الى أن كتب أحد النقاد، وهوعلي فواز، متناولا مختارات عواد (أحاديث المارة ) عن شعرية التفاصيل، ولكني لا أجد أن هذا المصطلح، الذي أرتبط كما هو معروف بسعدي يوسف، ينطبق على قصيدة عواد، ما أراه أنها قصيدة مشهد بمعنى مراكمة التفاصيل والتفاصيل، هنا لاتتعلق بالإشياء وإنما بتفاصيل صبوات الناس.
في الوطن وهم الأب والأم والأخت والأصدقاء والجنود والقتلى والعمال، والبنات طبعا.
من النادر أن نجد في قصائد زملاء عواد، كل هذا الحشد من الناس وحتى بإسمائهم، وفي المنفى وسوريا ولندن تحتشد قصيدة عواد أيضا بالناس، الناس المهمشين أيضا الذين يكتظون في البارات والمقاهي فيتحولون الى موضوع شعري والنساء طبعا.
وهذه هي السمة الرئيسية التي نلاحظها منذ الاربعبينيات عند شعراء مدرسة نيويورك ، القطع داخل القصيدة والربط بين أجزائها حين ننظر اليها ككل. بالضبط كما ننظر للعالم فنراه أجزاء مبعثرة، مفككة ولكن حين ننظر اليه ككل نرى كم اجزاءه مترابطة في الحقيقة، وكيف أن كل جزء له علاقة عضوية بالجزء الاخر.

وشدد: لاأريد أن أقول، أن عواد منذ ذلك الوقت المبكر، قد تأثر بذلك، ولا نوي مرة أخرى المقارنة وإنما أجد أن شعرية المشهد، وليست شعرية التفاصيل هي ما ينطبق على قصيدة عواد، وفي هذه ، القصيدة المشهد، تتراجع البلاغة فالبلاغة تلغي القصيدة المشهد، وتأخذها الى مسار أخر. منذ قصائد عواد الاولى، لا نجد بلاغة شعرية، أوجملا تقود الى أخرى. وأعتقد أن أغلبنا ومنهم أنا قد وقعنا في مطب البلاغة، ليست لأن شاعرية هذا تقل أو تزيد عن شعرية ذاك، وأنما بسبب طبيعة توجه كل شاعر وطبيعة تكوينه الفكري والنفسي ورؤيته لواقعه وعالمه.
وقصيدة المشهد لا تسمح أيضا بسبب تعاملها مع الموضوع وليس مع الذات أو ما يسميه أليوت، بالمعادل الموضوعي بالتعالي.
شعرية المشهد
وأكد السلطاني : من هنا نجد أن قصيدة عواد قصيدة غير متعالية، ولا يمكن أن نقول عنها قصيدة مثقفة، حسب تعبير البعض، وهي في حقيقة الأمر قصيدة متعالية تلجأ الى الافكار اكثر ما تلجأ الى الواقع الحسي، كما لا يمكن أن نقول عنها أنها قصيدة رؤيا تقوم في اللاواقع والمدهش والماوراء .عواد بعيد عن ذلك وقلما نراه يلجأ الى الأسطورة مثلا، وهذا ما نلجأ اليه، في قصائدنا الاولى أو الى القناع يسقطه على الواقع بل يذهب الى الواقع مباشرا وينهل منه مادته. وليست هذه المادة سوى الناس وليس الأشياء، بشكل عام طبعا، ويترتب على القصيدة المشهد، بالاضافة الى المضمون، نتائج على مستوى الشكل أذا فصلنا بين الأثنين لغرض مدرسي، أذ تتيح حرية واسعة في إختيار الشكل والإنتقال السلس بين شكل وأخر حتى في داخل القصيدة الواحدة. وتعود اللغة لتصبح إشارة، بعدما طالب الحداثيون أن تكون اللغة قيمة جمالية بحد ذاتها، عنصرا بحد ذاتها ، وليس إشارة الى شيء.

السخرية في القصيدة

وقال السلطاني : العنصر الأخر في شعر عواد، وهو عنصر السخرية، وهو نادر في الشعر العراقي، وحتى في الشعر العربي ، أذا استثنينا أمل دنقل، وهذا العنصر حاضر في كثير من قصائد عواد، أحيانا يحضر كتعليق يعترض مسار القصيدة، فيخفف من فجائعية الحدث، أو يجعلنا نسخر من ظاهرة أو حالة ما، وحتى من الشاعر نفسه ومن أنفسنا أيضا، وتوظيف السخرية في الأدب، وفي الشعر بشكل خاص، خطر جدا فقد لا يضيف شيئا جوهريا للقصيدة حين يتحول الى تعليق خارجي، أي ليس ضمن النمو العضوي للقصيدة، وقد يكون عنصرا أساسا في بنيتها، وعواد يلجأ الى ذلك، وهذا عنصر مهم في القصيدة المشهد ، فيما يشبه التغريب في المسرح، أي عدم إدماج المتلقي في الجو الانفعالي.

صوت الشاعر
ثم قرأ الشاعر عددا من قصائده ، عكست نماذج مختلفة من تجربته الشعرية التي ناهزت أربعة عقود مؤكدا نبرته الواضحة والمتميزة عن مجايليه من جيل السبعينيات. وفيها لامس الطفولة في إبنته (تمارا) التي أكملت عامها الثامن عشر في 30 ايلول الماضي، ولكن دون أن ينسى مرارة وطنه :

(الليلة تكتملينْ:
الشعَرُ الأسودُ يزداد سواداً
مثل بلاد أبيكِ
ولم يبق لأطفال المنفى، مثلكِ، ساقيةٌ في لندن
تنبعُ من جدّتِكِ الحاجة أم عواد
وصار الشِقُّ وسيعاً
بين بلادٍ واسعةٍ
وبلادٍ ضيقةٍ أحكمَ قبضته فيها الجلادْ
لكن تمارا تتماهى مع غربة هذا الأبِّ الحائرِ
تسأله: بابا، خذني إلى بغدادْ).

وفي قصيدة (خيطُ حِسب الشيخ جعفر) ينطلق من مفهموم أن الشعر يبدأ من حيرة الشاعر، وأذ يتبادل عواد ناصر الحيرة مع شاعره حسب الشيخ جعفر في تقليب المواجع، يعلن في النهاية صرخته المكتومة،وهي الحقيقة المرة التي يعلنها للملأ.
خيطُهُ لم يزلْ ينصلُ، الآن، بينَ أصابِعِه،
طَرَفُ الخيطِ ضاعْ..
أينِ رأسُ الشليلةْ؟
سندورُ كثيراً ونضربُ في الأرضِ
والأرضُ جدّ قليلةْ......

وفي حالة الشعراء، قصيدة ليس فيها كشف حساب، بل هي إعلان إتهام للذين يأخذون من الشعراء برائتهم وإنسايتهم. والشاعر لا يبحث عن جواب لإسئلته أكثر، ما يريد ان يحاول ان يخلل واقع صلد كالصخر.
لماذا يكتبُ بعضُ الشعراءِ تقاريرَ/ وشاياتٍ بالبعض من الشعراءِ؟
لماذا يختارُ الشعراءُ السكنى في قلبِ الإعصار خلافاً للبعض من الشعراءِ؟
لماذا يحسو الشعراءُ قراحَ الماءِ؟
لماذا لا يسألنا أحدٌ: ما فائدةُ الشعراءِ؟
لماذا لا يحترمُ الشعراءُ قصائدَهم كالشعراءِ؟
لماذا يبتعدُ الناسُ عن الشعراءِ؟
لماذا يبتعدُ الشعراءُ عن الناسِ؟

وفي أحوالُ الشّاعرِ، لا يبتعد عواد كثيرا عن البوح في رسم تشكيلات لونية تتوسل معرفة أي الحالات هو الشاعر، وما هو هذا الشاعر في حالاته المختلفة. وينشد (في الشّاعرُ) في حالةِ حُلمٍ
(تأتينَ..
أوقدُ شمعةً زرقاءَ (لون البحرِ تحديداً) وأوقدُ موقداً فحْماً، وهذا الليلُ، في لندنَ، بردٌ كافرٌ.. نُصغي لما ينسابُ من سردٍ (وكانتْ شهرزادٌ تسردُ الحبّ المركبَّ) كورساكوفْ يدخلُ حاملاً كأسينِ من فودكا وموسيقى ويجلسُ لصقَكِ، فأغارُ منهُ، ومازتي شفتاكِ، هل تدرينَ أنّ الشاعرَ، المملوءَ بالأحلامِ، حلمٌ آخرُ؟).

وبعد الأمسية، اثار زبائن المقهى عددا من الملاحظات والنقاشات مع الشاعر، وتمنى البعض ومنهم الفنان التشكيلي ساطع هاشم أن ترافق الشعر الموسيقى، وأن يرسم مع زملائه التشكيليين من وحي القصائد التي قدمها في الأمسية.
الإحتفاء بالشاعر إستمر طويلا، ولم يرغب الزبائن بالمغادرة، ألا بعد أن أخذوا العديد من الصور التذكارية معه، كأنما يريدون أن يقفوا الزمن عند زمن هذه الأمسية.