ادب وفن

نوري الراوي.. الفنان الشامل..!* / يوسف العاني

أتقدم بالتعازي الحارة الى أسرة الراحل العزيز نوري الراوي والى فنانينا التشكيليين والفنانين العراقيين كافة والشعب العراقي بوفاة فنان العراق كله نوري الراوي: الرسام والباحث والموثق والأمين على الإرث العراقي والحافظ له والمعتز به حتى آخر يوم من حياته..
وداعاً يا رفيق وصديق عمري.. وسلاماً عليك ورحمة، فأنت معنا قامة لا تغيب ولا تضاهى..
نوري العزيز، اليوم في جلسة الوفاء هذه التي تقام بمبادرة من "منتدى الثلاثاء" الثقافي في عمان سنتحدث عن جوانب لا بد وان نستذكُرها عنك باعتزاز وفخر.. لكنني وبمعرفتي المباشرة سأتحدث عن جوانب ابداعية كنتُ قريباً منها ومطَّلعاً عليها.. وكنتَ انتَ مضيئاً فيها ومبتكراً لها.. ولم يسبقْكَ فيها أحد من قبل لا في العراق ولا في بلد آخر..
عام 1956 كنا مجموعة من شباب تهوى السينما وتتابع تطوراتها وكانت ممارساتنا للنشاط المسرحي عاملاً للاندفاع الواعي من اجل ان نقدم في العراق سينما تنبع من عمق الانسان العراقي وحياته شكلاً ومضموناً. وكان الوسط الثقافي الذي نحن فيه يؤكد ذلك ويحمسنا له.
كان نوري الراوي واحداً من هذه المجموعة التي تعيش الحلم.. لكن ثلاثة منهم توفروا على ممارسة النقد السينمائي الجاد: يوسف العاني، سامي عبدالحميد، نوري الراوي.
نختار الافلام التي نشاهدها اسبوعياً ونكتب عنها.. كل واحد في جريدة. انا في جريدة "الاهالي" ثم في "الاخبار"، سامي عبدالحميد في جريدة "البلاد" ونوري الراوي في جريدة "الزمان"، كل واحد منا يكتب نقداً عن فيلمين رئيسيين ينشران في الجريدة التي يعمل فيها.. ويقدم نقداً موجزاً الى الجريدة الأخرى التي يعمل فيها زميله. كذلك يفعل زميلاه معه..! لتكون في هذه الجرائد صفحة لاغلب الافلام المعروضة في ذلك الاسبوع. وكانت المجلات الأجنبية التي تصل العراق تضم نقداً سينمائياً مصادر عن بعض الافلام التي نشاهدها في بغداد. وفي حالة جه?نا للغة الجريدة، الفرنسية مثلا، يترجمها من يجيدها، صلاح خالص او وليد صفوت.. اما المجلة الايطالية "تامبو" فيترجمها لنا ابراهيم كبة، وهكذا.
في ذلك الوقت تبلورت عندنا فكرة انتاج فيلم اسميناه في ما بعد "سعيد افندي" عن قصة لادمون صبري، حيث تشكلت شركة للإنتاج مديرها عبدالكريم هادي الحميد رئيس الفرقة الشعبية، وكامران حسني المخرج - وقمت انا بكتابة السيناريو والحوار، وأسند لي تمثيل الدور- الرئيسي سعيد افندي.
وكان المرحوم نوري الراوي، مرافقاً لكل الخطوات ومطلعاً على مراحل التحضير بل مشاركاً في اختيار اماكن التصوير، وكانت كلها خارج الاستديو. فالبحث عن "الأصالة" والتعبير عن الجو البغدادي والحياة العراقية المعبرة هو المرتكز الذي يتكئ عليه المضمون، والشكل الفني. كان لنوري الرأي والتأثير في الاختيار.
وبدأ العمل، ونوري معنا في كل شيء. يعاون المخرج اذا احتاج لأمر يتعلق بالصورة العامة ويهرع لتنظيم المنظر اذا احتاج الى جمالية تعمق الشكل. وتبرز حاجة، لا بد من كاميرا يتم تثبيت كل مشهد وكل لقطة من خلالها، لكي تضبط استمرارية المشهد ويتم الارتباط بين اللقطات والمشهد، وكل مشهد وما كان قبله والمشهد الذي يأتي بعده. ولم تكن امكانية الانتاج قادرة على الحصول عليها.
تقدم نوري بكل ثقة، وقال: انا ارسم كل منظر ولقطة وحركة. قالوا له: ليس لدينا كاميرا، قال: لا احتاج الكاميرا! انا ارسم كل مشهد بكل تفاصيله والحركة التي فيه، بشرط ان لا يخرج من (الكادر) احد او شيء ما، الا بعد رسم تخطيط المشهد!
وبتجربة تطبيقية لهذا التصور، صار نوري الراوي رحمه الله- هو تلك الكاميرا المطلوبة، ولكل المشاهد. وتجمعت لديه "اللوحات" التشكيلية النادرة لفيلم "سعيد افندي". واتفقت معه ان تجمع هذه اللوحات المرسومة من قبله ذات يوم، ليقام منها معرض غريب، بين الفن التشكيلي والفن السينمائي. لكن الظروف التي مرت بنا ومررنا بها، لم تحقق لنا ذلك. وربما نستطيع ذات يوم، اذا ما حصلنا على تلك اللوحات.
* * *
في الختام أقتبس فقرة من كلمة كتبها عني بعنوان "الشغف" يقول في آخر سطورها بلغته الشعرية البليغة:
"فاذا كان لي ان اصنع ما يشبه "المونتاج" لمشاهدة ذلك الحلم الكبير، فإنما لأضع الفنان في دائرة الضوء منه. فكم من الحالمين منا من ظل يبحث عن ضوء ينير له اعماق هذه الشخصية الفذة التي رسمت خطاً منيراً في لوحة المسرح العراقي. غير ان احداً منا لا يستطيع ذلك الا اذا اقتسم معها رغيف خبز الحياة.. أصحيح يا يوسف؟.."
واليوم اقول له:
- صحيح يا نوري..!
عمان
24/ 5/ 2014
ــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت بعد ايام من رحيل الفنان نوري الراوي في 13 آيار 2014 وننشرها اليوم بمناسبة مرور 6 اشهر على ذلك.